بلومبرغ
يتنازل ملّاك أبراج مكتبية متألقة في نيويورك ولندن عن تلك المباني للتخلص من الديون المترتبة عليها دون أن يهدروا مزيداً من الأموال عليها. كما تخلى أصحاب أكبر مركز تجاري في وسط سان فرانسيسكو عنه، أما في هونغ كونغ، فلم تزد نسبة إشغال إحدى ناطحات السحاب الجديدة ربع مساحتها.
يشبه الركود الزاحف في قطاع العقارات التجارية خيوطاً نافرة تشوب نسيج الاقتصاد العالمي. رغم موجة صعود أسواق الأسهم وتفاؤل المستثمرين بأن أسرع زيادات في أسعار الفائدة خلال جيل ستتراجع، فإن متاعب قطاع العقارات يُرجح أن تستمر لسنوات.
بعد موجة شراء طويلة الأمد مدفوعة بالقروض منخفضة الفائدة، يواجه أصحاب العقارات والجهات المُقرِضة تغيرات في الطرق التي يؤدي بها الناس أعمالهم وأماكن عملهم وتسوقهم ومعيشتهم في أعقاب الجائحة.
في الوقت نفسه، يزيد ارتفاع أسعار الفائدة من أسعار شراء المباني أو إعادة تمويلها. نحن نوشك على الوصول لنقطة تحول؛ ففي الولايات المتحدة فقط، يأتي موعد استحقاق قروض في قطاع العقارات التجارية، بقيمة تبلغ نحو 1.4 تريليون دولار، خلال هذا العام وتاليه، وفقاً لجمعية مصرفيي الرهن العقاري. (تشير بعض التقديرات الأخرى إلى اقتراب آجال استحقاق مبلغ أقل بقليل من ذلك).
حين يحِلّ أجل الاستحقاق، قد يُفضِّل أصحاب العقارات ممن يواجهون مدفوعات رئيسية ضخمة، التخلف عن السداد بدلاً الاقتراض مجدداً للسداد.
إيقاف المدفوعات
لقد اختار أصحاب عقارات مؤسسيون إيقاف المدفوعات على بعض المباني لأن لديهم استخدامات أفضل لسيولتهم النقدية ومواردهم. قال هارولد بوردوين، وهو رئيس في "كين-ساميت كابيتال بارتنرز" (Keen-Summit Capital Partners) في نيويورك، الشركة المتخصصة في إعادة التفاوض على العقارات المتعثرة: "هناك ضغط كبير. لا يتخلى الناس عن الأصول بتلك السهولة إلا لو لم يعد لديهم أي أمل على الإطلاق وباتوا يُدركون أن الأمور ساءت بشدة".
يتراجع عدد المعاملات، وحين تُبرم صفقة ما، يبرز تراجع الأسعار بوضوح. في الولايات المتحدة، حيث كانت معدلات العودة للعمل في المكاتب أقل من نظيرتها في آسيا وأوروبا، انخفضت قيمة المكاتب ذات المستوى الذي تتطلبه المؤسسات بنسبة 27% منذ مارس 2022، حين بدأت أسعار الفائدة ترتفع، وفقاً لشركة "غرين ستريت" (Green Street) لتحليلات البيانات.
كما تراجعت أسعار مباني الشقق السكنية 21%، أما المراكز التجارية، فقد انخفضت أسعارها بنسبة 18%. تشير توقعات وحدة في شركة "برودنشيال فاينانشال" (Prudential Financial) إلى أن أسعار المكاتب قد تتراجع بأكثر من 25% في أوروبا ونحو 13% في منطقة آسيا والمحيط الهادئ قبل أن تصل لأدنى مستوياتها.
يُرجح أن يكون ما أسماه محللو "بي جي آي إم" (PGIM) عملية "إعادة الضبط الكبير" للقيم بطيئة بشكل مؤلم. تطلب الأمر ست سنوات لتتعافى أسعار المكاتب في الولايات المتحدة بعد الأزمة المالية في 2008، رغم أن الأمر حينها كان يتركز على قطاع العقارات السكنية. قال ريتشارد باركام، كبير الاقتصاديين المعنيين بالشؤون العالمية لدى "سي بي آر إي غروب" (CBRE Group): "هذه المرة نعتقد أن الأمر سيمتد عشر سنين".
متاعب إضافية
ستضيف متاعب قطاع العقارات التجارية للضغوط على نظام مالي يتأثر بالفعل بأزمة البنوك المحلية هذا العام. مع تعمُّق التحول النزولي، قد يكون لذلك تأثير جوهري على بعض المدن في وقت تجابه فيه تلك المدن مشكلة مباني شاغرة وإيرادات أقل من الضرائب العقارية.
السؤال هو ما إذا كان تصحيح الوضع في العقارات التجارية سيكون كبيراً بما يكفي لزعزعة استقرار الاقتصاد الأوسع نطاقاً. رغم ما يبدو من تعدد القوى التي تواجه القطاع العقاري، فالأمر مسألة نشاط محلي، إذ لا يشمل الأمر ناطحات السحاب في المدن فقط، بل أيضاً المراكز التجارية في البلدات الصغيرة والمباني السكنية في ضواحي المدن ومناطق التخزين الفسيحة.
قال بيتر هايز، العضو المنتدب لأبحاث الاستثمار بشركة "بي جي آي إم ريل إستيت" (PGIM Real Estate) في لندن: "لكل مدينة قصة تختلف عمّا سواها. تغيرت جميع المدن بسبب صدمات مختلفة مرتبطة بالوضع المحلي. ينتهي بك الحال في عالمٍ يفكر فيه المستثمرون بالجغرافيا أكثر من ذي قبل".
لقد امتد التعثر في سداد الديون من لوس أنجلوس إلى السويد وكوريا الجنوبية. إليكم نظرة على المشكلات التي تتكشف في بعض مراكز المال والأعمال الرئيسية حول العالم.
سان فرانسيسكو
تبدو أزمة الولايات المتحدة أكثر جلاءً في مدينة سان فرانسيسكو، حيث يكتسب تحول نزولي زخماً فيما يدخل مبنى تلو الآخر مرحلة التعثر في السداد. ارتفعت أسعار العقارات في قطاع التقنية إلى مستويات قياسية خلال العقد الماضي، لذا كان هبوطها كبيراً.
اكتظت المدينة بالشركات الناشئة الناجحة –"إير بي إن بي" و"تويتر" و"أوبر تكنولوجيز"– إلى جانب شركات عملاقة راسخة مثل "سيلزفورس" (Salesforce). أما الآن، فقد قلصت عديد من هذه الشركات أعداد الموظفين ومساحات مكاتبها.
تواجه منطقة وسط المدينة صعوبات في اجتذاب أصحاب الأعمال والموظفين، الذين ازدهر نشاطهم خلال العمل عن بُعد، من جديد. تتكون المنطقة بنسبة كبيرة من أبراج المكاتب، ما جعلها تبدو خاوية على نحو خاص. أما هؤلاء الذين يذهبون للعمل في هذه المكاتب، فهم من بين الفئات التي تتحمل قطع أطول المسافات من الضواحي في المتوسط على مستوى البلاد.
تتركز أزمة التشرد في سان فرانسيسكو أيضاً في وسط المدينة، وقد دفعت سرقات في بعض متاجر التجزئة كانت لها تغطية إعلامية كبيرة بعض المتاجر للإغلاق.
في ضاحية "يونيون سكوير" التي كانت يوماً ما تلقى رواجاً، سلّم أصحاب أكبر مركز تجاري في المدينة، وهو "ويستفيلد سان فرانسيسكو سنتر" (Westfield San Francisco Center)، مفاتيح المبنى فعلياً لمقرضي الرهن العقاري وقدره 558 مليون دولار. جاءت الخطوة بعد أن أعلنت "نوردستروم" (Nordstrom) أنها ستغلق متجرها في المركز.
في ضوء تباطؤ تعافي القطاع السياحي من آثار الجائحة، أوقفت "بارك هوتلز أند ريزورتس" (Park Hotels & Resorts) مدفوعات على قرض حجمه 725 مليون دولار مربوط باثنين من أكبر فنادق المدينة، وهما "هيلتون سان فرانسيسكو يونيون سكوير" (Hilton San Francisco Union Square) و"بارك 55 سان فرانسيسكو" (Parc 55 San Francisco).
كما تخلفت "فيريتاس إنفستمنتس" (Veritas Investments)، وهي شركة محلية كبيرة مالكة للعقارات، عن سداد ديون بقيمة 675 مليون دولار على محفظة شقق سكنية تخطت قيمتها مليار دولار في 2020. تلك القروض معروضة للبيع الآن في السوق.
بلغ عدد المكاتب الشاغرة ومعدل توفرها ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في فترة ما قبل الجائحة. في إحدى صفقات المكاتب القليلة في المدينة، باعت "ويلز فارغو" أخيراً برجاً يتكون من 13 طابقاً في 550 شارع كاليفورنيا مقابل نحو 200 دولار للقدم المربع، بانخفاض من أكثر من ألف دولار في ذروة السوق خلال 2019، وفقاً لـ"نيومارك غروب" (Newmark Group)، وهي شركة خدمات عقارية.
تدفع الأسعار المنخفضة بعض المستثمرين للتفكير في فرص يمكنهم اغتنامها. قال مايك بسترونك، الرئيس التنفيذي لـ"بوست براذرز" (Post Brothers)، وهي شركة تطوير عقاري في فيلادلفيا تملك عقارات سكنية قيمتها أربعة مليارات دولار: "لم نشترِ أبداً في سان فرانسيسكو، لكنها موضع اهتمام متزايد".
لكن ما يجده الراغبون بالشراء مثيراً للاهتمام يعتبره أصحاب العقارات موجعاً. قال دايفيد بيتنر، المحلل في "نيومارك" في سان فرانسيسكو: "لا توجد وسيلة لتفادي إعادة ضبط الأسعار الآتية. يتحمل قطاع المكاتب العبء الأكبر، لكن قطاع التجزئة الأقدم وقطاع المباني السكنية الأحدث يتأثران أيضاً".
تتأثر خزائن المدينة بهذا الأمر، إذ توقعت لندن بريد، عمدة سان فرانسيسكو، عجزاً في الميزانية لمدة عامين يبلغ 780 مليون دولار. اقترحت العمدة تنويع المباني في وسط المدينة، بما في ذلك تحويل مزيد من المباني إلى سكنية، كما طرحت فكرة استخدام مركز "ويستفيلد" التجاري بأشكال أخرى، ما يعكس "رؤية جديدة" للعقارات. لكن الآن هناك كثير من المساحات الشاغرة تنتظر الإشغال.
نيويورك
رغم أن شوارع نيويورك تضج بالسياح والسكان، لم يعد سوى نحو نصف العاملين بالمكاتب إليها، وفقاً لشركة أمن المباني "كاسل سيستمز" (Kastle Systems). تعاني عشرات المباني من فقدان شاغليها والحاجة للتحديث. فيما يتبين أصحاب الأعمال حاجتهم للمكاتب من جديد، يمكنهم اختيار مساحات في أبراج بُنيت حديثاً في مناطق مثل "هدسون ياردز" (Hudson Yards) أو قرب محطة "غراند سنترال" (Grand Central) بدلاً من العقارات الأقدم.
ساعدت هذه الخيارات على الزج حتى بالمباني الشهيرة في عاصمة المال في العالم إلى أوضاع مضطربة. في مبنى "سيغرام" (Seagram)، وهو ناطحة سحاب بُنيت في خمسينيات القرن الماضي في حي ميدتاون المشهور معمارياً بتصميمه الحديث، اضطرت الشركة المالكة "آر إف آر هولدينغ" (RFR Holding) للتفاوض على تمديد مدته عاماً واحداً على قرض بمليار دولار يُستحق هذا العام، وذلك بعدما فشلت بالحصول على تمويل.
أنفقت "آر إف آر" 25 مليون دولار على تحديثات، بما في ذلك مجمع رياضي شاسع ومركز صحي، وأجّرت 95% من المبنى حتى وقت سابق من هذا العام. مع ذلك، انتقل بنك "ويلز فارغو" من المبنى إلى آخر أحدث قبل الجائحة، فيما نقلت شركة الاستثمار المباشر "كلايتون دوبيليير أند رايس" (Clayton Dubilier & Rice) موقعها إلى برج مجدد في جادة ماديسون.
حصلت المطوّرة العقارية "جي إف بي ريل إستايت" (GFP Real Estate) على تمديد لمدة عامين على مبنى "دومونت" (DuMont)، أحد الأبراج المصممة بأسلوب الفن الزخرفي في جادة ماديسون، بعد أن باتت غير قادرة على سداد الرهن العقاري الذي يبلغ حجمه 103 ملايين دولار حين حلَّ موعد استحقاقه. لإتمام الصفقة، اضطرت "جي إف بي" أن تضخ رأس مال للمساهمة في تعزيز آفاق الشركة في تأجير المبنى مستقبلاً.
طالب عمدة المدينة إريك آدامز بعودة إلى المكاتب أوسع نطاقاً، إذ حثّ قيادات وول ستريت على تطبيق مزيد من العمل من المكاتب. تمثل المكاتب، التي تشير توقعات إلى أن نسبة الشاغرة منها إلى مستوى قياسي يبلغ 22.7% هذا العام، عادةً نحو 20% من إيرادات الضرائب العقارية للمدينة.
وجدت دراسة مشتركة من باحثين في جامعة نيويورك وجامعة كولومبيا أن المكاتب في نيويورك ستفقد 44% من قيمتها ما قبل الجائحة بحلول 2029 بسبب تداعيات العمل عن بُعد.
قالت روث كولب-هابر، الرئيسة التنفيذية لشركة الوساطة "وارتون بروبرتي أدفايزرز" (Wharton Property Advisors): "يشهد أصحاب العقارات جملة مخاطر وعقبات في الوقت الحالي –إنهم يواجهون مشكلات على جميع الأصعدة. أفضل المباني بأفضل المُلّاك ستصمد وستعبر هذه الأزمة. لكن بالنسبة للمباني التي ترتفع فيها نسبة المساحات الشاغرة وكذلك تحتاج إلى كثير من الأشغال، فإن الاقتصاديات لن تنجح".
أتلانتا ومدن مزدهرة أخرى
تشعر مدن أخرى بعيداً عن مراكز المال الساحلية في الولايات المتحدة بوطأة الضغط هي الأخرى. ارتفع نسبة المكاتب الشاغرة المتاحة للإيجار في أتلانتا إلى 31% في الربع الأول من العام، أي نحو ضعفي مستواها قبل الجائحة، وفقاً لشركة الخدمات العقارية البريطانية "سافيلز" (Savills). تبحث الشركات عن مساحات مكتبية أصغر في الأحياء التي تشهد مستويات أعلى من الإقبال.
ترك المستأجرون مكاتب إضافية من أفضل فئة تبلغ مساحتها نحو 27 ألف متر مربع في وسط أتلانتا في الربع الأول، وفقاً لشركة "جونز لانغ لاسال" (Jones Lang LaSalle). اتجه بعض الطلب إلى ميدتاون، حيث تزيد الإيجارات التي يحددها الملاك 44% عن نظيراتها في وسط المدينة، وأضاف المستأجرون مساحة صافية تبلغ نحو ثلاثة آلاف متر مربع.
يواجه أصحاب العقارات جبلاً من الأقساط الأساسية النهائية؛ نحو 30% من مساحة المكاتب في أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا، تواجه أجل استحقاق بين الوقت الحالي و2025، أي أكثر من أي منطقة حضرية في الولايات المتحدة، وفقاً لشركة "ياردي سيستمز" (Yardi Systems)، التي تصنع برمجيات إدارة العقارات.
هناك قصص مشابهة في منطقة الحزام الشمسي وإقليم الجبال غرباً، إلى حيث انتقل عديد من العاملين والشركات خلال الجائحة. حتى مدينة أوستن التي برزت كبديل منخفض التكلفة لسيليكون فالي، تواجه الآن ارتفاعاً في المساحات الشاغرة، ما يصعب رفع الإيجارات من جانب أصحاب العقارات. ارتفع عدد الأماكن المتاحة للتأجير الباطن لأكثر من الضعف في عاصمة تكساس منذ يونيو 2022 إلى ما يقرب من 548 ألف متر مربع، وهو أسرع زيادة في أي منطقة حضرية في الولايات المتحدة، وفقاً لشركة "كوستار غروب" (CoStar Group).
لا يوجد سوى سان فرانسيسكو وسان خوسيه اللتين تفوق فيهما نسبة المساحات المتاحة للتأجير الباطن نظيرتهما في أوستن. قال فيل موبلي، المدير الوطني لتحليلات المكاتب في الولايات المتحدة بشركة "كوستار": "شهدت أوستن زيادة تخطف الأنفاس. لدى شركات التقنية بالتأكيد نزعة للعمل عن بُعد".
في مناطق أخرى، يقابل العرض الجديد طلباً متراجعاً. في كولورادو، يُعرض برجان بُنيا في أواخر السبعينيات، عُرفا سابقاً باسم مركز دنفر للطاقة، للبيع بعد أن وضعت الجهات المُقرِضة يدها عليهما. تبلغ نسبة المساحات المؤجَّرة في المبنيين حالياً 32%. حجزت الجهات المُقرِضة أيضاً على مجمع "بيناكل" في ضاحية وستشيس بولاية هيوستن، وهو مجمع للمكاتب مكوّن من تسعة طوابق، خسر أكثر من ثلاثة أرباع قيمته التقديرية لعام 2012، وفقاً لوثائق القرض.
قال دوغ ريسلر، كبير الباحثين في "ياردي"، إن الفجوة بين الرابحين والخاسرين تتسع. أوضح: "الأمر ينقسم إلى شقين. أفضل المكاتب ستصمد، أما المكاتب من الدرجتين الثانية والثالثة سيتعين إعادة تجهيزها لأغراض أخرى".
لكن لا يمكن إعادة تجهيز كل المباني القديمة لأغراض جديدة. قالت ليا أوفربي، المحللة التجارية في "باركليز كابيتال" (Barclays Capital): "صعب جداً تحويل أحد أبراج المكاتب من التسعينيات إلى مبنى آخر غير برج مكاتب من التسعينيات. الأمر ليس سهلاً".
لندن
ينتشر تبنّي نظام العمل الهجين على نطاق واسع في لندن بشكل متفاوت. بلغت نسبة المكاتب الشاغرة بمنطقة وست إند في لندن، التي تضم أكثر المناطق الحيوية لمتاجر البيع بالتجزئة وأماكن السهر في المدينة، مستويات منخفضة قياسية تقريباً في ضوء سعي الشركات للحصول على مساحات عمل في أفضل المباني والمواقع لجذب الموظفين من جديد.
كذلك ترتفع أسعار الإيجار، بسبب استعداد الشركات لدفع المزيد لقاء كل متر مربع لتستأجر مساحة أصغر بشكل عام.
حي كاناري وارف، الذي يضم أبراجاً من الزجاج والصلب منذ التسعينيات، هو الأكثر تعرضاً للمشكلات في لندن. تواجه المنطقة، التي ترى الأغلبية أنها حي مبني خصيصاً للمصرفيين، صعوبة متزايدة في الإبقاء على أهميتها لدى مستأجري المكاتب من كبرى الشركات. تنتقل شركة المحاماة "كليفورد تشانس" (Clifford Chance) من المنطقة إلى مكتب جديد أصغر حجماً بكثير في موقع رئيسي بحي المال.
تبحث مجموعة "إتش إس بي سي هولدينغز" (HSBC Holdings) عن مقر جديد، وأغلب الخيارات المقترحة تقع في حي المال أيضاً. ما يزال مبنى "واي واي" (YY)، وهو مبنى مقر شركة "تومسون رويترز" السابق خضع مؤخراً لإعادة تطوير ويحتل موقعاً متميزاً خارج محطة مترو "كاناري وارف"، شاغراً بالكامل.
استحوذت الجهات المُقرِضة على مبنيين للمكاتب كانا يُعتبران من "الممتلكات الثمينة" منذ سنوات قليلة. عيّن ائتلاف تقوده "لويدز بانكينغ غروب" (Lloyds Banking Group) وكلاء إفلاس على مبنيين عنوانهما 5 تشرشل بليس و20 كندا سكوير، وذلك بعد أن فشلت الشركة مالكة المبنيين، وهي "تشونغ كي غروب" (Cheung Kei Group) في سداد قروض مضمونة بالمباني. يواجه المبنيان مشكلة المساحة الشاغرة وتكاليف باهظة لإعادة تجديدهما.
إحدى المشكلات الأخرى التي تلوح في أفق سوق العقارات في لندن هي احتمال تقادم مئات المباني بسبب عدم امتثالها للوائح التنظيمية البيئية في المملكة المتحدة. تُصنف العقارات وفقاً لكفاءة استهلاك الطاقة بدءاً من رمز "A" وحتى رمز "G". بحلول 2030، سيُصبح استئجار مبانٍ تجارية تصنيفها أدنى من "B" غير قانوني.
يدفع ذلك أصحاب العقارات إلى إجراء تحديثات مكلفة أو المخاطرة بأن تضحي المكاتب شاغرة. قال هايز، الذي يعمل في "بي جي آي إم"، إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ساهم أيضاً بفقدان لندن لبعض جاذبيتها كمركز مالي، مضيفاً أن مباني المكاتب "عرضة لمخاطر على المدى القصير".
ستوكهولم
بالنسبة لسوق العقارات في السويد، المشكلة الرئيسية ليست المكاتب الشاغرة بل حجم الدَّين الذي تراكم على بعض شركات العقارات خلال حقبة أسعار الفائدة المنخفضة بشدة. يأتي جانب كبير من ذلك التمويل من السندات لآجال قصيرة وتلك ذات أسعار الفائدة المتغيرة، لذا سترتفع العائدات والتكاليف. على أصحاب العقارات في أكبر الدول الإسكندنافية تجديد سندات بقيمة 42 مليار دولار أو إعادة تمويلها على مدى السنوات الخمس المقبلة، ويحل موعد استحقاق نحو ثلث هذه السندات العام المقبل.
شركة "سامهالس بيغنادس بولاغيت آي نوردين" (Samhallsbyggnadsbolaget i Norden)، المعروفة باسم "إس بي بي" (SBB)، هي خير مثال على ذلك. بدأت الشركة صاحبة عقارات الإسكان الاجتماعي تشهد انهيار إمبراطوريتها التي يبلغ حجمها 13 مليار دولار، بعدما تعرضت لتخفيض تصنيفها الائتماني إلى ما دون الدرجة الاستثمارية في أوائل مايو.
لم تكن مبيعات الأصول وعملية إلغاء توزيعات الأرباح كافية لإيقاف تراجع في سعر سهمها، الذي انخفض بأكثر من 90% منذ نهاية 2021. تخضع "إس بي بي" الآن لتحقيق من جهة الرقابة المالية في البلاد بشأن ما إذا كانت الشركة قد خرقت القواعد المحاسبية، وأقصت مؤسس الشركة من منصب الرئيس التنفيذي.
هونغ كونغ
احتلّ مبنى مكوّن من 26 طابقاً، يطل على ميناء فيكتوريا الشهير في هونغ كونغ، عناوين الأخبار في المدينة في 2015، حين اشترته شركة "تشاينا إيفرغراند غروب"، التي لم تكن تتمتع بشهرة عالمية آنذاك، مقابل 1.6 مليار دولار– أي ضعفي الرقم القياسي السابق لأحد أبراج المكاتب.
أضحت الصفقة مثالاً على ازدهار سوق العقارات في مركز المال الآسيوي، الذي اجتذب خلال السنوات التي تلت رأس مال صينياً يطمح لشراء كل شيء من مساحات لمباني المكاتب إلى قطع الأراضي، وعادةً ما تُحطِّم أسعارها أرقاماً قياسية. بدا الاستثمار في المكاتب رهاناً آمناً في مدينة تعاني من شُح المساحات وتشهد طلباً قوياً من جانب الشركات في بر الصين الرئيسي.
ثم جاءت المظاهرات المناهضة للحكومة وقيود الإغلاقات الصارمة بسبب جائحة كورونا في 2020، ما دفع المستثمرين لإعادة التفكير في مكانة هونغ كونغ كمركز مالي. زادت أزمة الدَّين العقاري الصينية، التي احتلت "إيفرغراند" موقع الصدارة فيها، من الاضطرابات.
بعد أن وجدت نفسها مديونة بمئات مليارات الدولارات، سعت المطوّرة العقارية لجمع المال بكل السبل الممكنة، وتعهدت في أواخر 2020 بتسليم المبنى إلى أحد البنوك مقابل قرض قدره 7.6 مليار دولار هونغ كونغ (971 مليون دولار أميركي).
استحوذ وكيل إفلاس العام الماضي على المبنى. عرض المالك الجديد المبنى للبيع، لكنه فشل في الحصول على عرض يحقق المستوى المستهدف. تبلغ نسبة الإشغال في البرج الآن نحو 25%، جزئياً بسبب أن تعقيدات ملكية المبنى تدفع المستأجرين المهتمين بالأمر للعزوف عن الاستئجار فيه. كانت نسبة الإشغال 100% حين اشترت "إيفرغراند" المبنى.
في أنحاء المدينة، لم تعد البنوك الأجنبية والشركات الصينية المهتمة بالتكلفة تستأجر مساحات في وقت يزداد فيه المعروض الجديد من المباني. تُظهر بيانات من "كوليرز إنترناشونال غروب" (Colliers International Group) نسبة المساحات الشاغرة في أرقى مباني المكاتب في هونغ كونغ ارتفعت إلى 15% في أبريل، أي أكثر من ثلاثة أضعافها في 2019.
على عكس أصحاب العقارات في نيويورك ولندن، لا تستطيع هونغ كونغ إلقاء اللوم في هذا التراجع على نظام العمل عن بُعد. لم يدفع نظام النقل العام، الذي يتمتع بمستوى عالٍ من الكفاءة، والشقق الضيقة في المدينة السكان إلى زيادة نسبة العمل في المنزل، فقد عادت المدينة إلى نظام العمل في المكاتب، و تخطت أعداد مستخدمي مترو الأنفاق مستويات 2019 في مارس من هذا العام.
لكن تراجع السوق التجارية في بيئة تتسم بارتفاع أسعار الفائدة ما يزال يضع مالكي العقارات، مثل "إيفرغراند"، في موقف صعب. لا تستطيع الشركات إعادة تمويل المباني بسبب تراجع قيمتها، كما أنها غير قادرة على العثور على مشترين لها بسهولة. أضحى الخيار هو البيع بتخفيض كبير في الثمن، أو التعامل مع مدفوعات الفوائد. باتت أصول العقارات عبئاً بدل أن تكون مصدراً للسيولة والاستقرار.