قطاع التقنية الحيوية الصيني قيمته 220 مليار دولار لكنه متعثر

رغم الاستثمارات الضخمة لم توافق الصين على أول لقاح بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال إلا هذا العام

time reading iconدقائق القراءة - 19
لقاح \"كوفيد-19\" من انتاج مجموعة \"تشاينا ناشيونال بيوتيك\" - المصدر: بلومبرغ
لقاح "كوفيد-19" من انتاج مجموعة "تشاينا ناشيونال بيوتيك" - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

لم تكد تمضي السنة الرابعة منذ عاد لي هانغوين من الولايات المتحدة ليؤسس شركة ناشئة في شانغهاي تعمل على تطوير لقاحات مضادة للسرطان بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال، حتى ضرب فيروس كورونا الغامض مدينة ووهان.

كان لي، الباحث المتخصص بالسرطان قد تلقى تدريبه في الولايات المتحدة ولطالما ألهمته مساعي شركة "موديرنا" لاستخدام المواد الوراثية في تطوير العلاجات، إلا أنه سرعان ما حوّل تركيزه نحو تطوير لقاح صيني مضاد لفيروس كورونا.

بعد ثلاث سنوات من الجهد المضني والعمل الدؤوب امتدّ حتى ساعات الليل وعطل نهايات الأسبوع والأعياد، قاد لي أخيراً شركته الناشئة "ستيميرنا ثيرابوتيكس" (Stemirna Therapeutics) لإنتاج لقاح بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال. لكن الشركة لم تتمكّن من إنجاز اختباراتها على البشر إلا في نهاية 2022، بعد انحسار الوباء في معظم أرجاء العالم.

حتى الآن، لم يحصل لقاح لي على الموافقة إلا في لاوس، وما يزال بانتظار اعتماده في الصين.

تأخر الموافقة الصينية

واجهت شركات صناعة الأدوية واللقاحات الصينية الأخرى عراقيل مشابهة خلال فترة الوباء. فلم توافق الصين على أول جرعة لقاح بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال حتى مارس من هذا العام، وهو من إنتاج مجموعة "سي أس بي سي فارماسوتيكال" (CSPC Pharmaceutical Group) في مدينة شيجواجانغ التي تبعد 90 دقيقة من بكين للمسافر على متن القطار فائق السرعة.

إلا أن هذه الموافقة أتت بعد أكثر من عامين على طرح لقاحات "موديرنا" و"فايزر–بيونتك"، وأيضاً بعد مرور وقت على التفشي الواسع للوباء في الصين في نوفمبر بعد رفع القيود التي كانت مفروضة بموجب سياسة "صفر كوفيد".

كانت الفرصة سانحة حتى يصبح وباء كورونا اللحظة التي يلمع فيها نجم شركات الأدوية الصينية. إذ كانت إدارة الرئيس الصيني جي جين بينغ قد أدرجت التقنية الحيوية في 2015 ضمن القطاعات العشر الرئيسية التي يتعيّن تعزيزها في إطار استراتيجيته لدعم الصناعة الصينية، "صنع في الصين"، بحلول 2025.

في هذا الإطار، عملت الحكومة على تبسيط القواعد الناظمة ومطابقة المعايير مع تلك المعتمدة في الغرب، بغية تمكين شركات الأدوية المحلية من أن تصبح أكثر تنافسية لترقى إلى مستوى التحدّي في السباق مع شركات مثل "فايزر" و"أسترازينيكا" وغيرها من شركات الأدوية العملاقة.

نقص الابتكار

بالتالي، ضخّ المستثمرون الجريئون وصناديق الملكية الخاصة ومستثمرو الاكتتابات العامة الأولية وغيرهم أكثر من 1.5 تريليون يوان (216 مليار دولار) في قطاع التقنية الحيوية الصينية منذ 2015، حسب بي جينغكوان، الرئيس السابق لهيئة الرقابة على الأدوية في الصين.

بيّنت أرقام شركة "ماكيزني أند كو" أن الصين كانت موطن سبعة من أكبر عشرة اكتتابات عامة أولية لشركات الصيدلة الحيوية في العالم بين 2018 و2020، وقد ارتفعت القيمة الإجمالية للقطاع من 3 مليارات دولار في2016 إلى أكثر من 380 مليار دولار في 2021.

مع ذلك، حتى هذه الرهانات الضخمة لم تكن كافية لتحويل القطاع إلى معقل للتقنية العالية، حيث سلّط الوباء الضوء على هشاشة البيئة الابتكارية في البلاد.

أشار أكثر من عشر مؤسسي شركات التقنية الحيوية وعلماء ومستثمرين ومحللين قابلتهم بلومبرغ نيوز في الصين وخارجها إلى مجموعة من نقاط الضعف التي تعيق تقدّم قطاع التقنية الحيوية، بما في ذلك النقص في البحوث الأساسية والتردد حيال مخاطرات كبرى.

كما تحوم شكوك حول قدرة القطاع الصيدلاني الصيني على إنتاج علاجات مبتكرة، بعيداً عن سياسة تقليد الأدوية التي اعتمدها خلال العقد الماضي.

قال جين دونغ- يان، الأستاذ الاختصاصي في علم الفيروسات والسرطان في جامعة هونغ كونغ إن الصين: "ضعيفة على صعيد الابتكار ويقف القطاع الصيدلاني فيها على أرضية أكاديمية هشّة... إذا كان القطاع يفاخر فقط بتوزيع منتجات دون المستوى إلى الدول الفقيرة، فإنه لن يصل قطّ إلى العالمية، بل يعني ذلك القبول بالرجعية. سيبقى القطاع عالقاً في أسفل سلسلة القيمة، ولن يصل إلى القمّة مثل ما توقّعنا في استراتيجيات (صنع في الصين 2025)".

تخلّف صيني في السباق الدولي

ينتمي قطاعا التقنية الحيوية والقطاع الصيدلاني إلى مجموعة القطاعات الرئيسية التي تشمل أيضاً أشباه الموصلات ومحركات الطائرات التي لا تبدو فيها الصين جاهزة بعد للتنافس على المستوى الدولي، برغم حصول هذه القطاعات على الاهتمام والتمويل من الحكومة المركزية طوال سنوات.

تسلّط النكسات التي اعترضت القطاع الضوء على الصعوبات التي تواجهها الصين في تطوير منتجات جديدة بعد تركيزها طوال السنوات الفائتة على التصنيع الضخم وحصر الإنتاج بنسخ محلية من الأدوية التي تنتجها العلامات التجارية العالمية.

رغم الاستثمار في قطاع الصناعات الدوائية الصيني طوال سنوات، فهو يكاد لم يطرح أي أدوية مبتكرة، مثل تلك التي تُعرف داخل القطاع بالأدوية "الأولى من نوعها".

نشرت "ماكينزي" في أغسطس استطلاعاً شمل مديرين تنفيذيين ومستثمرين في شركات الأدوية، العديد منهم في الصين، وقد أعرب كثيرون عن تشكيكهم في قدرة البلاد على تطوير علاجات مبتكرة خلال السنوات الخمس المقبلة، نظراً لتخلّف الصين المستمرّ عن نظرائها الغربيين في المجال البحثي.

واجهت شركة لي "ستيميرنا" عوائق عديدة خلال فترة الوباء. لي، 49 عاماً، تلقى تعليمه في مركز "أم دي أندرسون" لأمراض السرطان في هيوستن، وشملت دراسته طرقاً محتملة لمعالجة الأورام باستخدام تقنية الحمض النووي الريبي المرسال المجهري، وهي جزئية تمكّن من السيطرة على نشوء البروتينات.

مع استمرار تفشي الوباء، انتقل إلى التركيز على مجال الأمراض المعدية، ولكنه لم يجد إلا القليل من العلماء ليستشيرهم في الصين. قال: "خبرتنا محدودة جداً في مجال الحمض النووي الريبي المرسال، وقد تسبب ذلك حتماً بهذه الفجوة الواسعة مع أوروبا والولايات المتحدة".

تفضيل المقاربة التقليدية

لم تكن الهيئات الناظمة في الصين مطّلعة على هذه التقنية، على عكس إدارة الغذاء والدواء الأميركية، التي سبق وأجرت تقييماً لتقنيات الحمض النووي الريبي المرسال لاستخدامها في أدوية ولقاحات محتملة.

يرجح أن يكون عدم الاطِّلاع على هذه التقنية هو ما دفع الحكومة الصينية لتجنّب المخاطرة والحرص على اعتماد مقاربة أكثر تقليدية. فوضعت المختبرات والمعامل والموافقات السريعة من الهيئات الناظمة في تصرّف الشركات التي تطوّر اللقاحات باستخدام تقنيات مجرّبة ومختبرة.

أمّا لي فاعتمد على التمويل من صناديق خاصة مثل "سيكويا تشاينا" (Sequoia China)، وأمضى كثيراً من الوقت يحاول إقناع الهيئات الناظمة أن لقاحه المستند إلى تقنية الحمض النووي الريبي المرسال آمن.

في المقابل، خاضت "موديرنا" في الولايات المتحدة تجربة مختلفة تماماً. فالشركة كانت قد بدأت بإجراء بحوث على أدوية مصنوعة بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال منذ 2011. حين تفشى الوباء حول العالم، تلقت تمويلاً بمليارات الدولارات في إطار عملية "السرعة الفائقة" التي أطلقتها الحكومة الأميركية لاستثمار الأموال في لقاحات متنوعة مضادة لفيروس كورونا.

استمرت الفجوة بين "ستيميرنا" والشركات الغربية في الاتساع في مجال الحمض النووي الريبي المرسال، وقد تخلّى لي وفريقه عن أول دواء رشحوه بعد أن فوّتوا تعديلاً بسيطاً في اللقاح كانت قد لحظته كلّ من "موديرنا" و"بيونتك". فقد استخدمت الشركتان بروتين فيروس كورونا فيما هو في مرحلة ما قبل الاندماج لضمان أن ينتج الأجسام المضادة المناسبة لمحاربة المرض، ولعلّ هذا التعديل هو ما جعل لقاحي الشركتين ذا فعالية عالية.

بالتالي، عادت "ستيميرنا" إلى نقطة البداية وراحت تعمل على صنع دواء مرشح آخر يحتوي على تعديل مشابه.

تقويض التعاون مع الشركات الأجنبية

في غضون ذلك، أدّت سياسة الرئيس تشي القومية لمكافحة كورونا إلى قطع التعاون مع الشركاء الأجانب إلى حدّ كبير. عرض المعهد الدولي للقاحات في سيول في نهاية 2020، على شركة "والفاكس بيوتكنولوجي" (Walvax Biotechnology)، إحدى كبرى شركات الأدوية الصينية، مساعدتها على تطوير لقاح محلي بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال. قال مدير عام المعهد، جيروم كيم، إن العرض كان يتضمن العمل مع "والفاكس" على اختبار لقاحها العامل بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال في أفريقيا وجنوب شرق آسيا.

رفضت "والفاكس" العرض، وهي ما تزال بانتظار الموافقة على لقاحها في الصين. وقد رفضت الإجابة على أسئلة بلومبرغ حول التعاون مع المعهد الدولي للقاحات.

تخلّفت الشركات الصينية أيضاً في صنع الأدوية المضادة للفيروسات لمعالجة كورونا، في حين أنتجت بالفعل شركات الأدوية الغربية مثل "فايزر" عقار "باكسلوفيد" وغيره من الأدوية.

قال بيتر هوتز، الأستاذ في جامعة بايلور للطبّ الذي عمل مبعوثاً لشؤون العلوم في إدارة الرئيس باراك أوباما: "كنت أظنّ أن الصين أكثر تقدماً من ذلك في مجال التقنية الحيوية... كان ذلك جرس إنذار لنا جميعنا".

رغم نقاط الضعف في اللقاحات الصينية، إلا أنها شكلت الجزء الأكبر من اللقاحات المتوفرة للدول الفقيرة في بداية الوباء بعدما احتفظت الدول الغربية بإمدادات لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال الأكثر فعالية لنفسها، وقد انتقل العديد من الدول الفقيرة لاحقاً إلى استخدام اللقاحات الغربية بعد زيادة الإمدادات.

طموح مستقبلي

حقق قطاع صناعة الأدوية خطوات كبيرة في مجالات أخرى أيضاً، وقد استفادت جهات متعددة من قدرة شركات الأدوية الصينية على صنع نسخ من العقاقير التي عليها طلب بأسعار أقلّ وسرعة أكبر.

من إنجازاتها، مجموعة من أدوية الأورام تعرف باسم علاجات "بي دي – 1" (PD-1) التي طوّرتها شركات صينية محلية بتكلفة أقلّ، بعد سنوات من بدء شركتَيْ "ميرك أند كو" (Merck & Co) و"بريستول – مايرز سكويب" (Bristol-Myers Squibb) ببيع نسخهما منها.

في غضون ذلك، تعمل بعض شركات التقنية الحيوية على تطوير عقاقير مبتكرة لا تتوفر في الغرب. رغم أن هذه الجهود ما تزال في بداياتها، إلا أنها نجحت في جذب شركات أدوية غربية عملاقة مثل "أسترازنيكا" و"ميرك" اللتين تبحثان دائماً عن دواء جديد يحتمل أن يجلب لهما مبيعات عالية.

كما أن هناك سعياً لإبرام صفقات إضافية بين شركات غربية وصينية تطوّر أدوية جديدة مرشحة.

على الرغم من كلّ ذلك، فإن خيبات الأمل المتعلقة بفيروس كورونا، ما هي إلا عثرة جديدة في سجل الصين الحافل بالعثرات، بحسب سكوت مور، المتخصص بالعلوم السياسية ومدير برامج الصين والمبادرات الاستراتيجية في جامعة بنسلفانيا ومؤلف كتاب عن الصعود الاقتصادي للصين.

قال: "الإخفاق في اللقاحات جزء من تاريخ طويل من سوء الأداء في مجال الابتكار في الصين، على الأقل في مجال التقنية".

عقبات أخرى

في الولايات المتحدة، يأتي كثير من الابتكارات من شراكات بين الجامعات والشركات الخاصة، بحسب نيسا ليونغ، المديرة الشريكة في "كيمينغ فنتشور بارتنرز" (Qiming Venture Partners) في شانغهاي، التي تستثمر في شركات الأدوية الناشئة المحلية. إلا أن الصين ما تزال تعاني ثغرات عديدة على صعيد البحوث الأساسية، وأضافت: "لا يوجد بعد ما يكفي من الخبرة في نقل التقنية من الجامعات إلى المنتجات التجارية".

واجهت شركات الأدوية الصينية عقبات أخرى أيضاً تتعدّى كورونا، فقد رفضت الهيئات الناظمة في الولايات المتحدة في 2022 أدوية سرطان من إنتاج شركتيْ "إنوفينت بيولوجيكس" (Innovent Biologics) و"هاتشميد تشاينا" (Hutchmed China) الصينيتين، رغم أن الأدوية سبق أن حصلت على موافقة محلية في الصين، وذلك لأن بيانات الشركتين لم تتضمّن تمثيلاً كافياً لمرضى خارج الصين.

كما أن دواء آخر طوّرته شركة "شانغهاي غرين فالي فارماسوتيكال" (Shanghai Green Valley Pharmaceutical) وحصل على الموافقة في الصين في نهاية 2019 استوجب توقف العمل عليه في المراحل الاختبارية العالمية الأخيرة، التي تهدف لجمع بيانات حول الأمان والفعالية في الأسواق المتطورة مثل الولايات المتحدة، وذلك بسبب نقص التمويل وعدم متابعة المرضى خلال فترة الوباء.

قال وانغ جينغسونغ، مؤسس شركة الأدوية "إيتش بي أم" القابضة (HBM Holdings) في شانغهاي إن "أزمة الصحة العامة كانت اختباراً لقطاع الصيدلة الحيوية، وأثبتت أن الابتكار ليس وليد اليوم، بل ثمرة تراكمات طويلة المدى، ولا يأتي من شركة واحدة فقط، بل من القطاع بأكمله تحت رعاية البلاد برمّتها".

لكن حتى الآن، ما تزال شركات التقنية الحيوية الصينية تعتمد إلى حدّ كبير على تقليد أفضل المنتجات الصيدلانية الغربية. قال بي، الرئيس السابق لهيئة الرقابة على الأدوية في الصين خلال ندوة في بكين في نهاية 2021: "الأدوية الجديدة المبتكرة ذات الأهداف الجديدة، أي الجزيئات الجديدة التي تعمل وفق آلية جديدة، نادرة ندرة النجوم في النهار".

تصنيفات

قصص قد تهمك