تقليد قديم في إعادة تدوير الصوف يقدم دروساً لصناعة الأزياء

زيادة في الطلب على الملابس المصنوعة من الأقمشة المعاد تدويرها مع نمو الوعي بشأن نفايات المنسوجات

time reading iconدقائق القراءة - 15
خيوط الصوف المعاد تدويرها بعد عملية التنسيل - المصدر: بلومبرغ
خيوط الصوف المعاد تدويرها بعد عملية التنسيل - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

جلس ماريو ميلاني فوق كدسة بطانيات مطوية على أرض مستودع في مدينة براتو الإيطالية. كانت حوله أكوام من السترات الصوفية والأوشحة المهملة، وكان ينزع الأزرار والسحابات وأعمال التطريز ورقع العلامات التجارية عن الملابس ببراعة لتجريد القماش عن كل ما سواه.

تلك الخطوة حاسمة في تحويل الأصواف المستعملة إلى أقمشة جديدة، وهو تقليد يواظب عليه صانعو المنسوجات في المدينة الواقعة في مقاطعة توسكانا منذ منتصف القرن التاسع عشر. قال ميلاني: "بديل كل هذا هو إلقاء الأصواف في القمامة".

أمضى الحرفي الإيطالي البالغ من العمر 94 عاماً، أكثر من ستة عقود يعمل بفرز الملابس المستعملة، وهي مهنة تجعله يُلقَّب محلياً بـ"رجل الملابس الرثّة"، وهذا الاسم لا يعكس افتخار الناس بأمثاله ممن يستطيعون التمييز بين مكونات الأقمشة بمجرد لمسها.

هنالك أكثر من سبعة آلاف شركة يختص كل منها بضرب من ضروب صناعة الملابس والمنسوجات في براتو، التي تلعب إعادة تدوير الصوف دوراً رئيسياً فيها، بما في ذلك شركة "الإخوة ميلاني ساورو وسيموني إي سي" (.F.lli Melani Sauro e Simone & C) العائلية الصغيرة التي يملكها ميلاني.

محفزات إعادة التدوير

عملية تصنيع أقمشة جديدة من الصوف المستعمل في براتو عموماً ما تنطوي على مجموعة خطوات تبدأ بتجريد الملابس يدوياً لتصبح رقعاً قماشية ثم تُنسَّل آلياً. بعدها تُخضَّب الألياف بالألوان للحصول على اللون المطلوب، ثم يأتي دور آلة التمشيط لتفكّ تشابك الألياف وتحاذيها في اتجاه واحد قبل غزلها في خيوط. أخيراً، تخضع الخيوط لاختبارات الجودة قبل أن تحوكها الأنوال لتصبح قماشاً.

تراوحت محفزات إعادة تدوير الصوف الاقتصادية حول العالم تاريخياً بين الاختيار والاضطرار، كما حدث إبان الاضطرابات التي عصفت بتجارة الصوف. لكنَّ المخاوف البيئية هي التي تحفز الطلب على الصوف المعاد تدويره، إذ يبحث المستهلكون عن ملابس مصنوعة بشكل أساسي من ألياف طبيعية معاد استخدامها، بدلاً من المواد الصناعية التي لا يمكن إعادة تدوير كثير منها إلا من خلال عمليات مكلفة ومعقدة تنطوي على استخدام مواد كيماوية.

قالت دالينا وايت، الأمينة العامة للمنظمة الدولية للمنسوجات الصوفية، التي تتحرى مراكز إعادة تدوير الصوف في إيطاليا وألمانيا وتايلندا وباكستان، لكنَّها لا تتعقب كميات الصوف المعاد تدويرها، إنَّ صانعي المنسوجات الذين يمنحون الصوف حياة ثانية لا يمكنهم مواكبة الطلب، وأضافت: "أنَّه توجه متنامٍ في كل مكان".

يمثل الصوف حوالي 1% فقط من الإنتاج العالمي لألياف المنسوجات، بالتالي؛ لا يمكن أن تعوّض إعادة تدوير نفايات الملابس الصوفية الأثر البيئي لصناعة الأزياء العالمية، التي تولد نحو عُشر انبعاثات الكربون العالمية، فضلاً عن إنتاج أكثر من 100 مليار قطعة ملابس سنوياً، أو ما يقرب من 14 قطعة لكل شخص على ظهر الكوكب، فتُرمى عشرات ملايين الألبسة يومياً لإفساح المجال للجديدة.

نموذج يحتذى

يقدّم نهج الشركات التي تعيد تدوير الصوف نموذجاً اقتصادياً دائرياً يمكن اتباعه. على سبيل المثال، اعتمد الاتحاد الأوروبي العام الماضي استراتيجية مستدامةً ودائريةً للمنسوجات في إطار جهوده لمكافحة تغير المناخ. تحدد الاستراتيجية الإجراءات المستقبلية التي سيتخذها الاتحاد، ومنها تحديد متطلبات تيسير إعادة تدوير المنسوجات، وإعطاء المستهلكين معلومات حول المواد الداخلة في صناعة المنتجات، وعمليات التصنيع، وإعادة التدوير عبر ما يسمى جواز السفر الرقمي للمنتجات.

فيما يتعلق باستخدام المواد الخام وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، يحتل استهلاك المنسوجات المركز الرابع من حيث التأثير على البيئة والمناخ في الاتحاد الأوروبي بعد الغذاء والسكن ووسائل المواصلات، وفقاً لبيانات التكتل الأوروبي.

قال ماركو مانتيلاسي، الرئيس التنفيذي المشارك في "مانتيكو" (Manteco)، وهي شركة تصنيع منسوجات عائلية في براتو في ثالث أجيالها: "نحن بحاجة لوائح أشد في القطاع. يجب أن يكون المستهلك النهائي أكثر وعياً بشأن مصدر الملابس".

إنَّ عمالقة صناعة الأزياء مثل "كيرينغ" و"لوي فيتون" من بين مشتري الأقمشة التي تنتجها "مانتيكو" من الصوف المعاد تدويره تحت علامة "إم وول" (MWool). حققت الشركة، التي تصنع أيضاً أقمشة من مواد تشمل الفسكوز والليوسيل والقطن البكر والمعاد تدويره، إيرادات بلغت 97 مليون يورو (104 ملايين دولار) في 2022.

الأثر البيئي

قد تتضمن منتجات "مانتيكو" مواد مثل الصوف الخام والنايلون، سواء من المعاد تدويره أو البكر، اعتماداً على جودة الصوف المستعمل الذي تستخدمه الشركة. تعيد "مانتيكو" أيضاً تدوير قصاصات الأقمشة المهملة خلال قص قطع الألبسة في شركات الملابس من بالات الأقمشة الضخمة.

قال مانتيلاسي إنَّ ضوابط صارمة تعتمدها "مانتيكو" أثناء عملية الإنتاج، بالإضافة إلى الابتكارات التقنية، تسمح لها بتصنيع أقمشة فاخرة من الصوف المعاد تدويره: "الاقتصاد الدائري مهم، لكن إذا لم تقدم منتجاً جيداً للعميل فلن يشتريه".

تقول "مانتيكو" إنَّ إنتاج صوفها المعاد تدويره يخلّف بصمة كربونية أقل بكثير من تصنيع الصوف البكر، فضلاً عن العديد من المنسوجات الأخرى. على سبيل المثال، يُخلف إنتاج كيلوغرام من أصواف "إم وول" 0.62 كيلوغرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون - وهو معيار يستخدم لمقارنة الغازات الدفيئة المختلفة- في حين يولد تصنيع نفس الكمية من صوف الأغنام 75.8 كيلوغرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، بحسب دراسة أعدتها الشركة لتقييم دورة إنتاجها.

بالمثل؛ فإنَّ بصمة كل كيلوغرام من القطن تبلغ 4.69 كيلوغرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، ويخلف إنتاج كيلوغرام بوليتسر 4.31 كيلوغرام منه، بحسب ما توضح الشركة مستشهدةً بإحصاءات مزودة قاعدة بيانات البصمة الكربونية لدورة إنتاج المنسوجات "إيكوينفينت" (Ecoinvent).

معايير الاستدامة

تحديد الخامات الأفضل من الناحية البيئية ليس أمراً بسيطاً، إذ يتعذر مقارنة تأثيرات عمليات الإنتاج وسلاسل التوريد في بعض الأحيان، كما أنَّ قابلية الخامات لإعادة التدوير تشكّل عنصراً واحداً من العناصر التي يتعين مراعاتها عند تقييم الاستدامة.

على سبيل المثال؛ في حين يمكن إعادة تدوير الصوف آلياً، ينفث أكثر من مليار رأس من الأغنام يدخلون في عملية إنتاجه عالمياً غاز الميثان أثناء التجشؤ، وهو أحد الغازات الدفيئة القوية. بينما يمكن أن تخلف المواد الاصطناعية لدائن دقيقة في مياه الغسل- وهي تهدد المخلوقات التي تعيش في المحيطات- بعكس الألياف الطبيعية، فضلاً عن صعوبة إعادة تدويرها.

قال ديل هدسون، نائب الرئيس التنفيذي لتأثيرات السوق في "ورلدلي هولدينغز" (Worldly Holdings)، وهي منصة تقنية تجمع بيانات المواد الخام لصالح الشركات بغية فهم تأثيرات سلاسل التوريد بشكل أفضل، في رسالة عبر البريد الإلكتروني: "إنَّها ليست مقارنة بين عناصر متشابهة". كما بينت "ورلدلي" أنَّه يجب التعامل مع مطالبات الاستدامة بحذر، إذ يمكن أن تفشل في عكس التأثيرات الحقيقية التي لا تترابط بشكل مباشر.

تطوير سلاسل التوريد

بينما تنطوي عملية إعادة تدوير المنسوجات على عبء بيئي أقل مقارنةً بتصنيع خامات جديدة؛ لكنَّ إعادة تشكيل الصوف آلياً تؤدي إلى قصر الخيوط مقارنة بالصوف البكر. الأمر الذي يحد من عدد المرات التي يمكن فيها إعادة تدوير الخامات، وفقاً لجويل ميرتنز، مدير "هيغ برودكت تولز" (Higg Product Tools)، وهي مجموعة تحليلات تستند إلى بيانات العلامات التجارية للمساعدة في تقييم استدامة الملابس والأحذية والمنسوجات، وتعود ملكيتها إلى مؤسسة "تحالف الملابس المستدامة" (Sustainable Apparel Coalition). قال ميرتنز في رسالة عبر البريد الإلكتروني إنَّ إعادة التدوير تطيل عمر الخامات الموجودة، لكنَّها لا تغني عن الحاجة إلى ألياف جديدة بشكل كامل.

يقول حسنين ليلاني، مؤسس شركة "داتيني فايبرز" (Datini Fibers) في كراتشي، التي تبيع خيوط الصوف المعاد تدويرها بعد استخلاصها من الملابس المستعملة وتُجري أبحاثاً حول استدامة الخامات، إنَّ على مصممي الأزياء والعلامات التجارية للملابس أن يتواصلوا بشكل أفضل حول كيفية زيادة دائرية الخامات وسلاسل التوريد.

كانت الشركة قد تأسست قبل عامين بعدما كان ليلاني يعمل تاجراً للمنسوجات، وتعيد حالياً تدوير كميات تتراوح بين 3000 و5000 طن من الملابس الصوفية سنوياً، وتأمل بتوسيع عملياتها لتتمكّن من إعادة تدوير 10000 طن بحلول 2024.

قال ليلاني: "تأتي الحلول المستدامة الحقيقية من منتجي الخامات والقائمين على إعادة التدوير الذين يتعاملون مع المواد الخام والمنتجات في مرحلة ما بعد الاستهلاك. يتعين على علامات الأزياء الاستماع للطرف الآخر من العملية الإنتاجية المتمثل في سلاسل التوريد الأكثر استدامة والاستثمار في تطويرها".

تصنيفات

قصص قد تهمك