مراكب الصيد.. عدو كابلات الإنترنت البحرية الأكبر

معدات صيد السمك وجرّ القوارب لمراسيها على قاع البحر وراء نحو 60% من انقطاعات الإنترنت

time reading iconدقائق القراءة - 10
مجموعة من البحارة العاملين لحساب شركة \"غلوبال مارين\" يوضحون كيف يرفعون كابل عريض النطاق من أعماق البحر لإصلاحه - المصدر: بلومبرغ
مجموعة من البحارة العاملين لحساب شركة "غلوبال مارين" يوضحون كيف يرفعون كابل عريض النطاق من أعماق البحر لإصلاحه - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تلقى العضو المنتدب في شركة "شيفا" (Shefa)، التابعة لـ"فارويز تيليكوم" (Faroese Telecom) في جزر فارو، مكالمة هاتفية من أحد تقنييها مساء 14 أكتوبر ليبلغه أن عطلاً أصاب كابل اتصال أرخبيل شتلاند، الممتد على مسافة 160 كيلومتراً قبالة ساحل اسكتلندا، بجزر فارو.

بعدها بأيام قليلة، في 20 أكتوبر بعد منتصف الليل بقليل، تلقى بال هويغارد فيستوربو مكالمة هاتفية أخرى تفيد بتعرض كابل آخر بين جزر شتلاند والبر الرئيسي البريطاني للتلف.أثّر هذان العطلان معاً بشدة على اتصالات الهاتف والإنترنت في الجزر، كما أوقفا قبول المتاجر لبطاقات الائتمان لمدة يوم واحد.

الكابلات البحرية هدف محتمل للتخريب

حدثت هاتان الواقعتان بعد أقل من شهر من انفجارات خطّي أنابيب "نورد ستريم"، وقالت الحكومات الغربية إن الكابلات البحرية هدف محتمل لعمليات التخريب التي تدعمها حكومات. لكن فيستوربو يشتبه في تورط طرف آخر، وهو قطاع الصيد.

قال فيستوربو: "الأمر محبط"، شارحاً أن مراكب صيد السمك كانت وراء أغلب حالات انقطاع كابلات شركته. أضاف: "تُرسل مواقع كابلاتنا إلى معدات الملاحة في المراكب، لذا فإن تفادي الإبحار عبر مسارات الكابلات يجب أن يكون تلقائياً. كما أن أغلب البحارة ينتبهون للكابلات".

يضع تمدد الإنترنت من حيث معداتها شركات التقنية العملاقة، مثل "غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت"، المسؤولة عن نسبة متنامية من الكابلات البحرية التي تنقل الإشارات حول العالم، على مسار تصادمي مع قطاعٍ أقدم بكثير.

تتسبب معدات صيد سمك القد وموسى والحبار وغيرها من الكائنات التي تعيش في أعماق البحار، وكذلك جرّ مراسي السفن على قاع المحيط، بنحو 60% من انقطاعات الإنترنت، وفقاً لتقرير أصدرته لجنة حماية الكابلات الدولية في 2021. يتسبب نهش الأسماك للكابلات في 0.1% من حجم التلف. بشكل عام، تتراوح تكلفة التصليحات لواقعة واحدة بين 250 ألف دولار و3 ملايين دولار.

تقول الشركات المسؤولة عن الكابلات إنها تقدم خرائط مجانية لشبكاتها، ما يُفترض أن يساعد مراكب الصيد والشحن على الابتعاد عن مسار الكابلات. لكن الصيادين يشتكون من أن التوسع سريع الوتيرة في البنية التحتية في البحار – مثل الكابلات وأنابيب النفط والمنشآت البحرية لتوليد طاقة الرياح – يُشغل مساحات ثمينة في المحيط ويهدد أعمالهم.

قال باتريك ميرفي، الرئيس التنفيذي لمنظمة "أيريش ساوث آند ويست فيش بروديوسرز" (Irish South & West Fish Producers Organisation): "كل ما يريده الصيادون هو أن يصيدوا السمك، لكننا نُبلغ بشكل متزايد بضرورة تجنب كل هذه الكابلات. تحاول الشركات العملاقة دفعنا بعيداً عن طريقها".

أعطال متكررة

تتعرض الكابلات البحرية لأعطال نحو 200 مرة سنوياً، أغلبها إتلاف غير مقصود. في أغلب الأوقات، تتأثر خدمات الإنترنت بشكل محدود، هذا إن تأثرت، لأن أغلب شركات تشغيل الكابلات لها اتفاقات تتيح لها تحويل حركة الاتصالات عبر الإنترنت إلى مسار بديل في شبكة عنكبوت مؤلفة من قرابة 1.4 مليون كيلومتر من الكابلات البحرية النشطة، التي تلف الكرة الأرضية.

التسبب في أعطال شديدة في المملكة المتحدة يتطلب قطع 19 كابلاً في آن معاً. أما الأماكن التي تكون إمكانيات الاتصالات فيها أضعف، خصوصاً التجمعات السكانية في الجزر مثل شتلاند، فهي أكثر عرضة لاضطرابات الاتصالات بكثير.

في 2008، انقطعت الإنترنت عن نحو 75 مليون شخص في الشرق الأوسط والهند بعدما أتلفت مرساة سفينة ما أحد الكابلات أثناء محاولتها الرسو في طقس سيئ قبالة سواحل مصر.

في 2016، سحبت سفينة عن طريق الخطأ مرساتها على امتداد قاع البحر في بحر المانش، فقطعت الكابلات الثلاثة الرئيسية التي تربط جزيرتي غيرنزي وجيرزي من جهة والبر الرئيسي للمملكة المتحدة من جهة أخرى.

يتطلب تصليح أي كابل مقطوع استدعاء سفينة إصلاح، وهي عادةً تكون إحدى سفن أسطول تتشاركه عدة شركات كجزء من اتفاقية صيانة، للإبحار إلى الموقع التقريبي والبحث عن الكابل المقطوع باستخدام غواصات يُتحكم بها عن بعد، ثم إخراج هذه الكابلات والربط بينها بقطعة جديدة قبل إعادتها إلى قاع البحر.

تختلف التكلفة بناءً على الوقت الذي تحتاجه السفينة للوصول إلى الجزء الذي تعرض للتلف وعمق الكابل وهيجان البحر. خلال تلك العملية، يجري مشغل الكابل أيضاً تحقيقاً في سبب التلف، مع التركيز على الجهة التي يمكن رفع دعوى قضائية ضدها.

نظام تحديد الهوية الآلي

المراكب الأوروبية التي يفوق طولها 15 متراً مُطالبة قانوناً ببث موقعها طوال الوقت، لكن بعض ربابنة السفن يوقفون معدات التتبع، المعروفة باسم نظام تحديد الهوية الآلي، لتفادي كشف مناطق صيد مربحة لمراكب أخرى، أو في بعض الحالات للتغطية على نشاط غير قانوني.

قال فريق فيستوربو، الذي يعمل في "شيفا"، إنه حدد هوية أحد المراكب الذي كان مسؤولاً عن الواقعة التي حدثت في أكتوبر، من خلال نظام تحديد الهوية الآلي الخاص بالمركب. يتواصل الفريق الآن مع شركة صيد الأسماك التي تملك المركب، ويسعى لتعويض تكاليف الإصلاح التي بلغت مئات آلاف الدولارات.

لم تكتشف "شيفا" بعد هوية المركب الآخر، الذي لم يكن يصدر إشارة من نظام تحديد الهوية الآلي لديه، لكنها تقارن بيانات التتبع الخاصة بمراكب أخرى بصور الأقمار الصناعية، وفقاً لفيستوربو.

مسؤولية قطاع الصيد

يرى قطاع الكابلات البحرية أن مسؤوليته تقتصر على تقديم معلومات عن موقع الكابلات، فيما يرغب قطاع الصيد بأن يُستشار قبل تركيب الكابلات.

قال بيتر جيميسون، نائب رئيس مجلس الإدارة للرابطة الأوروبية للكابلات البحرية: "الكابلات البحرية موجودة منذ 1884، وقطاع الكابلات يبذل كل ما بوسعه لتقديم معلومات لقطاع الصيد عن أماكن وجود الكابلات. بإمكانهم نشر شباك الصيد إلى أن يقتربوا من أحد الكابلات دون أن يصيدوا فوق الكابل نفسه".

قالت إيلاين وايت، التي تمثل قطاع الصيد في اسكتلندا، إن مشغلي الكابلات عليهم بذل مزيد من الجهد لضمان تفادي مناطق الصيد المهمة. في الوضع الراهن، تقول وايت إنها هي وزملاؤها يشعرون بأنهم غير قادرين على مجاراة الأمر: "نحن لسنا على قدم المساواة مع تلك الشركات". ترغب وايت وغيرها أن يُستشاروا خلال مرحلة تخطيط مسارات الكابلات لضمان أنها مدفونة في أعماق قاع البحر أو أن مسارها يبتعد عن مناطق الصيد المهمة.

هل من حلول؟

أحد الحلول هو مد الكابلات قرب بعضها بعضاً في قنوات مخصصة، لكي لا تحتاج المراكب إلى الإبحار عبر متاهة من كابلات الألياف الضوئية. لكن مد كل الكابلات في موقع واحد يزيد من خطر تعرضها كلها للتلف مرة واحدة.

في الوقت الحالي، الشركات التي تعتمد على الكابلات تراقبها عن كثب. يتابع بريان كويغلي، المدير الأول لشبكة البنية التحتية العالمية لدى "غوغل"، الممتلكات البحرية الخاصة بالشركة على خارطة ضخمة، تحسباً لتقطعات في حركة الاتصالات عبر الإنترنت.

كما يرصد أيضاً مواقع المراكب المتاحة في حالة الاحتياج لإصلاحات. حاولت "غوغل" استخدام اللوغاريتمات لمد كابلات تتفادى مسارات مراكب الصيد وإرسال إشارات بالراديو للمراكب التي تقترب من معداتها أكثر من اللازم، لكنها لم يحالفها الحظ. يُقِرّ كويغلي: "ليس بوسعنا عمل الكثير بشأن الأمر". اختارت "غوغل" الاستثمار في دروع متينة للكابلات والعديد من المسارات البديلة.

انفراجة جديدة

في ولاية أوريغون الأميركية، حقق القطاعان انفراجة بعدما تلقى سكوت ماكمالن، وهو صياد في الجزء الشمالي من الولاية، إشعاراً في منتصف تسعينيات القرن الماضي بشأن كابل شمال المحيط الهادئ، وهو خط جديد لشبكة ألياف ضوئية.

ينص الخطاب الذي تلقاه ماكمالن على أن عليه تجنب منطقة تبلغ مساحتها 80 ميلاً مربعاً في المحيط، لئلا يتعرض "للتغريم أو السجن أو الصعق بالكهرباء" إذا أتلف الكابل الذي يجري تركيبه. لكن القريدس صغير الحجم زهري اللون الذي كان ماكمالن يصطاده كان يظهر في تلك المساحة، لذا كان ماكمالن عادةً ما يتتبعه فيها. يتذكر ماكمالن الأمر قائلاً: "لم يعجبنا الأمر. لكن عندما تضطر لكسب العيش، فليس أمامك سوى السعي وراء القريدس".

لم يرد ماكمالن دخول السجن ولا التعرض للصعق، لذا تواصل مع شركة تشغيل الكابلات، وعقد صفقة معها، مقتضاها أنه إذا علقت مرساة المركب أو معدات الصيد قرب أحد الكابلات، لا تستكمل السفينة رحلة الصيد هذه ويساهم مشغلو الكابلات بدعم صندوق لتغطية تكاليف معدات الصيد المتروكة، وتتفق جميع الأطراف على عدم رفع دعاوى قضائية.

حالات محدودة

قال ماكمالن إنه خلال 25 عاماً، واجهت مجموعته المسماة "أوريغون فيشرمنز كيبل كوميتي" (Oregon Fishermen’s Cable Committee)، 9 حالات فقط علقت فيها معدات الصيد في أعماق البحر، ولم تتسبب أي منها بتلف للكابلات.

نظراً لأهمية الاتصال بالإنترنت، تدور تكهنات عن أن حوادث مراكب الصيد قد تكون بمثابة غطاء يستفيد منه أي طرف يقوم بمحاولات تخريب متعمدة.

لكن فيستوربو ليس مقتنعاً بوجهة النظر هذه، ويقول إن أغلب قطاعات الكابلات مدفونة بعناية وبعض القطاعات فقط هي المكشوفة، كما أن الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الحنكة لقطع كابلات الإنترنت في مكان ما بشكل استراتيجي، وذلك عبر إتلاف القطاع الصحيح من الكابل.

كانت هناك حالة واحدة غريبة في يناير 2022، حين قُطع كابل بين النرويج وسفالبارد، وهي مجموعة جزر في القطب الشمالي. تتبع صحفيون في وكالة الأنباء النرويجية "إن آر كيه" (NRK)، بيانات نظام تحديد الهوية الآلي، التي أظهرت أن سفينة صيد روسية مرّت فوق الكابل 20 مرة في التوقيت نفسه الذي تعرض فيه الكابل للتلف.

يعتقد ديريك بولوك، وهو مستشار اتصالات، أن هناك سيناريوهات منطقية قد يحاول فيها شخص ما القيام بعملية كهذه. قال: "الأمر لا يشبه جيمس بوند كما تتصور. أنت لست بحاجة لاستخدام معدات متخصصة. فكل ما تحتاج إليه هو سفينة، ثم جرّ المرساة على القاع حتى ينقطع الكابل".

تصنيفات

قصص قد تهمك