بلومبرغ
تنحسر سطوة الولايات المتحدة على اقتصاد العالم جرّاء ما تجلبه عليها سياساتها من المتاعب، إذ أصبحت مكانة الدولار الأميركي البارزة في قطاعَي التجارة والمال على مستوى العالم موضع دراسة مجدداً بسبب مواجهة محفوفة بالمخاطر حول سقف الدَّين.
صعوبات كبح التضخم التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي، الذي يسير في آخر الركب، وسلسلة انهيارات البنوك، والجمود السياسي الآن بشأن قدرة الحكومة على الاقتراض، كلها عوامل تقلّص سلطة الولايات المتحدة.
في الوقت ذاته، بدأت الشقاقات السياسية تستحكم، إذ تساند الولايات المتحدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا وتتنافس مع الصين، وهما خصمان مستعدان لاقتناص أي زلّة لصنّاع السياسات في واشنطن، مثل تخلُّف الولايات المتحدة عن سداد الدَّين للمرة الأولى في تاريخها.
تنتشر تحذيرات بشأن تراجع مكانة الولايات المتحدة في كل مكان. قالت بِث هاماك، الرئيسة المشاركة لمجموعة التمويل العالمي في "غولدمان ساكس"، لتلفزيون "بلومبرغ" في 9 مايو: "أي شيء يدفعنا بعيداً عن اعتبار عملتنا العملة الاحتياطية للعالم، وعن كونها أكثر الأصول سيولةً وأماناً في العالم، هو أمر سيئ للأميركيين وللدولار ولحكومة الولايات المتحدة".
هيمنة الدولار
الدولار الأميركي أكثر العملات استخداماً على نطاق واسع في التجارة والمعاملات المالية. يمثّل الدولار أيضاً ما يقرب من 60% من الاحتياطيات النقدية الرسمية في البنوك المركزية. لكن تلك النسبة هي الأقلّ خلال ربع قرن، وتلك علامة على تراجع هيمنة الدولار.
في هذه الأوقات المضطربة لا يكاد يمرّ يوم دون أن تعلن دولة ما عن خطوة تدريجية لترويج استخدام عملتها. تُعيد الصين والهند وروسيا، ومعها دول أخرى، إحياء حديث بدأ منذ فترة طويلة بشأن التخلص من الدولرة كوسيلة لتأكيد نفوذها، وفي الوقت نفسه كضمان ضد العقوبات الأميركية، مثل تلك المفروضة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد غزوه أوكرانيا، وتلك التي تعزل إيران بعدما أعادت تشغيل برنامجها للأسلحة النووية.
الأمر ليس مسألة جيوسياسية فحسب، إذ يقول إسوار براساد، مؤلف كتاب "مستقبل المال" (The Future of Money): "بدأت الدعامات التي يرتكز عليها الدولار الأميركي تتصدع". يقول براساد، الأستاذ بجامعة كورنيل الأميركية: "تزداد صعوبة اعتبار الولايات المتحدة اقتصاداً ديناميكياً يتمتع بأداء جيد وله نظام مالي سليم ومتأصل وتدعمه عملية قوية لصنع السياسات بضوابط وموازين".
تناحر سياسي
قد لا يكترث المستثمرون كثيراً حين يدعو الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا لإنهاء عهد سيطرة الدولار الأميركي، مثلما فعل خلال زيارة رسمية للصين في أبريل. لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو التناحر السياسي في واشنطن بشأن سقف الدَّين، وهو مشهد مؤسف لكثير من الناس تكرر على مدى ربع قرن مضى، ودفع الدولة مراراً إلى حافة أزمة مصطنعة.
يقود جيمي ديمون البنك الأعلى قيمةً في العالم بصفته رئيس "جيه بي مورغان" التنفيذي، وقد أنشأ غرفة عمليات للاستعداد لما سيكون تخلّفاً "كارثياً" عن سداد الديون وقد يحدث وفقاً لوزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين في تاريخ أدناه 1 يونيو. يصحّ تصور أنَّ المصارف من وول ستريت وحتى شنغهاي مستمرة بوضع تصوراتها لسيناريوهات هذا اليوم.
بعد ثلاثة اجتماعات، عبّر الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي عن تفاؤلهما بشأن إمكانية رفع الحد الأقصى بحلول الموعد النهائي الذي حددته يلين.
حاجَّ اقتصاديون منهم سارة هاوس من "ويلز فارغو" بالقول: "أنت لا تحتاج فعلياً إلى أن تتخلف عن سداد الدَّين لكي يحلّ بالاقتصاد ضرر حقيقي". في وحدة "بلومبرغ إيكونوميكس"، وضع فريق بقيادة كبيرة خبراء الاقتصاد الأميركي آنا وونغ، تصوراً لسيناريو تؤدي فيه مواجهة ممتدة إلى ضغوط كبيرة على السوق وتضطر وزارة الخزانة إلى خفض الإنفاق الاجتماعي لإعطاء الأولوية لسداد الديون.
تشير تقديرات المحللين بشكل متحفظ أنَّ الناتج المحلي الإجمالي قد ينكمش بمعدل سنوي يبلغ 8% في النصف الثاني من العام نتيجةً لذلك.
سوق ضخمة
استفاد الأميركيون خلال الحروب وفترات الركود وجائحة كورونا من أنَّ سندات الخزانة الأميركية كانت أقرب ما تكون لأصول بلا مخاطر، ما سمح للحكومة الفيدرالية بتمويل نفسها بتكاليف أقلّ من نظيراتها.
يدعم الطلب على تلك الأوراق المالية سوقاً حجمها 24 تريليون دولار هي الأعمق والأكثر سيولة في العالم. تُعَدّ سندات الخزانة الأميركية أيضاً ركيزة لشبكة تعاملات المالية تشمل العالم بأكمله. ولو ساهم التوصل إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة في تفادي التخلّف عن السداد، فإنَّ سمعة الولايات المتحدة كدولة توفي بديونها قد تتأثر، وقد تستمرّ التداعيات لأشهُر أو حتى سنوات.
فلتأخذ في اعتبارك أنَّه خلال مزاد عُقد مؤخراً لأذون الخزانة لأجَل أربعة أسابيع، وهو أقصر أجَل استحقاق قياسي لسندات الخزانة، طلب المشترون عائداً قياسياً يبلغ 5.84%، وهي أعلى نسبة لأي من أذون الخزانة منذ 2000.
سترفع زيادة أقل وضوحاً في تكاليف الاقتراض عبء خدمة الديون القائمة، وستدفع البيت الأبيض والكونغرس المنقسم لاتخاذ قرارات صعبة لاختيار القطاعات التي ستتعرض لخفض الإنفاق. سيقل النقد المتاح للاستثمار في البنية التحتية والطاقة النظيفة وللإعانات الضخمة التي طرحتها الحكومة بغرض تعزيز التصنيع في قطاع التقنية المتقدمة لمنافسة الصين.
طريق التدمير الذاتي
احتمال أن يخفق الكونغرس بالتحرك في الوقت المناسب ليس الخطوة الوحيدة على طريق التدمير الذاتي التي تعزز الشكوك بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة يجب أن تظل في مركز النظام المالي العالمي. يثير اخفاق الاحتياطي الفيدرالي بالتعامل مع المخاطر الواضحة التي يمثلها ارتفاع أسعار الفائدة على الميزانيات العمومية للبنوك المحلية، والتي تنعكس في تحليل البنك نفسه لانهيار مصرفَي "سيليكون فالي بنك" و"سيغنتشر بنك"، تساؤلات حول قدرته الرقابية.
قال مارك سوبيل، الذي أشرف سابقاً على سياسات العملة الأميركية في وزارة الخزانة، إنَّه رغم أنَّ الأزمات المالية أمر مألوف على مدى التاريخ، فإنَّ "الإخفاقات الرقابية والتنظيمية (المتكررة) ستقوّض ثقة العالم في الاحتياطي الفيدرالي وتقلّص جاذبية الدولار على المدى الأطول".
تنبع تلك الثقة جزئياً من معيار الأخلاقيات المرتفع في المؤسسات المستقلة في الولايات المتحدة، إذ يحظى الابتعاد عن التدخّل السياسي والتزام قواعد صارمة للسلوك المهني بالتقدير. تلقّت الولايات المتحدة لطمة أخرى حين كشف الاحتياطي الفيدرالي أخيراً عن نشاط أعضاء لجنة السياسة النقدية في تداول الأسهم، ما أدَّى إلى استقالة اثنين منهم، وكذلك الكشف عن قبول كلارنس توماس، القاضي بالمحكمة العليا في الولايات المتحدة، لهدايا ورحلات بلا الإفصاح عنها.
الولايات المتحدة ليست الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي يسبّب متاعب لنفسه. يقول البعض إن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي تسبب بتقليص جاذبية البلاد كمركز أنشطة الأعمال للمستثمرين الأجانب. واجهت الدولة صعوبات في استعادة الاستقرار السياسي منذ الاستفتاء في 2016.
قد يكون للمعركة عالية المخاطر بشأن حد الاقتراض تداعيات أيضاً على أمن الولايات المتحدة. حذرت أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، في 4 مايو من أنَّ التخلّف عن السداد سينتج عنه تداعيات جيوسياسية، مع وجود "احتمال شبه مؤكد" بأنَّ روسيا والصين ستسعيان لاستغلال الحدث لدسّ الدعاية عبر "العمليات المعلوماتية". أضافت هاينز أنَّ التخلّف عن السداد سيتسبب في "ضبابية على مستوى العالم" بشأن قيمة الدولار وقيادة الولايات المتحدة والمؤسسات الأميركية.
مواجهة مع الصين
كتب ماركوس نولاند، نائب الرئيس التنفيذي لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، في مذكرة أنَّ الصين ستستغلّ الفرصة لتصوير نفسها "دولةً رائدةً رشيدةً موثوقةً" على طرف نقيض من "الدولة المهيمنة غير الموثوقة"، من أجل توسيع نطاق نفوذها. يستنتج نولاند: "بالنسبة إلى كونغرس مههوس بمقارنة وضع أميركا مع الصين، فإنَّ فكرة أنَّه سيضر نفسه ويمنح الصين مثل تلك الفرصة تبدو غير مفهومة".
تعكس أفعال بايدن كيف تُرغِم دراما سقف الدَّين الولايات المتحدة على الابتعاد عن المشهد العالمي، إذ ألغى الرئيس الأميركي زيارات مخططاً لها إلى أستراليا وبابوا غينيا الجديدة بعد زيارته هذا الأسبوع لليابان من أجل اجتماع مجموعة الدول السبع ليعود مسرعاً إلى واشنطن ويتفاوض مع الجمهوريين. يعني هذا التغيير في جدول الأعمال أنَّ بايدن ستفوته فرصة مهمة لمقابلة قادة جزر المحيط الهادئ في بورت مورسبي، وهو قرار يهدِّد بتقويض جهود الإدارة لتقوية علاقاتها مع جزر المحيط الهادئ في محاولة للتصدي لنفوذ الصين.
منافسو الولايات المتحدة ليسوا وحدهم من يزعجهم ما يبدو استخفافاً من واشنطن بالأضرار الجانبية التي تسببها السياسات الأميركية. تحمَّلت الدول الصديقة للولايات المتحدة عبء رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة أكثر من خصومها، وهو أمر اضطرّ البنوك المركزية في تلك الدول إلى مماشاته في ذلك، لأنَّه تَسبَّب في رفع قيمة الدولار مقابل عملاتها.
دول أخرى تدفع الثمن
خلال إحدى ندوات اجتماعات الربيع التي عقدها صندوق النقد الدولي في أبريل، ذكر فيليب ميدالا، محافظ البنك المركزي الفلبيني، أنَّ الولايات المتحدة استخدمت نفوذها وقوتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية لتصميم نظام مالي عالمي يلائمها، وأنَّ دولاً مثل دولته تدفع الثمن.
قال في إشارة إلى مواجهة بين عالِم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز ونظيره الأميركي هاري ديكستر وايت وضعت أساسات النظام النقدي ما بعد الحرب: "نتمنى لو أنَّ كينز فاز بالجدال في بريتون وودز بدلاً من وايت وأنَّ النظام العالمي كان سلّة لكل العملات المهمة. لكن لو كنت أميركياً، كنت سأفضّل ما حدث".
لكن تصدُّر الدولار المستمر ليس مضموناً. كتب دانييل فريد، وهو اقتصادي في مكتب الميزانية في الكونغرس، في ورقة عمل نشرها في أبريل، أنَّ حرباً أو أزمةً ماليةً قد تكون كافية لإزاحة عملة مهيمنة على العالم عن عرشها لصالح أخرى بمجرد أن يتفوق اقتصاد الدولة الأخرى عليها من حيث الحجم. هكذا خسر بها الفلورين الهولندي أمام الجنيه الإسترليني، الذي صعد إلى مركز قوة في القرن التاسع عشر، فيما خضع الإسترليني للدولار في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية.
جاء في تقرير نشره اقتصاديون لدى "غولدمان ساكس" في مارس 2022 عدة نقاط تشابه بين الجنيه الإسترليني في مطلع القرن العشرين والدولار حالياً، بما في ذلك حصة صغيرة من أحجام التجارة العالمية إذا ما قيست إلى هيمنة العملة في المدفوعات العالمية، وتدهور صافي مركز الأصول الأجنبية، وهو إلى حد كبير نتيجة الزيادة المطّردة للديون، وأوضاع جيوسياسية قد تكون غير مواتية.
كتب الاقتصاديون في التقرير: "خلاصة القول أنَّ احتفاظ الدولار بمكانته المهيمنة كعملة احتياطية يعتمد قبل كل شيء على سياسات الولايات المتحدة نفسها".
هل نجمها يأفل؟
قد نتجادل إلى ما لا نهاية حول ما إذا كانت أميركا قوة عظمى يأفل نجمها، لكن اقتصادها كان يفوق حجم نظيره الصيني بما يناهز سبعة تريليونات دولار في نهاية 2022. إضافة إلى ذلك، فكما ذكرت يلين وكثيرون غيرها، لا بديل بديهياً للدولار (أظهر مسح شمل قراء "بلومبرغ نيوز" أنَّ أدوات الخزانة الأميركية كانت ثاني أشهر الأصول المتاحة للشراء، بعد الذهب، في حالة التخلّف عن السداد).
منذ زمن غير بعيد، قد يكون تسعينيات القرن الماضي، اعتقد البعض أنَّ الين الياباني كان في طريقه ليحل محل الدولار الأميركي، فيما رأى البعض أنَّ اليورو قد ينتزع مكانة الدولار. لكن لم يُصِب أي من الرهانين. أمام حلول اليوان الصيني محل الدولار عدد كبير من الحواجز، أولها اعتماد بكين على ضوابط رأس المال للتحوط من أي تحركات مفاجئة في سعر الصرف.
ترى كاثرين شينك، أستاذة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي في جامعة أوكسفورد، أن "هيمنة الدولار تبدو لا جدال فيها، رغم تقلبات قيمته أو مدى كفاءة الحكومة الأميركية".
لذا، باختصار، قد لا تكون دراما سقف الدَّين هي الحدث الذي يعجّل بنزع عباءة الدولار، لكن ذلك ليس مدعاة للشعور بالرضا.
قال داليب سينغ، المستشار الاقتصادي السابق لإدارة بايدن، في مقابلة مع تليفزيون بلومبرغ في 8 مايو: "صدارة الدولار كنز قومي، فهي تسمح لنا بتمويل حكومتنا بتكلفة أقل بما يتراوح بين 20 و50 نقطة من المعتاد، وتسمح لنا بأن نمتصّ صدمة مثل خفض تصنيفنا الائتماني كما في 2011. كل ذلك يتعرض للتهديد من حيث الآثار طويلة الأمد لهذا النوع من الجدل".