مودعو بنوك لبنان لا يمكنهم سحب ودائعهم إلا سطواً

حرمت أزمة المصارف اللبنانية ملايين المواطنين من سحب المال من حساباتهم فاضطُرّ بعضهم إلى السطو على البنوك

time reading iconدقائق القراءة - 21
ملصقات مرتجلة تظهر حاكم مصرف لبنان وغيره من السياسيين على أنهم مطلوبون للعدالة تغطي الحواجز الاسمنتية عند مدخل مصرف لبنان - المصدر: بلومبرغ
ملصقات مرتجلة تظهر حاكم مصرف لبنان وغيره من السياسيين على أنهم مطلوبون للعدالة تغطي الحواجز الاسمنتية عند مدخل مصرف لبنان - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كانت عائلة حافظ بأمسّ الحاجة إلى استعادة أموالها المُودَعة لدى "بنك لبنان والمهجر"، حيث تحتفظ في حسابها الادخاري بمبلغ 20 ألف دولار، وتحتاج إليه لعلاج ابنتها نانسي من سرطان بالدماغ، لكن المصرف لم يسمح بسحبها. حين تدهورت حالة نانسي الصحية حتى لم تعد قادرة على الاجتماع بمدير الفرع بنفسها كي تقنعه، تولّت أختها سالي المهمة.

توسّلَت سالي إلى مدير الفرع قائلةً: "أرجوك، لم يتبقَّ لأختي كثير من الوقت"، لكنّه لم يُجِز لها إلا سحب مبلغ يوازي 200 دولار شهرياً بالليرة اللبنانية، كأنما يذرّ ملحاً على جرح يوازي حكماً بالإعدام. لم يكن بقية أفراد الأسرة أوفر حظّاً معه، لدرجة أن سالي فكرت في أن تبيع كليتها، لكنها قررت وأختهما الثانية إكرام أن تقتحما المصرف مسلَّحتين بمسدس مزيَّف وعلبة بنزين.

في صباح يوم في سبتمبر، بثّت سالي مباشرةً عملية السطو العائلية. ظهرت الشابة تتجه نحو موظف الصندوق في المصرف ملوّحة بمسدس بلاستيكي استعارته من ابن أختها. راح الموظفون يصرخون ويختبئون، ثم اعتلت سالي طاولة ووضعت المسدس في حزام بنطلونها الجينز الأسود، كأنها اعتادت ذلك.

البلد الذي نفدت من مصارفه النقود

صرخت سالي قائلة: "أنا هنا اليوم لأستعيد أموال أختي"، ولإظهار جدّيتهما، سكبت إكرام البنزين على رأسها وهدّدَت بإشعال نفسها إذا لم يعطهما الموظفون المال. بعد قليل أمسكت بأحد الموظفين من ياقة قميصه فيما راح يُدخِل حفنة من الدولارات الأميركية في آلة عدّ الأموال. وضّبَت الشقيقتان مبلغ 13 ألف دولار داخل حقائبهما، وهو مبلغ كافٍ لبدء علاج نانسي، وفرّتا من المصرف، ثمّ رمتا بالمسدس المزيَّف في الخارج.

ظهرت والدة الفتاتين هيام حافظ على شاشة التليفزيون خلال نشرة الأخبار المحلية في الأسبوع التالي، لا لتحثّ ابنتيها على تسليم نفسيهما، بل قالت: "نحن لم نأخذ أموالاً ليست لنا، هذا مالنا الذي أودعناه في المصرف".

من أسوأ الأزمات العالمية

جاءت عملية السطو التي نفذتها الشقيقتان حافظ في إطار سلسلة من ثماني عمليات مشابهة شهدها لبنان خلال شهر واحد، حين لجأ عدد من المودعين اليائسين إلى السطو على المصارف من أجل استعادة مدخراتهم بعد أن أوصلتهم الى هذا الدرك الكوارث المتلاحقة التي ألمّت بالبلاد، بينها انفجار مرفأ بيروت عام 2020 الذي أودى بحياة 218 شخصاً على الأقل.

يكمن الانهيار المستمرّ للقطاع المصرفي في صلب هذه المعاناة، إذ فرضت المصارف التجارية اللبنانية قيوداً صارمة على السحوبات حتى إنها منعت المواطنين من سحب أي من مدخراتهم، في حين صنّف البنك الدولي الأزمة التي يمرّ بها لبنان على أنها " من بين أشدّ عشر أزمات، وربما من بين الثلاث الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر".

بنوك لبنان تغلق أبوابها 3 أيام عقب موجة اقتحامات المودعين

يقع المصرف المركزي اللبناني في صميم هذه الأزمة، ويقوده منذ زهاء ثلاثين عاماً رياض سلامة الذي يعتبر أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم. زعم سلامة على امتداد معظم ولايته أنه يتبنّى سياسة نقدية قائمةً على فلسفة محافظة ومستقرّة، كما أشرف على ما بدا أنه طفرة ازدهار خلال الحقبة التي تحوّلت فيها ساحات المعارك في العاصمة بيروت التي مزقتها الحرب الأهلية إلى شوارع فاتنة تنتشر فيها المطاعم الفخمة.

لقد ازدحمت الشوارع الأرقى بالسيارات الرياضية طوال سنوات، فيما استمتع السكان المحليون بفتح زجاجات الشمبانيا في حانات تعلو المباني المطلّة على البحر المتوسط. لكن للأسف، في تلك الحقبة من المال السهل، كانت عملية احتيال (بونزي) تجري خلف الكواليس على حدّ وصف البنك الدولي وقادة دوليين، بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

حين اشتدت الظروف، واجه المصرف المركزي صعوبة في تسديد ديونه، وبدأت المصارف التجارية تترنح. حاول سلامة شراء الوقت عبر اتاحة بضع جولات من تسهيلات ائتمانية منخفضة الفائدة، ثمّ ما لبث أن لجأ إلى حلّ أكثر يأساً، فاعتمد على البنوك التجارية نفسها لسدّ فجوة احتياطياته النقدية. حين بدأ المواطنون يستشعرون الألم الناجم عن ارتفاع تكلفة المعيشة، تعثّر هذا الترتيب أيضاً، وسرعان ما انهار النظام المالي.

تحقيقات ومذكرات توقيف أوروبية

بلغ الاقتصاد اللبناني اليوم حالة من الفوضى المستشرية في ظلّ ارتفاع معدّل التضخم الذي وصل إلى 170% في العام الماضي، فيما تتوقع وكالات التصنيف الائتماني أن تكون هذة السنة أسوأ. أمّا المواطن العادي الذي لديه أموال عالقة في المصارف، فالصفقات التي تُعرَض عليه لا تختلف كثيراً عن تلك التي قُدّمت لعائلة حافظ، أي الحصول على جزء هزيل نسبياً من مدخراته بين كلّ حين وآخر.

يعني ذلك أن أبناء الطبقة الوسطى السابقة في بيروت باتوا يتسولون في الشوارع، فيما ازدادت حوادث سرقة الطعام والأدوية الأساسية وحليب الأطفال. تعليقاً على ذلك قال إبراهيم عبد الله، عضو جمعية "صرخة المودعين"، وهي مجموعة ناشطة ساعدت الأختين حافظ على التخطيط لعملية السطو: "لقد شرعنوا سرقة أموالنا... الناس هنا لا يريدون إلا النجاة".

رفض سلامة الإدلاء بتعليق لهذه المقالة رغم المحاولات المتكررة، وكان أعلن عزمه على التنحّي عن منصبه في يوليو بدل السعي لتمديد ولايته لستّ سنوات إضافية.

قُبيل تقاعده المزمع في فيلته المطلّة على بيروت، يبدو سيجار كوهيبا رفيقه الأقرب هذه الأيام. قال محلّل مالي ممن يلتقون سلامة بانتظام، وقد طلب عدم كشف اسمه خشية العواقب المهنية، إن حاكم المصرف المركزي لا يطفئ سيجاره حتى حين يصافح من يلتقيهم. أضاف: "أحياناً حين يتحدث بجمل طويلة، ينطفئ السيجار، لكنه يشعله مجدداً ويتابع حديثه".

أصدر الادّعاء الفرنسي والألماني مذكرات توقيف بحق سلامة في مايو على خلفية تحقيق يمتد عبر ستّ دول، بتهم شراء عقارات فيها باستخدام ملايين الدولارات من الأموال العامة اللبنانية المنهوبة (يقول سلامة إن الاتهامات ذات خلفية سياسية، وقال إن مذكرة التوقيف الفرنسية غير قانونية). اللافت أن سلامة بقي بمنأى عن الملاحقة في لبنان، فتُرك ليدخّن سيجاره في مكتبه بسلام، فيما تتخبط الطبقة الوسطى الآخذة بالتلاشي بحثاً عن حلول أحلاها مرّ.

الإنتربول يصدر مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة

محاسب المافيا

عمل سلامة خلال العقدين الأولين من حياته المهنية في فرعَي "ميريل لينش" في بيروت وباريس، حيث تولّى إدارة محافظ بعض العملاء الأثرياء، بينهم رجل الأعمال اللبناني رفيق الحريري. حين تَبوَّأ الحريري منصب رئيس الوزراء في لبنان بعد بضع سنوات من انتهاء الحرب الأهلية الطاحنة التي استمرت 15 عاماً، جلب معه سلامة وعيّنه حاكماً للمصرف المركزي.

تنهّد ناصر سعيدي، النائب السابق للحاكم، حين ذكر اسم رئيسه السابق رياض، قائلاً إن الحاكم "ليس اقتصادياً، بل سمسار"، معتبراً أن خطيئته الأصلية كانت في 1997 حين ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، متيحاً استخدام كلتا العملتين بدل الأخرى.

في حين تربط العشرات الدول حول العالم عملاتها بالدولار من أجل إبرام الصفقات المالية وممارسة التجارة الدولية التي تتمّ عادةً بالدولار بتكلفة أقلّ، تَطلَّب الحفاظ على ثبات سعر الصرف تَدفُّق كميات كبيرة من الدولارات على لبنان بلا انقطاع.

أظهر سلامة حنكة سياسية منذ تَسلُّمه حاكمية مصرف لبنان، فنجح في الحفاظ على التحالفات التي بناها مع فرقاء النظام السياسي الهشّ كافة في البلاد، بمن فيهم جماعة حزب الله المسلحة، فاستمال السياسيين اللبنانيين كما استمال الدبلوماسيين الأوروبيين والأميركيين.

كان سلامة مقرباً من أمراء الحرب اللبنانيين الذين شكّلوا لاحقاً الطبقة الحاكمة في البلاد، لدرجة أن معظم الأشخاص الذين قوبلوا لإعداد هذه المقالة وصفوه بـ"محاسب المافيا". مع بزوغ فجر الألفية الثالثة بدا أن ربط الليرة بالدولار يؤتي ثماره، ما أسهم في استقطاب الاستثمارات الأوروبية والخليجية. كانت الدولارات تتدفق أيضاً على الأربعة ملايين لبناني القاطنين في أرض الوطن، من المغتربين الذين يتجاوز عددهم ضعف ذلك وينتشرون في أصقاع الأرض. شهدت البلاد طفرة عقارية، وبدا أن لبنان "يتحدى قوانين الجاذبية ماليّاً" حسب وصف أحد السفراء الأميركيين السابقين.

شبهات حول عائلة سلامة

شكّل هذا الوضع أرضية خصبة للوسطاء، منهم أفراد من عائلة سلامة نفسه. أسّس رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنان، شركة في جزر العذراء البريطانية تحمل اسم "فوري أسوشيتس" في 2001. حسب تحقيق أجرته وكالة "رويترز" في 2022، فرض مصرف لبنان على مدى أكثر من عقد عمولات على المصارف التجارية عند شرائها سندات حكومية دون أن يكشف أن معظمها يؤول إلى "فوري".

تشتبه السلطات الأوروبية في أن شركة رجا سلامة حوّلت أرباحاً تتجاوز 300 مليون دولار إلى حسابات مصرفية في سويسرا. نفى الأخوان سلامة ارتكاب أي مخالفات، في حين تحقّق السلطات اللبنانية والأوروبية منذ سنوات في كيفية تمكّنهما هما وشركائهما من شراء عقارات بعشرات ملايين الدولارات على امتداد أوروبا.

في فرنسا مثلاً، تواجه والدة ابنة رياض سلامة، التي اعترف أنه رُزق بها من علاقة خارج إطار الزواج، أسئلة حول كيفية تمكُّنها من امتلاك عقار في جادة الشانزليزيه الأشهر في باريس، إذ يقول محقّقون في بيروت إنها أعادت تأجيره للمصرف المركزي في لبنان ليستخدمه كمساحة مكتبية.

كتب السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان في 2007 في برقية دبلوماسية نشرها لاحقاً موقع "ويكيليكس": "في طبيعة سلامة أمر غامض ومثير للشكّ". في ذلك الوقت كان سلامة نال تأييد الولايات المتحدة، وزار واشنطن ودمشق لعقد اجتماعات استراتيجية تهدف إلى حشد الدعم لترشحه للانتخابات الرئاسية في لبنان.

تَحدَّث فيلتمان في برقية دبلوماسية أخرى تعود إلى ذلك العام عن لقائه سلامة في حفل عشاء في نادي الروتاري، وروى أن سلامة أجاب عن سؤال حول أولوياته على صعيد السياسات بالقول: "أوصِلوني إلى الرئاسة وسأخبركم بها".

خلص السفير إلى أن وصول سلامة إلى سدّة الرئاسة فكرة سيئة بسبب "الطريقة المشبوهة التي يدار بها المصرف المركزي والتي تفتقر إلى الشفافية وتشوبها ممارسات مثيرة للشكوك بأكثر ممّا قد يصدّقه المرء نظراً إلى سمعة سلامة البراقة".

هندسات مالية

عاش اللبنانيون فترة رخاء، فقد جنّبت سياسات رياض سلامة لبنان التداعيات الأسوأ للأزمة المالية العالمية عام 2008، وبحلول عام 2010 كانت واحدة من أصل خمس سيارات تسير على الطرقات اللبنانية من نوع "مرسيدس بنز". وفي العام التالي افتتحت "شانيل" متجراً في وسط بيروت.

أسهم القطاع المالي المزدهر في نشوء فئة ميسورة من الطبقة الوسطى قادرة على اختيار ما طاب لها من منازل عطلات في الخارج. عُزي الفضل في ذلك إلى سلامة وسياساته، لدرجة أن أحاطت به هالة مكّنته من التصدي لضغوط وزراء طالبوه ببيع بعض أصول المصرف المركزي الثمينة، ومنها طائرة خاصة وكازينو.

لكن ما لبثت أن تلبدت السماء بالغيوم، فقد اندلعت الانتفاضة الشعبية في سوريا المجاورة في 2011 وسرعان ما تحوّلت إلى حرب أهلية طاحنة، دفعت المستثمرين الأجانب إلى الانسحاب من المنطقة، وسجّل لبنان انخفاضاً حادّاً بكمية الدولارات المتدفقة إليه، فغرقت البلاد في ديون متزايدة.

حاول سلامة حلّ الأزمة عبر تقديم برامج دعم للمصارف المتعثّرة بدءاً من عام 2015، وكان أول المستفيدين "بنك البحر المتوسط" و"بنك عودة"، وكلاهما من كبرى المؤسسات المالية في لبنان، حيث تملك عائلة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري الذي اغتيل في 2005 "بنك البحر المتوسط"، فيما تمتلك حصة من "بنك عودة". رفض المصرفان التعليق، إلا أن "بنك عودة" كان قال سابقاً إن المعاملة التي تلقّاها تتناسب مع حجمه.

حافظ المصرف المركزي على تدفق الدولارات الأميركية في القطاع المالي من خلال تقديم أسعار فائدة سخية جدّاً للمؤسسات المالية المتعثرة، إلا أن هذا الحلّ كان مؤقتاً. فلم يكن لدى المركزي الأموال اللازمة لتغطية تلك الفوائد ولا لتغطية جميع الودائع، لذا بدأ عمليات تحويل سرية ومعقدة للأموال من المصارف التجارية ليوفي بالتزاماته قصيرة الأجل. في غضون ذلك اشترت شركة طيران الشرق الأوسط التي يمتلكها مصرف لبنان طائرة خاصة ثانية مكرسة لسلامة والعملاء الأثرياء.

بحلول 2018، أصبح مصرف لبنان ينشئ أصولاً من العدم. يكشف تقرير تدقيق مالي يعود إلى ذلك العام، سُرّب لاحقاً على نطاق واسع، بعض التقنيات الحسابية المبتكرة التي اعتمدها سلامة. كان أبرزها أنه وضع قيمة مالية سنوية على الاستقرار المالي طويل الأمد في لبنان تحت بند "رسم سكّ العملة"، ثمّ أضاف هذا الرسم رصيداً بميزانية البنك. حسب التقرير، منح سلامة نفسه صلاحية تحديد هذا المبلغ "وفقاً لما يراه مناسباً".

تظاهرات حاشدة

بدأ الشعور بعدم الاستقرار يتسلل إلى نفوس اللبنانيين. فيما كان الأثرياء يقترضون لشراء السيارات والساعات الفاخرة، أدى التضخم وإجراءات التقشف إلى ارتفاع تكلفة الحدّ الأدنى للمعيشة لدرجة أنها لم تعُد بمتناول كثير من المواطنين.

أعلنت الحكومة حزمة ضرائب جديدة ثقيلة، وجاء ردّ الشارع عبر مظاهرات شعبية حاشدة، تجمّع فيها المحتجون وسط سحابات من الغاز المسيل للدموع أمام مقرّ البرلمان للمطالبة بتنحي زعماء البلاد. على أثر ذلك أغلق سلامة المصارف لأسبوعين، وحين فتحت أبوابها مجدداً لم يكن المودعون الذين وقفوا في طوابير طويلة يدركون إلى أي حدّ ستسوء الأمور.

شدّدت البنوك خلال الأشهر التالية قيودها على سقوف السحوبات، لا سيما التحويلات إلى الخارج. أغلق كثير من المؤسسات التجارية أبوابه فيما ارتفعت معدلات البطالة. ثمّ في مارس 2020 أعلن رئيس الحكومة حسان دياب عبر التليفزيون الوطني أن الحكومة ستتخلف عن تسديد سندات بقيمة 1.2 مليار دولار بدل أن تدفعها.

رفض سلامة تَحمُّل اللائمة على الأزمة المالية، وقال في حديث تليفزيوني في العام التالي: "لقد اضطُررنا إلى هذه الهندسات لشراء وقت للبنان حتى يُجرِي الإصلاحات"، مشيراً إلى أن القادة الحكوميين كانوا يدعمونه.

مع ذلك قال المشاركون في اجتماع في القصر الرئاسي في الصيف الماضي إن سلامة رفض مطالبة بعض الوزراء له بتقديم قائمة بسيطة بأصول المصرف المركزي وديونه. بدا أن سلامة لا يتمتع بروح الفريق.

استقلّ الحاكم طائرة خاصة في يونيو 2021 متجهاً إلى مطار صغير شمال باريس. لدى وصوله أبلغ عناصر الجمارك أنه يحمل مبلغ 15 ألف يورو (16,100 دولار) من أجل الرحلة التي سيجتمع خلالها بمصرفيين لبنانيين يعملون في فرنسا.

لكن في أثناء تفتيش حقائبه وجد العناصر كمية كبيرة من الأوراق النقدية مما أثار شكوكهم، حسب تقرير سُرّب لاحقاً لصحيفة "الأخبار" اللبنانية. ارتدى العناصر قفازات جراحية من أجل عدّ الأموال التي كانت باليورو وبالدولار الأميركي، بينها 47 ورقة من فئة 500 يورو المعروفة بتسمية "بن لادن" بسبب ارتباطها بأنشطة غير شرعية، وتبيّن أن سلامة يحمل معه بالإجمال ما يداني 91 ألف يورو.

حين سأله عناصر الجمارك عن سبب احتواء حقائبه على كلّ تلك الأموال غير المصرَّح عنها، قال: "نسيت أنها هناك". بعد استجواب امتد بضع ساعات، دفع سلامة غرامة بقيمة 2700 يورو وواصل طريقه حاملاً ما تَبقَّى من أموال.

السطو على المصارف

بحلول ذلك الوقت كان تقرير التدقيق المالي لعام 2018 سُرّب إلى المواطنين. وبعد فترة وجيزة من رحلة سلامة إلى باريس، احتشد متظاهرون في الشارع أمام مقرّ مصرف لبنان ليهتفوا مطالبين برحيل الحاكم مع غيره من الزعماء السياسيين، لكن المحتجين لم يلمحوا حاكم المصرف المركزي، فالستائر البيج الكبيرة التي تغطي نافذتَي المكتب ظلّت مُسدَلة.

مع ذلك، حسب المحلّل المالي الذي كان يلتقي الحاكم بانتظام، كانت هتافاتهم تصل إليه خافتة، لكنه لم يُظهِر أي انزعاج ولو كان يحسّ به. قال المحلل: "له ثقة مذهلة بقدرته على التفلُّت من العقاب... لا بد أنه يبرع في لعب البوكر، فلا يمكنك تَبيُّن أي مشاعر على وجهه".

التزم سلامة مكتبه إلى حدّ كبير منذئذ، في حين لا يستطيع ملايين اللبنانيين أن يحصلوا إلا على جزء زهيد جداً من مدخراتهم. يقول عيّاد سركا، أحد المودعين الذين شاركوا في التظاهرات، إنه اضطُرّ إلى التوقف عن تناول دواء القلب لأنه لم يعُد قادراً على شرائه، كما خلع أسنانه بنفسه في المنزل لأنه غير قادر على دفع فاتورة طبيب الأسنان.

يرى بعض المتظاهرين أن النجاح النسبي الذي أحرزته سرقات مثل تلك التي نفّذَتها الأختان حافظ جعلت السطو شبه المسلَّح الخيار الأقلّ سوءاً. من هؤلاء الطبيبُ باسكال الراسي الذي باع عيادته في بدايات الأزمة المالية وأودع مبلغ 100 ألف دولار حصل عليه مقابلها في المصرف.

قال الراسي: "كنت ساذجاً"، فمبلغ 200 دولار شهرياً بالليرة اللبنانية الذي عرضه عليه البنك لا يكفي لتغطية حاجاته الأساسية مثل التدفئة وعلاج إصابته بالألم العضلي التليفي. حاول الراسي التوسل والإضراب عن الطعام حتى بلغ به الأمر أن قيّد نفسه بحبل إلى كرسي في فرع مصرفه المحلي، ولكن لم ينَل من ذلك إلا أنه مُنع من دخول البنك. قال: "المصارف هم اللصوص، الشخص الذي يستعيد ماله ليس بلصّ".

استبعاد تسليم سلامة

فيما يستعد وسيم منصوري نائب الحاكم لتولّي حاكمية مصرف لبنان مؤقتاً، يستهدف المتظاهرون بشكل متزايد رؤساء المصارف التجارية، فيما يخشى عبد الله أن يصل الأمر ببعض المودعين إلى أن يعتبروا الاغتيالات عقاباً عادلاً لقادة البنوك.

من ناحية أخرى، بدأ بعض المديرين التنفيذيين يتحسسون رقابهم خشية أن تطالهم التحقيقات التي تستهدف سلامة. كان الادّعاء الفرنسي وجّه في أبريل اتهامات إلى رئيس مجلس إدارة "بنك الموارد" مروان خير الدين بغسل الأموال والتآمر الجنائي، وفي منتصف مايو وجّه الادعاء الفرنسي الاتهامات غيابياً إلى سلامة بالتآمر الجنائي وغسل الأموال والتهرب الضريبي الصارخ.

في الأسبوع التالي أصدر الادعاء الألماني مذكرة توقيف بحقه على خلفية تهم مشابهة. لم يعلّق سلامة علناً على المزاعم الألمانية، كما أن خير الدين لم يعلّق على المزاعم الفرنسية.

من المُستبعَد أن يسلّم لبنان سلامة للخارج، فكارلوس غصن، المدير التنفيذي في عالم السيارات الذي سقط من قمة المجد، لا يزال يعيش هانئاً في لبنان منذ 2019 بعد أن هرب من اليابان فيما كان طليقاً بكفالة. لكن مثل غصن، ليس أمام سلامة كثير من الخيارات لناحية وجهته التالية.

بالإضافة إلى أوروبا، خسر الرجل دعم الولايات المتحدة، فقد وجهت وزارة الخزانة الأميركية انتقادات متكررة إلى المصرف المركزي في يناير حين فرضت عقوبات على شبكة صرافة قالت إنها "تلعب دوراً أساسياً" في تمكين حزب الله من استغلال الأزمة في لبنان.

مع ذلك فقد لا يكون لبنان مكاناً آمناً لسلامة بعد تقاعده، فهو مكروه لدرجة لا يُستبعد معها أن ينتهي به الأمر كبش فداء لبقية الطبقة الحاكمة، فتلك الطبقة هي مَن تمسّك به في الأساس.

استمرار الأزمة

في بداية الأزمة المالية كان جبران باسيل مستشاراً أعلى لرئيس الجمهورية السابق ميشال عون، وهو صهره أيضاً. يقود الرجل المتنفذ الذي تبوأ مناصب وزارية لفترات طويلة التيار الوطني الحرّ، الحزب المسيحي قومي النزعة. كانت وزارة الخزانة الأميركية فرضت عقوبات على باسيل في 2020 على خلفية اتهامات بالفساد نفاها واعتبر أن وراءها دوافع سياسية.

مرشحاً لرئاسة لبنان.. جهاد أزعور يتخلى مؤقتاً عن منصبه بصندوق النقد

يقول باسيل إنه وعون أرادا التخلّص من سلامة منذ نهاية ولاية الحاكم السابقة قبل ستّ سنوات، أي قبل وقت طويل من أزمة المصارف، لكن المسؤولين الأميركيين ثنَوهما عن ذلك. جلس باسيل متكئاً إلى ظهر كرسي جلدي في شقة دوبلكس شاسعة ذات إطلالة بانورامية على مدينة بيروت، وقال: "يخدم سلامة مصالح النظام السياسي".

كانت منفضة من ماركة كوهيبا على الطاولة بيننا رغم أن باسيل يقول إنه ما عاد يحبّذ تدخين السيجار. أضاف: "لا أستطيع التنبؤ بما سيكون عليه مستقبله، كلّ ما يسعني قوله أنه سيكون سيئاً جداً".

لكثير من اللبنانيين العاديين، الأوضاع سيئة فعلاً وتتدهور يومياً. ما عادت مصابيح الشوارع في بيروت تُضاء ليلاً إذ تعاني شركة الكهرباء شُحّ الوقود والأموال. في غضون ذلك يستمر الشغور الرئاسي منذ نهاية ولاية الرئيس عون في أكتوبر، فيما تبدو الحكومة مشلولة.

لكن حالة الفوضى هذه أفسحت المجال أيضاً أمام ظهور أبطال شعبيين. استخدمت نانسي حافظ مدخرات عائلتها التي استعادتها خلال عملية السطو لتبدأ في تركيا علاجها من سرطان الدماغ. وعلى عكس سلامة، لا تخشى أختاها الظهور علناً.

تصنيفات

قصص قد تهمك