بلومبرغ
تبدو على الصين أعراض ركود كتلك التي تعانيها اليابان، ومن ذلك تراجع أسعار العقارات وانخفاض الصادرات. لكن قطاعَي الخدمات وتصنيع التقنيات المتقدمة يشهدان ازدهاراً في الوقت ذاته.
يجعل هذا الانفصام الاقتصاديين المقربين من الحكومة والمسؤولين عن رسم السياسات في بكين على طرفي نقيض بشأن ما إذا كان الاقتصاد بحاجة إلى مزيد من الدعم، ويُرجَّح أن تؤدي التجاذبات بينهم إلى إبقاء النمو دون المستوى الذي من شأنه أن يبلغه.
كانت بداية العام مبشرة، إذ رفعت البلاد قيوداً صارمة كانت فرضتها في أواخر 2022 بسبب فيروس كورونا، ما أدى إلى تعافٍ سريع في إنفاق المستهلكين وتحسُّنٍ في سوق العقارات الضخمة. لكن تلك الطفرة لم تستمر طويلاً، فقد أظهرت إحصاءات رسمية في يوليو أن الناتج المحلي الإجمالي نما 0.8% فقط في الربع الثاني مقارنة بالأول. تشير بيانات أخرى إلى أن التباطؤ امتد حتى يوليو.
ليس ثاني أكبر اقتصاد في العالم في خطر الإنزلاق نحو الركود، فحتى النمو الضعيف في الربع الثاني يعادل نموّاً يبلغ 3.2% على أساس سنوي، ويتفوق بذلك على نسبة 2.4% التي سجلتها الولايات المتحدة للفترة نفسها. مع ذلك كانت الأرقام محبطة لأن التوقعات التي نشرتها بنوك استثمارية في وقت سابق من العام أشارت إلى تخطي معدل النمو السنوي 6%.
قطاع العقارات يتراجع
أحد أسباب خيبة التوقعات أن تراجع قطاع العقارات عاد مجدداً في الربع الثاني من 2023. كان القطاع شهد تراجعاً في 2021 رداً على خطوات اتخذتها الحكومة بهدف كبح المخاطر المالية والديون. تراجعت مبيعات المنازل 18% في يونيو مقارنة بما كانت عليه قبل عام، فيما تراجع بناء المساكن 10%.
تلك قوة معاكسة كبيرة في وجه النمو، لأن قطاع العقارات والأنشطة المرتبطة به مثل إنتاج الصلب ومفروشات المنازل، يمثل نحو خُمس الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. قلص التراجع الكبير في الصادرات الصينية إلى أوروبا والولايات المتحدة أيضاً نسبة النمو في الربع الثاني. على الجانب المشرق، شهد قطاع الخدمات ارتفاعاً، إذ قفز الإنفاق في المقاهي والمطاعم بأكثر من 20% مقارنة بالفترة نفسها قبل عام، كما ارتفعت أعداد رحلات الطيران إلى مستويات أعلى مما كانت عليه قبل الجائحة.
كانت كل المرات التي تعافت فيها الصين اقتصادياً على مدى عقدين مدفوعةً جزئياً بازدهار في بناء المساكن، لكن الأمر مختلف هذه المرة. يفسر هذا الانحراف عن المسار سبب تراجع الثقة في أوساط كل من الشركات والمستهلكين، إذ يصعب الاقتناع بأن الاقتصاد قوي فيما يستمر ركود سوق الإسكان، لأن التجربة تقول إن ذلك علامة على ضائقة اقتصادية.
غياب الثقة هذا، الذي يعكس أيضاً نتائج سنوات ما لا يمكن التنبؤ به من الإغلاقات بسبب الجائحة والتشديد التنظيمي على الشركات، يدفع الأسر إلى الادّخاز بمستويات تفوق ما كانت عليه قبل الجائحة، كما أنّ عديداً من الشركات يُحجِم عن الاستثمار.
تشابه مع اليابان
يدفع هذا الموقف غير المعتاد الاقتصاديين إلى البحث عن مقارنات مع دول أخرى. كانت أوجه الشبه مع اليابان في التسعينيات موضع اهتمام كبير لديهم، إذ انفجرت فقاعة عقارية دفعت بتلك البلاد نحو وهن في نمو اقتصادها لسنوات.
كما تكشف بيانات الأسعار عن ملامح تشابه مع اليابان. فقد تَحوَّل معامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي في الصين، وهو أعرض مقاييس التضخم، ليصبح سلبياً في الربع الثاني من 2023، وهي ثالث مرة فقط يحدث فيها ذلك خلال هذا القرن. تبيّن تجربة اليابان أن انكماش الأسعار قد يؤدي إلى تراجع طلب المستهلكين، كما يثني عن الاستثمار عبر رفع تكاليف خدمة القروض على الشركات.
لكن إلقاء نظرة من كثب يكشف أن الفوارق توازي أوجه التشابه مع اليابان. على سبيل المثال، يزدهر عدد من القطاعات الصينية الضخمة، ومنها قطاعات السيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة المتجددة والقطارات السريعة، ويرجع الفضل في ذلك بنسبة كبيرة إلى الدعم الحكومي. شهدت كل هذه القطاعات نمو الإنتاج بنسب تفوق 10 بالمئة في النصف الأول من العام، كما ارتفع أيضاً الاستثمار في المصانع والصادرات.
السؤال هو ما إذا كان هذا الاقتصاد، الذي يسير بسرعتين متفاوتتين، مستداماً. تنطوي الرؤية المتفائلة، التي يدفع بها بعض الاقتصاديين ذوي الارتباط بالحكومة، على أنّ قوة ما يسمى بقطاعات الاقتصاد الجديدة يمكنها تعويض تراجع قطاع العقارات. أما الرؤية المتشائمة فهي أنّ سوق الإسكان الضعيفة ستخفض معدلات الاستهلاك فيها، إلا إذا تدخلت الحكومة عبر التحفيز. وقد اكتسبت هذه النظرية قوةً بعدما تباطأ نمو إنفاق المستهلكين في يوليو.
تقليص توقعات النمو
يقلّص الاقتصاديون في وول ستريت توقعاتهم للنمو في الصين لعام 2023 إلى ما يداني المستهدف الرسمي لبكين البالغ نحو 5%.
سيوحي الاكتفاء بتحقيق مستوى النمو المستهدف فقط بأنّ الرئيس شي جين بينغ ومساعديه في السياسة الاقتصادية رضخوا لفكرة أنّ انقضاء طفرة العقارات سيضع الصين على مسار نمو أكثر انخفاضاً مما كان عليه قبل الجائحة. يتناقض ذلك مع الولايات المتحدة، حيث دفع التحفيز النقدي الهائل البلاد إلى مسار نمو أعلى، رغم أنّ مدى استمرار هذا لا يزال سؤالاً بلا إجابة.
يحضّ مسؤولون سابقون واقتصاديون على صلة بالحكومة على تسريع الإنفاق الحكومي، وذلك لتعزيز دخل الأسر ومبيعات العقارات، ويحتجون بأنّ الحكومة المركزية لديها مساحة للاقتراض بأسعار فائدة منخفضة نسبياً، وذلك جزئياً بسبب أنّ الصين، على العكس من بقية العالم، لا تعاني التضخم المرتفع. كما أن للتيسير النقدي مساحة، إذ خفض البنك المركزي في الصين أسعار الفائدة قليلاً مرةً واحدةً فقط هذا العام.
لم يكن لهذه الحجج تأثير يُذكَر، وفقاً لمايكل هيرسن، الملحق السابق لوزارة الخزانة الأميركية في بكين، الذي يقول إنّ المناشدات بتقديم تحفيزات ضخمة "ليست صائبة سياسياً". دعا الرئيس الصيني شي تكراراً إلى "نموّ عالي الجودة"، موحياً بأنّه لا بد للبلاد من أن تضع حدّاً لاعتمادها على سوق العقارات محفزاً رئيسيّاً لنموّ الاقتصاد.
سياسة مغايرة
رغم ذلك ظهرت أخيراً علامات على أنّ الحسابات السياسية ربما بدأت تتغير. خلال اجتماع في منتصف العام، وعد الرئيس شي والمكتب السياسي في الصين بسياسة "معاكسة لاتجاه الدورة الاقتصادية"للمرة الأولى منذ 2019، بما في ذلك وتيرة متسارعة للإنفاق على البنية التحتية. بدأت أيضاً إحدى الحملات لتوفير الدعم للقطاع الخاص، تتبلور على أرض الواقع، إذ يعقد مسؤولون من كل المستويات اجتماعات مع المسؤولين التنفيذيين في الشركات ويطلبون منهم اقتراح سياسات.
رغم ذلك يقول بعض الاقتصاديين إنه لا يُرجَّح أن ترفع بكين معدل النمو عن المستوى المستهدف، بسبب اعتبارات فكرية وسياسية، وذلك جزئياً بسبب مخاوف من تمكين الاعتماد على الرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى أنّ الحكومة المركزية في الصين صغيرة نسبيّاً، ما يعني أنّ الدعم المالي لا بد أن يمر عبر الحكومات المحلية.
تتفاوض بكين مع عديد من المقاطعات حول كيفية إعادة هيكلة ديونها التي تراكمت في السنوات الماضية، ولا يُرجَّح أن تحبّذ الحكومة تقديم دعم نقدي للمقاطعات في أثناء تلك العملية. قال كارلوس كازانوفا، كبير اقتصاديي آسيا لدى "يونيون بانكير بريفيه" (Union Bancaire Privee): "كما يحب الاقتصاديون أن يقولوا، لا شيء بلا مقابل، لذا لا تزال حول الثمن مناقشات".