سعي المتشددين في إسرائيل لنفوذ سياسي أوسع يثير التوتر

تركيز الأحزاب الحريدية كان منصبّاً على احتياجات ناخبيها الضيقة.. الآن تنخرط في سياسات تؤثر على الجميع

time reading iconدقائق القراءة - 11
رجال يهوديون متشددون يدرسون التوراة في مدرسة \"بونيفيش يشيفا\" في بلدة بني براك - المصدر: بلومبرغ
رجال يهوديون متشددون يدرسون التوراة في مدرسة "بونيفيش يشيفا" في بلدة بني براك - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كانت عبادة الأوثان محوراً رئيسياً لنقاش طلبة مدرسة "بونيفيش يشيفا" في بلدة بني براك شرق تل أبيب، في صبيحة يوم حار من مايو. كان مئات الطلاب يتفكرون إن كان يصح أن تستخدم امرأة يهودية ملتزمة باروكة مصنوعة من شعر قُص في طقوس معبد هندوسي.

من بينهم، كان الثلاثيني إليعازر كرتزنر، وهو أب لخمسة أبناء، طويل اللحية ويستخدم نظّارةً ويقضي أيامه في دراسة التلمود. لم يؤد كرتزنر الخدمة العسكرية، كما لا ينوي أن يتوظف أبداً، ويأمل بأن يسير غيره من الإسرائيليين على هذا النهج. وحسب قوله "إذا كانت الدولة كلها تدرس، لن نكون بحاجة لجيش، فالله سيحمينا".

سمحت الإعانات التي تدفعها حكومة إسرائيل للمتشددين أو الحريديين من الرجال من أمثال كرتزنر على مدى عقود، بالاعتكاف داخل المدارس الدينية مثل هذه المدرسة، حيث تجد قبعات الفيدورا والمعاطف السوداء معلقة خارج قاعات الدراسة. أما في الداخل، فيتمايل رجال ملتحون خلال تعبدّهم مرتدين قمصاناً بيضاء وسراويل وقلنسوات سوداء، فيما تتدلى أطراف شالات الصلاة على خصورهم. وهناك يتطرقون لذات الأسئلة التي تداولها آباؤهم وأجدادهم من قبل.

بعدما أباد النازيون معظمهم، كان الحريديم –وهو مصطلح يعني "المرتجفون أمام الله"– يمثلون أقلية ضئيلة من سكان إسرائيل لدى قيامها في 1948. كان يُتوقع أن يطويهم التاريخ بسرعة، وأن يحل محلهم اليهود الجدد أصحاب الفكر الصهيوني المتّسمين بالقوة والمكتفيين ذاتياً والمهتمين بالأمور الدنيوية.

نقاش وطني مُلِح

قال يوسي بيلين، وزير العدل السابق الذي يبلغ من العمر الآن 75 عاماً: "حين كنت في الثامنة، اصطحبني والدي إلى حي مية شعاريم الذي يجتمع فيه اليهود المتشددون وقال لي: انظر إليهم جيداً، لأنهم لن يكونوا هنا حين تكبر".

يصعب تصور عبارة تفتقر للبصيرة كتلك. فاليوم، يتمحور نقاش وطني مشحون وملّح حول أمثال كرتزنر من الرجال والأولاد، وعديدهم نحو 200 ألف، تساؤلاً عما إذا كان الحريديم -بأسرهم كبيرة العدد وسننهم المناهضة للحداثة- سيدفعون بالدولة المزدهرة لتصبح تلمودية يعمّها فقر مدقع؟

يضم الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف الذي يرأسه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حزبين متشددين كشريكين رئيسيين. حصل الحزبان أخيراً على زيادات ضخمة في الإعانات المخصصة لناخبيهم، فيما ينهش التضخم كثيراً من الإسرائيليين الذين سئموا الإنفاق على رجال لا يعملون.

نتنياهو يتوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة جديدة في إسرائيل

في حديثه عن المتشددين، قال دان بن دافيد، الاقتصادي الذي يرأس معهد شورش للبحوث الاقتصادية والاجتماعية: "هذا هو أشد تهديد لإسرائيل منذ حرب الاستقلال"، وهو التعبير الذي يستخدمه عدد من الإسرائيليين لوصف حرب 1948. ولفت إلى أن "تشبيه ما يحدث بالحرب ليس عبثياً. نحن لا نعلم كيف سينتهي هذا".

يمثل الحريديم 13.5% فقط من تعداد السكان، لكنَّ أعدادهم تنمو بأكثر من ضعفي معدل من سواهم من اليهود الإسرائيليين، رغم تراجع ملحوظ في معدلات الخصوبة في السنوات الـ15 الماضية وسط انضمام مزيد من النساء من الحريديم لقوة العمل. اليوم، هناك واحد من بين كل أربعة أطفال في الصف الأول الابتدائي من اليهود المتشددين، ما يثير تساؤلات كيف سيدعم المجتمع نفسه مستقبلاً بوجود عدد كبير من المواطنين الذين يرفضون العمل المأجور.

دخول المجال السياسي

فيما تجتهد إسرائيل لتتوصل إلى تعريف ماهية الديمقراطية اليهودية، يزداد دور المتشددين. تضم حكومة نتنياهو سبعة وزراء متشددين وهو رقم قياسي. بعدما كانوا يهتمون فقط بالشؤون التي تمسهم، يروِّج المسؤولون المنتخبون من الحريديم الآن لسياسات تمس المجتمع بأكمله، بما في ذلك القيود على سلطات المحكمة العليا، والفصل بين الجنسين بالأماكن العامة والتراجع عن توفير الحماية للمثليين.

في خروج آخر عن التاريخ، يصطف عدد من الشباب المتشددين مع القوميين المتعصبين الذين يرغبون في ضم الضفة الغربية والحد من حقوق المواطنين العرب في إسرائيل إلى جانب أمور أخرى، ويدفعون سياسات قياداتهم في ذلك الاتجاه.

رفض قادة سياسيون ووزراء من الحريديم الرد على طلبات بالتعليق لهذا المقال. وفي تصريحات عامة، نفوا تغيُّر موقفهم.

تجاوزات المتشددين

وصلت التوترات بين المتشددين والعلمانيين من الإسرائيليين إلى أعلى مستوياتها. يرجع ذلك جزئياً إلى كثرة الأخبار في هذه الفترة عن انتشار تجاوزات المتشددين. في بعض الصيدليات ومتاجر البقالة في الأحياء التي تعيش فيها الفئة الملتزمة دينياً، تُخفى ملصقات وجوه النساء على عبوات الشامبو كي لا يستاء الزبائن. كما تُستبعد فتاة تبلغ من العمر 11 عاماً من مباراة حين يلعب فريقها لكرة السلة (الذي يضم عادةً فتية وفتيات) مباراة مع فريق من الفتية المتشددين. وفي حافلة تسلك أحد الطرق في بني براك، تُقصر مقاعد الصف الأخير على جنس دون آخر، رغم وجود قوانين تمنع تلك الممارسة صراحةً.

مطالب سياسية

كجزء من اتفاق التحالف مع حزب الليكود الذي يقوده نتنياهو، ترغب الأحزاب المتشددة بأن تخصص الحكومة مناطق منفصلة للرجال والنساء في المناسبات العامة، وأن تفرض الملابس المحتشمة على النساء عند الحائط الغربي في القدس، وأن تجعل إهانة المتدينين توازي جريمة كراهية. وتذكيراً بفكرة أنه لا يوجد أمر عديم الأهمية في السياسة، سعى المتشددون لتمرير قانون يسمح للمستشفيات بحظر جلب الخبز في ذكرى تحرر بني إسرائيل من العبودية في زمن الفراعنة.

تجنبت الأحزاب تاريخياً إبداء مطالب كهذه، لأنَّ الحاخامات لم يرغبوا بأن يُنظر إليهم أنهم يفرضون أنفسهن على بقية المجتمع. وحسب قول غلعاد ملخ، الباحث في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في القدس: "الآن يقولون: يجب أن تجعلوا الأماكن العامة ملائمة لنا، بدلاً من العكس".

يرد المتشددون بأن الأغلبية العلمانية في إسرائيل كانت راضية لعقود بأن تقدّم الحكومة دعماً سخياً للملاعب الرياضية والمتاحف والجامعات التي لم تطأها أقدام الحريديم، فيما لم تقدم الحريديم سوى رواتب متواضعة للتفرغ للدراسة. كما قال المتشددون إن مدارسهم لم تكن تحصل على تمويل كافٍ.

دفع مسعى الإصلاح القضائي، الذي دعمه المتشددون، عشرات الآلاف من الإسرائيليين العلمانيين إلى التظاهر في الشوارع أسبوعياً لمدة ستة أشهر، وهي أكبر احتجاجات من نوعها في تاريخ البلاد. لكنَّ مطلب المظاهرات بدأ يتوسع ليشمل أجندة المتشددين السياسية بأكملها، خصوصاً بعدما وافقت السلطة التشريعية على ميزاينة في أواخر مايو تمنح مجتمعات المتدينين إنفاقاً حجمه 3.5 مليار دولار على مدى عامين.

تعليق العمل بمطار بن غوريون وسط احتجاجات تعمّ إسرائيل

أثناء المظاهرات التي أضحت طقساً من طقوس أيام السبت في أكبر مدن البلاد، ارتدت آلاف النساء عباءات حمراء وقلنسوات بيضاء كما في رواية البؤس "قصة الخادمة"، وسرن وقد حنين رؤوسهن وعقدن أيديهن تعبيراً عن أن حقوقهن في خطر.

الانضمام لليمين

يقول الحريديم إنَّ العداء ما هو إلا أمر سياسي بحت. ويجادلون أنه لو كانت أحزابهم قد انضمت لأحزاب اليسار والوسط لمنع نتنياهو من تشكيل حكومة بعد الانتخابات في نوفمبر، لأشاد منتقدوهم بهم باعتبارهم أبطالاً. وحسب قول يسرائيل كوهين، وهو معلم وصحفي من الحريديم في بني براك "لقد أرادوا أن نصبح إسرائيليين أكثر وأقل انعزالاً. وقد فعلنا، لكننا أصبحنا النوع الخاطئ من الإسرائيليين بنظرهم. لقد انضممنا لليمين".

بالنسبة لكثبر من الحريديم، الإنعزال ليس هدفاً بل وسيلة لتحقيق غاية، وهي التركيز على ما يهم، وهو حب التوراة والله والمجتمع. هذه هي الطريقة التي يرى بها الزوجان يتزي وأفيغايل أكرمان الأمر. هما ثلاثينيين، ولديهما ستة أطفال يعيشون جميعاً في شقة بسيطة الأثاث في موديعين عيليت، وهي مستوطنة حريدية في الضفة الغربية، في منتصف الطريق ما بين القدس وتل أبيب.

لا تملك الأسرة تلفازاً. ولدى الزوجان هواتف محمولة وجهاز كمبيوتر، لكن وصول الأجهزة للإنترنت محدود. وتزيّن لوحات زيتية لمظاهر الحياة اليهودية في بولندا منذ قرون حائطاً قرب مدخل المنزل، حيث تملأ مئات الكتب الدينية مكتبة ضخمة تبدو وراء أبوابها الزجاجية أحرف كتب بالألوان الأرجواني والأسود والذهبي.

يقول يتزي: "كلما كنت أكثر مادية، كلما ازداد ما يربطك بهذا العالم". ومن جهتها، تضيف أفيغايل: "لا يُفترض أن تكون هذه الحياة مريحة؛ فهي مجرد ممر يوصلك إلى الحياة الآخرة."

لكنَّ شؤون الحياة يصعب تجاهلها. تقع مستوطنة موديعين عيليت، التي تضم 75 ألف ساكن كلهم من المتشددين، داخل حدود الضفة الغربية؛ أي في الأراضي المحتلة؛ وقد تُسلم للسلطات الفلسطينية في اتفاقية سلام أو تُستبدل بأرض في منطقة أخرى من إسرائيل.

رغم أن مذهب الحريديم التقليدي يرفض استيطان أراضٍ محتلة، فإنَّ عدداً متزايداً من اليهود المتشددين أصبحوا جزءاً أساسياً من حركة الاستيطان، ولن يُخرجوا بسهولة باسم السلام. في انتخابات نوفمبر، صوّت نحو 7% من الحريديم لأحزاب مثل التي قادها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهم وزراء من أقصى اليمين في ائتلاف نتنياهو ويرفضون مبدأ الدولة الفلسطينية ويأملون بضم الضفة الغربية.

المعارضة في إسرائيل تتوصل لائتلاف قد يطيح بنتنياهو

نشأ مناحم ستارك، طالب التاريخ اليهودي، 25 عاماً، في أسرة متشددة في القدس بلا تلفاز. حين كان مراهقاً، بدأ ستارك يهتم بالسياسة، وقد أدى الخدمة العسكرية. اليوم، ستارك ناشطٌ للأحزاب المتشددة التي تستلهم نهج مائير كاهانا، وهو حاخام وُلد في أميركا كان يطالب بطرد كل العرب وإنشاء دولة دينية على أسس يهودية. اعتاد كاهانا القول إنَّ الفارق بينه وبين أغلب الصهيونيين هو أنه أراد دولة يهودية، فيما أنهم أرادوا دولة تشبه السويد وتتحدث بالعبرية.

يحب ستارك ذلك التمييز. ويقول: "شعرت بالتناقض حيال تبنّي الصهيونية، بما أنَّ يهوداً علمانيين كانوا وراء تأسيسها. لكن كلما قرأت المزيد، وجدت أنَّ التوراة تتحدث أيضاً عن الأرض. أرى المجتمع العربي هنا عدواً لي، ولدي فكرة صارمة جداً عمن له حق في العيش على أرضنا".

مثله مثل كثير من المتشددين، قال ستارك إنَّ المحكمة العليا أظهرت أنها متحيزة ضد طائفته بحظرها الفصل بين الجنسين في التجمعات السكانية للمتدينين، وإلغاءها قانون يعفي طلبة المدارس الدينية من أداء الخدمة العسكرية، وحمايتها لحقوق العرب.

يرى موشيه هالبيرتال، وهو فيلسوف يهودي بالجامعة العبرية نشأ في أسرة من الحريديم، إنَّه في خضم كل التوترات، يضيع كثيرٌ مما هو جدير بالإعجاب في أسلوب الحياة الحريدية، الذي يبرزه المسلسل التلفزيوني الناجح "شتيسل". ويوضح: "لقد رفضوا المجتمع الاستهلاكي. وكرّسوا أنفسهم للتوراة، ومجتمعاتهم خير نماذج على التضامن. يوجد فقر مدقع دونما جرائم".

وهذه القيّم تتعرض للتهديد وسط زيادة انضمامهم إلى سلطة الدولة؛ تماماً كما تبدو ثروة إسرائيل وأمنها معرضة للخطر، حسب هالبيرتال، ويقول: "هذه لحظة حساب. تُسرِّع تغيراتهم من وتيرة تفكك المجتمع الإسرائيلي".

تصنيفات

قصص قد تهمك