بلومبرغ
تواجه إسبانيا جفافاً مستمراً منذ أكثر من عام خفض منسوب المياه في السدود إلى أدنى متوسط مستوياته التاريخية، ما دفع المسؤولين المحليين لأن يطالبوا السكان بالامتناع عن ريّ حدائقهم وعدم استخدام الصنابير مساءاً كي يحصلوا على الماء خلال النهار. لقد كان وقع هذه الأزمة حاداً على المزارعين بشكل خاص، فمنطقة كاستيا لا منتشا في وسط البلاد التي تنتج ربع إجمالي كمية الحبوب في إسبانيا قد تخسر ما بين 80% إلى 90% من محاصيلها هذا العام، فيما تلوح في الأفق قيود على استهلاك المياه.
لكن في مدينة تالافيرا دي لا رينا الصغيرة الواقعة وسط حقول القمح والشعير الذهبية، تخطط "ميتا بلاتفورمز" لإنشاء مركز بيانات بتكلفة مليار يورو (1.1 مليار دولار)، وتتوقع الشركة أن تستهلك هذه المنشأة ما يصل إلى 665 مليون ليتر من الماء سنوياً، وما يصل إلى 195 ليتراً في الثانية خلال فترات "ذروة تدفق المياه"، حسب تقرير تقني. وبعد الحماسة التي أثارها المشروع بما أنه سيسهم في خلق ألف فرصة عمل بالإجمال- 250 منها وظائف دائمة - بات يُنظر إليه الآن بعين الشكّ في ظلّ مخاوف بشأن شحّ المياه.
قالت أورورا غوميز، المتحدثة باسم مجموعة "تو نوبي سيكا مي ريو" (Tu Nube Seca Mi Río) وتعني "سحاباتكم تجفف نهري" التي تأسست لمناهضة المشروع: "لا يدرك الناس أن (السحابة) حقيقية، وهي جزء من نظام بيئي يستهلك كمّاً كبيراً من الموارد... لا يدرك الناس كمية المياه المستهلكة ليتمكنّوا من مشاهدة ميمز عن الهررة مثلاً".
هل يمكن للعالم العيش بكميات مياه أقل؟
الجانب الملموس للإنترنت
عادةً ما ننظر إلى الإنترنت على أنها أمر غير ملموس، إلا أن المواقع الإلكترونية موجودة فعلاً في العالم الحقيقي على شكل صفوف من الخوادم التي لا تنطفئ قطّ من أجل تغذية مراكز البيانات، ويتعين تبريدها باستمرار للحيلولة دون وقوع أعطال. يستخدم مشغّلون مثل "أمازون" و"غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" مجموعة واسعة من الأنظمة من أجل ذلك، حيث تعمل أكثر تلك الأنظمة كفاءةً لناحية الطاقة، مثل أبراج التبريد، عبر تبخير المياه لتبريد الهواء في المباني.
في ظلّ موجات الجفاف التي تضرب العالم، بدأت تنشب نزاعات على المياه بين مشغّلي مراكز البيانات والمجتمعات المحلية القريبة منها في دول مثل تشيلي وأوروغواي، وفي جنوب غرب الولايات المتحدة. ثار غضب السكان في شمال هولندا العام الماضي بعدما كشفت وسيلة إعلام محلية أن أحد مجمّعات مراكز البيانات التابعة لـ"مايكروسوفت" تستهلك أربعة أضعاف كمية المياه التي صرحت عنها الشركة.
كانت بعض الدول الأبرد والتي تمتلك موارد مائية أكبر في شمال أوروبا، مثل إيرلندا وهولندا قد حظرت إنشاء مراكز بيانات جديدة بسبب القلق حيال استهلاكها للطاقة، ما دفع الشركات للبحث عن مواقع أبعد. فبدأ مشغّلو مراكز البيانات الضخمة التي تضمّ أكثر من 5 آلاف خادم في الانتقال إلى أماكن غنية بالمياه مثل النرويج، ولكن أيضاً إلى دول يتهددها الجفاف مثل إيطاليا وإسبانيا حيث الطاقة أرخص ثمناً، وحيث أصبحت درجات الحرارة المرتفعة جداً الطبيعة السائدة هناك.
محدودية المعلومات
فيما يخضع استهلاك مراكز البيانات للكهرباء إلى رقابة مشددة، لا يعرف كثير من الناس مستوى استهلاكها للمياه، حتى أن الشركات التقنية نفسها ربما لا تعرف كمية المياه التي تستهلكها. وكان استبيان من شركة "أبتايم إنستيتيوت" (Uptime Institute) الاستشارية قد وجد أن 39% فقط من مراكز البيانات ترصد أصلاً كمية المياه التي تستهلكها، بانخفاض نسبته 12 نقطة مئوية عن عام 2021. وكانت شركات التقنية قد رفضت في الماضي الكشف عن استهلاك المياه والكهرباء في كلّ مركز على حدة، زاعمة أن هذه البيانات أسرار تجارية.
لكن خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت "غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" تنشر إجمالي استهلاكها للمياه على امتداد عملياتها، إلا أنها لا تنشر الأرقام الخاصة بكلّ وحدة أعمال على حدة، كما لا تستخدم معايير قياس موحدة. وبحسب تقديرات شركة "بلوفيلد ريسيرتش" (Bluefield Research)، فإن مراكز البيانات تستهلك أكثر من مليار ليتر من الماء في اليوم، بما يشمل المياه المستخدمة في توليد الطاقة.
بدأت الحكومات المطالبة بتزويدها بمزيد من المعلومات. فابتداءً من مارس 2024، ستلزم المفوضية الأوروبية المشغّلين بالإفصاح علناً عن بيانات واسعة النطاق حول استخدامها للطاقة والمياه. في المملكة المتحدة، بدأ مرفق "تيمز ووتر" (Thames Water) التحقيق بكمية المياه التي تستخدمها مراكز البيانات في لندن، وقد تجري تعديلات على نموذج التسعير المعتمد للمؤسسات التي تظهر التحقيقات أنها تستهلك كميات كبيرة من الماء.
قال رئيس فريق التحقيق جون هيرنون إن تحديد أي من العملاء الذين يستهلكون كميات ضخمة من الماء مثل مراكز البيانات ليس سهلاً، فغالباً ما يستخدم المشغّلون شركات وهمية لتقديم طلبات الحصول على إذن التخطيط، حيث يمكن لمركز البيانات أن يبدو مثل أي مخزن أو مصنع كبير من الخارج.
التغير المناخي يحيل أنهار العالم أحواضاً موحلة
البيانات تزاحم الزراعة
يرى أرمان شهابي، الباحث في مختبر "لورنس بيركلي" الوطني في جامعة كاليفورنيا، المعروف بورقته البحثية الرائدة حول استهلاك الطاقة في مراكز البيانات أن هذه المنشآت قد تتسبب بشحّ المياه مع اشتداد الجفاف وامتداده لفترات أطول. بحسب رأيه، يعود جزء من المشكلة إلى كون مشغّلي مراكز البيانات "عادةً آخر من يجلس إلى الطاولة لطرح السؤال عليهم"، فيزيدون الضغط على الشبكة من خلال المطالبة بالاستفادة من إمدادات المياه الشحيحة بعد أن تكون المصالح الزراعية والمجتمعات المحلية قد وضعت الخطط للاستفادة منها. وقال "سيشعر الجميع بوقع ذلك".
تقول الشركات إن مراكز البيانات تزداد كفاءة لناحية استهلاك الطاقة، إلا أن تأثير زيادة الطلب الإجمالي على القوة الحاسوبية يتفوّق على المكاسب الناجمة عن هذا التحسّن. مثلاً، أدّى السباق على صنع نماذج لغوية مثل تلك المستخدمة في الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى ارتفاع كبير في الطلب على مزيد من المعالجات القوية. فالرقائق المتخصصة اللازمة للذكاء الاصطناعي والمعروفة باسم "المسرّعات" تبعث حرارة أعلى بكثير من الرقائق ذات الاستخدامات العامة، ما يدفع مشغّلي مراكز البيانات لإعادة النظر بأنظمة التبريد تماماً، بحسب كولوم شورتن، الخبير في الاستدامة في مراكز البيانات في شركة الاستثمارات العقارية "جي أل أل" (JLL).
أظهرت أبحاث شاولي رين، الأستاذ المساعد في هندسة الكهرباء والكمبيوتر في جامعة كاليفورنيا في ريفرسايد، أن تدريب برنامج "جي بي تي– 3" في مراكز البيانات لدى "مايكروسوفت" في الولايات المتحدة استهلك 700 ألف ليتر من المياه خلال شهر، دون احتساب الاستهلاك غير المباشر للمياه المرتبط بتوليد الكهرباء. وفق حسابات الفريق، فإن كلّ دردشة قصيرة مع "تشات جي بي تي" تتضمّن من عشرين إلى خمسين سؤالاً مع أجوبتها، تستهلك حوالي 500 مليلتر من المياه.
بيّن متحدث باسم "مايكروسوفت" في رسالة عبر البريد الإلكتروني أن الشركة "تستثمر في بحوث تهدف إلى جعل الأنظمة الضخمة أكثر استدامة وكفاءة على صعيدَيْ التدريب والتطبيق... التغير المناخي تحدٍّ حقيقي وملحّ وله تأثير متزايد شديد على أعمالنا ومجتمعاتنا وكلّ الأنظمة البيئية التي نستند إليها". لم تستجب "أوبن إيه آي" لطلب التعليق.
تعويض المياه
قال شورتن إنه ينبغي على مراكز البيانات أن تغيّر مع الوقت طريقة تبديد الحرارة. ويرى أن المعيار الذهبي يتمثّل باتباع تقنية تُعرف بـ"التبريد الغامر"، بحيث تُغمر الخوادم بسائل خاص ينقل الحرارة من الرقائق. ولكن في الوقت الحالي، يفضّل المشغّلون على الأرجح اتباع نموذج هجين، حيث يُبرّد القسم عالي الأداء في مركز البيانات بواسطة السائل، فيما يستمر استخدام مكيفات الهواء في بقية الأقسام.
قدمت كلّ من "خدمات أمازون ويب" و"غوغل" و"مايكروسوفت" التزامات بحفظ المياه، متعهدة باستخدام مزيد من المياه غير الصالحة للشرب والمياه المعاد تدويرها وتعويض كميات إضافية من المياه المستهلكة في عملياتها بحلول 2030. إلا أن هذا التعهد أشبه بتعويض انبعاثات الكربون عبر زرع الأشجار، وهو حلّ قد يبدو جيداً على الورق، لكنه على الأرجح لن يفيد مباشرةً المجتمعات المتأثرة بمراكز البيانات بما أنه لا يمكن تعويض المياه إلا في الأماكن التي يسهل فيها ذلك.
بالعودة إلى إسبانيا، تعهدت "ميتا" "بتعويض كميات مياه أكبر من تلك المستهلكة في منشأتها من خلال مشاريع تعويض مائية جوفية، لكنها لم تعلن بعد عمَّا إذا كانت جهود تعويض المياه تشمل مشروع تالافيرا. فالشركة تقول إنها تعيد تدوير المياه المستخدمة في منشآتها وقد خفّضت مستوى الرطوبة الخاضعة للتحكم في قاعات البيانات، حيث تستخدم أنظمة تبريد مباشرة بتقنية التبخير، فيما تخفّض استهلاكها للمياه بنسبة تتراوح بين 10% و65% على امتداد هذه المرافق.
في حين تدرس السلطات اتخاذ إجراءات مؤقتة مثل تغطية الشوارع المركزية في المدينة بمظلات ضخمة لحماية السكان من أشعة الشمس، شككت غوميز من مجموعة "تو نوبي سيكا مي ريو" في أن يكون لوعود شركات التقنية بالمساعدة تأثير إيجابي على تالافيرا، واعتبرت أن الوعود بتعويض المياه تهدف لخدمة هدفين فقط: "الظهور بصورة جيدة في أعين الرأي العام، وكسب تأييد إحدى الجمعيات البيئية المحلية".