بلومبرغ
هرع أبناء سيلفيو برلسكوني الخمسة إلى مستشفى خاص في ميلانو كي يودعوا والدهم المريض، الذي كانت له بصمة على إيطاليا لم يترك أحد مثلها على البلاد في فترة ما بعد الحرب المؤلمة. كان ذلك المشهد شبيهاً بمجريات مسلسل "Succession".
كانت صديقته مارتا فاسينا، 33 عاماً، معه، حيث أمضت الليلة بجانبه في المستشفى. فاسينا، وهي عضو بمجلس النواب، لها نفوذ كبير على حزب برلسكوني، "فورزا إيطاليا" (Forza Italia).
كانت مارينا، ابنة برلسكوني الكبرى، من أول الواصلين وهي تحمل حقيبة يد فاخرة، وتغطي عينيها بنظارة شمسية. لقد اعتُبرت مارينا مراراً أحب أبناء برلسكوني إليه، إذ كانت تسارع للدفاع عنه عند ظهور كل فضيحة. ترأس مارينا تكتل الأعمال المتشعب الذي يضم درّة ممتلكات العائلة، وهي شركة "فينينفست" (Fininvest) القابضة.
كان برلسكوني في الثمانينات من عمره يحب أن يمزح قائلاً إنَّه سيعيش للأبد. بعد وفاته في 12 يونيو، سيكتشف العالم ما إذا كان إرث قطب الإعلام البارع الذي تولى رئاسة الوزراء أربع مرات سيستمر بعد رحيله.
خارطة جديدة
ستظهر الدلائل الأولى إثر فتح وصية برلسكوني بعد جنازته التي أقيمت يوم الأربعاء الذي أُعلن أنَّه يوم حداد وطني. تشير توقُّعات إلى أنَّ قراءة الوصية ستكون نقطة البداية في خطوة قد تعيد تشكيل حدود خارطة إمبراطورية برلسكوني. قد يحدث أمر مشابه داخل تحالف يمين الوسط الحاكم في إيطاليا، وهو تنافس ستحاول رئيسة الوزراء جورجا ميلوني دون شك توظيفها لترسيخ سلطتها.
جورجيا ميلوني تسعى لتعزيز سلطتها عبر تقوية شركات حكومية
تبادل السياسيون العديد من الرسائل عبر "واتساب" بعد دقائق من إعلان وفاة برلسكوني، وقد كتب أحدهم تعليقاً قال فيه: "شخصية إعلامية مثل برلسكوني فقط يمكنها أن ترحل صبيحة يوم الإثنين، لتحدد بذلك أجندة الأسبوع بأكمله".
ماعدا إيطاليا، قد يعتبر بعضهم برلسكوني، وهو كان محباً للأضواء وكثير الفضائح، أشبه بمهرج، لكنَّه وضع أساسات النموذج الذي يمكّن مليارديراً أن يصبح قائداً لدولة من مجموعة الدول السبع، وهو النموذج الذي اتبعه دونالد ترمب عن كثب.
كان برلسكوني رجل أعمال قبل أن ينضم للساحة السياسية بفترة طويلة، وكان أول من استغل نفوذه كقطب إعلامي للفوز في الانتخابات، واستخدم منصبه لحماية مصالحه في عالم الأعمال وتوسيعها. لطالما دار الأمر دوماً حول نشاط الأعمال، ولم تكن السياسة سوى وسيلة لتحقيق غايته.
إمبراطورية برلسكوني
تشمل إمبراطورية برلسكوني في عالم الأعمال أنشطة في قطاعات الإعلام والبنوك والرياضة تُقدَّر قيمتها بنحو سبعة مليارات يورو (7.6 مليار دولار). لكنَّ تلك الإمبراطورية ستحتاج إلى أكثر من مجرد ظهور أبناء برلسكوني كجبهة موحدة كي تزدهر؛ فهي ستتطلب نموذجاً جديداً للأعمال.
تقول أزورا رينالدي، الخبيرة الاقتصادية في جامعة روما لا سابينزا: "بالنسبة لشركاته؛ فهذه فرصة للابتكار وتقديم قيادات جديدة والتغلب على التحديات بشكل مختلف عن الطريقة التي كان سيتبعها".
ستركز خطة خلافة برلسكوني بشكل رئيسي على "فينينفست"، وهي شركة قابضة تضم أكبر شبكة بث تجارية وأكبر شركة للنشر وحصة أقلية في أحد البنوك الرئيسية في إيطاليا.
ملك برلسكوني نحو 61% من أسهم "فينينفست"، فيما كانت النسبة المتبقية التي تبلغ 39% مقسمة بين ورثته. يتولى أكبر اثنين من أبناء برلسكوني سناً – مارينا وبيير سيلفيو – مناصب إدارية. مارينا، 56 عاماً، هي رئيسة مجلس إدارة "فينينفست" ودار النشر "أرنولدو موندادوري إديتوري" (Arnoldo Mondadori Editore)، أما بيير سيلفيو، 54 عاماً، فهو الرئيس التنفيذي لشركة البث "ميديا فور يوروب" (MediaForEurope). تشير التوقُّعات إلى أنَّ الوصية ستؤكد استمرارهما كذلك.
رحيل برلسكوني سيغير ملامح إمبراطوريتي الإعلام والسياسة
تهيمن "ميديا فور يوروب"، التي عُرفت سابقاً باسم "ميدياست" (Mediaset)، على السوق في مجال الإعلانات التلفزيونية في إيطاليا، بحصة تبلغ أكثر من 40%. كانت الشبكة منصة إطلاق طموحات برلسكوني السياسية في التسعينيات.
لكنْ مع تقدّم مؤسسها في العمر ومع ابتعاده عنها؛ قلبت شركات البث عبر الإنترنت العملاقة، مثل "نتفليكس" و"أمازون"، نموذج الإيرادات في القطاع رأساً على عقب. قد تجعل وفاة قطب الأعمال من "ميديا فور يوروب" هدفاً للاستحواذ من جانب شركة تحاول تأسيس مجموعة للبث تشمل كل أنحاء أوروبا، وقد ارتفعت أسهم "ميديا فور يوروب" بشكل كبير.
ربما تحاول شركة "فيفندي" (Vivendi) الفرنسية، التي حاولت الاستحواذ على "ميديا ست" (Mediaset) في 2016، وهي الآن ثاني أكبر مساهم في الشركة، مجدداً الحصول على حصة الأغلبية. هناك شائعات أنَّ خدمة "ديسكفري+" للبث عبر الإنترنت في الولايات المتحدة تفكر هي الأخرى في "ميديا ست".
مصير غامض
بالرغم من احتمال أن تصبح شركات برلسكوني أقوى مما كانت عليه قبل ذلك؛ لكنَّ مصير "فورزا إيطاليا"، الحزب الذي أسسه في 1994 وكان ما يزال يرأسه، يكتنفه غموض أشد بكثير. هيمن الحزب يوماً ما على المشهد السياسي، لكنَّه تقهقر ليصبح أصغر أحزاب يمين الوسط في التحالف الحكومي الحالي.
ميلوني تُطيح بقادة اقتصاد إيطاليا خلال تجديد القيادة
كان أطول رؤساء وزراء إيطالياً عهداً قد خطط قبل وفاته بيوم كي يجتمع بمسؤولين لمناقشة مستقبل الحزب. يقول مسؤولو الحزب بشكل غير رسمي إنَّه ليس واضحاً إن كان للحزب أي مستقبل في ضوء وفاة برلسكوني.
قال فيدريكو نيليا، أحد المؤلفين المشاركين في كتاب عن برلسكوني: "إنَّه يترك خلفه حزباً وحيداً كان يلتف حول قائده صاحب الحضور الطاغي، لم يتضح بعد ما إذا كانوا سيتمكنون من إعادة البناء أو أنَّه سيتلاشى".
يقدم هذا فرصة لميلوني، التي كانت علاقتها ببرلسكوني ذات جوانب متباينة. حين كانت جزءاً من إحدى حكوماته في ثلاثينياتها، وصفها باستهانة بكلمة "بيكولينا" (piccolina) ومعناها "الصغيرة". أسست ميلوني حزبها الخاص، المعروف باسم "أُخوَة إيطاليا" (Brothers of Italy)، الذي سطع نجمه متفوقاً على حزب برلسكوني.
يبدو من قبيل المفارقة أنَّ وفاة رجل شكّل للعديدين نموذجاً لضرب سلبي من الرجولة، مع ترسيخ سلطة امرأتين؛ أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في إيطاليا، وأخرى من بين قلة قليلة من النساء اللواتي يرأسن شركة.
تتسم علاقة جورجا ميلوني ومارينا برلسكوني بأنَّها رسمية وإن كانت ودية. على عكس والدها؛ لم تظهر مارينا أي اهتمام بدخول المشهد السياسي. قد يتمكن إرث برلسكوني في مجال الأعمال من الاستمرار، لكنَّ إرثه في المجال السياسي ربما يكون قد بلغ نهايته.