بلومبرغ
يتطلب إقلاع طائرة "إيرباص إيه 320" تزن 80 طناً كمية هائلة من الوقود، إذ تحمل الطائرة لتحلق مسافة 4800 كيلومتر أكثر من 20 ألف لتر من الكيروسين، أي نحو 10 أضعاف وسطي الوقود الذي تستهلكه سيارة عادية لمدة عام.
الرحلات الطويلة هي الأكثر تلويثاً، إذ تنتج رحلة جوية من فرانكفورت إلى نيويورك على متن طائرة ”بوينغ 747“ نفس كمية ثاني أكسيد الكربون التي تنبعث عن تدفئة 440 منزلاً ألمانياً لمدة عام، أو قرابة طنين تقريباً لكل راكب.
لا عجب إذاً أنَّ الطيران أصبح هدفاً رئيسياً لنشطاء المناخ والمشرعين، الذين يدعون الناس لتقليل اعتمادهم على الطيران، أو لاستخدام القطارات في الرحلات الأقصر. كما تتخذ بعض الدول إجراءات حالياً مثل حظر الرحلات الجوية القصيرة التي يكون القطار بديلاً معقولاً لها.
اخترق مزيد من المعارضين المتطرفين العام الماضي أسوار مطاري برلين وميونيخ، وألصقوا أنفسهم حرفياً على مدارجها. تريد غرينبيس أن تُمنع الطائرات الخاصة في أوروبا، وتقول إنَّها "ملوثة بشكل مذهل وغير مجدية عموماً“.
التزامات من الشركات
تدرك شركات الطيران وشركات صنع الطائرات أنَّه يجب عليهم إزالة الكربون إن أرادوا ردع الاحتجاجات وتخفيف القيود التشريعية المعيقة للنمو. تبرز أوروبا، موطن شركة ”إيرباص“ وصنّاع المحركات مثل ”سافران“ (Safran) و“رولز رويس“ إضافة إلى مجموعة من الشركات الناشئة في مجال الطيران، كقاعدة اختبار طموحة للتقنيات الجديدة، بدفع من قادة الاتحاد الأوروبي، الذين يرغبون أن يكون اقتصاد الكتلة محايداً مناخياً بحلول 2050 ليسبق المناطق الأخرى.
التزمت ”إيرباص“ وبعض أكبر مجموعات شركات الطيران في أوروبا، بما فيها (IAG) ”أي إيه جي“ مالكة ”بريتيش إيرويز“ و“دويتشيه لوفتهانزا“ (Deutsche Lufthansa) و“إير فرانس-كيه ال ام“ (Air France-KLM) و“ريان إير“ (Ryanair) بالحياد الكربوني بحلول 2050.
لكنَّ إزالة الكربون من الطيران محفوفة بعقبات تقنية واقتصادية، ليس أقلها قوانين الفيزياء التي لا تنتهي. بينما تعمل شركات ناشئة مثل ”هارت إيروسبيس“ (Heart Aerospace) السويدية للطائرات الهجينة على طائرات أصغر تعمل بالبطاريات، لا توجد حتى الآن طرق دفع صديقة للبيئة قابلة للتطبيق لطائرات المسافات الطويلة.
الهيدروجين ومخاطره
تراهن ”إيرباص“، أكبر صانعة للطائرات في العالم، على أنَّ الطائرات التي تعمل بالهيدروجين التي لا تنتج ثاني أكسيد الكربون، يمكن أن تكون حلاً لطيران بلا انبعاثات، وتقول إنَّه سيكون لديها نموذج يعمل بالهيدروجين في الخدمة بحلول منتصف العقد المقبل.
تحوّل الشركة أول طائرة عملاقة صنعتها من طراز ”إيه 380“ (A380) إلى طائرة تجريبية كي تعمل بالهيدروجين، ومن المقرر أن تختبر طيران محرك احتراق الهيدروجين على هذه الطائرة ابتداءً من 2026.
قال غلين ليولين، نائب رئيس برنامج ”زيرو إي إيركرافت“ (Zeroe Aircraft) للانبعاثات الصفرية لدى ”إيرباص“: "أحب ما يفعله الطيران، وهو الجمع بين الناس… في الوقت نفسه، أريد القضاء على تأثيره على المناخ. هذا إلزامي إن أردنا أن نكون قادرين على ربط العالم فعلياً بالمستقبل".
تحاول ”إيرباص“ حشد صناعة الطيران وراء التقنية. تختبر ”بوينغ“ خلايا وقود الهيدروجين على طائرتها العسكرية من دون طيار ”سكان إيغل 3“ (ScanEagle3)، لكنَّها قالت إنَّ رحلة الهيدروجين ستستغرق عقوداً لتطويرها وطرحها في السوق.
يعتبر التحول من الكيروسين إلى الهيدروجين أمراً معقداً، وسيتطلب إصلاحاً شاملاً للبنية التحتية على الأرض في المطارات لدعم الاستخدام الواسع للوقود الجديد. يحتاج الهيدروجين أيضاً إلى التبريد وهو أكثر قابلية للاشتعال من الكيروسين.
الوقود المستدام
تعني الجداول الزمنية الطويلة لإصدار الشهادات والتطويرات، التي ما يزال يتعين بلوغها لاستخدام الهيدروجين، أنَّ شركات صناعة الطائرات وشركات الطيران بحاجة لإيجاد حل مؤقت. هذا هو السبب وراء ظهور ما يسمى بوقود الطيران المستدام كجسر نحو طائرات خالية من الانبعاثات.
يشبه وقود الطيران المستدام كيميائياً وقود الطائرات، لكنَّه لا يتطلب استخراج المزيد من النفط. في حين أنَّ هذه الأنواع من الوقود تطلق ثاني أكسيد الكربون عند حرقها؛ فإنَّ المواد الأولية الخاصة فيها تحتوي على ثاني أكسيد الكربون الذي كان يطفو سابقاً في الغلاف الجوي، مما يجعله أكثر خضرة من الكيروسين.
بعضه وقود حيوي مصنوع من زيت الطهي أو نفايات البلدية، على سبيل المثال، في حين أنَّ بعضه الآخر وقود صناعي مصنوع من خلال الجمع بين الهيدروجين والكربون الذي يتم التقاطه من الغلاف الجوي.
كجزء من دفع الاتحاد الأوروبي للحياد الكربوني؛ يريد أن يحتوي وقود الطائرات على 2% من الوقود المستدام بدءاً من 2025، وأن يرتفع ذلك إلى 63% بحلول 2050، اعتماداً إلى حد كبير على شركات الطيران التي تستخدم الوقود الحيوي بدلاً من البدائل الاصطناعية.
لكنْ في الوقت الحالي؛ فإنَّ إنتاج الوقود المستدام محدود للغاية، ويقول مسؤولون تنفيذيون في شركات الطيران إنَّ الإنتاج السنوي العالمي بالكاد يكفي أساطيلهم لبضعة أيام. أشار النقاد إلى أنَّه قد لا يكون هناك ما يكفي من النفايات الحيوية المتاحة لبلوغ الأهداف، وأنَّ الاتحاد الأوروبي يجب أن يُلزم الشركات بحصة أكبر من الوقود الاصطناعي.
فارق الأسعار
وعدت شركات مثل ”نيستيه“ (Neste) الفنلندية بزيادة إنتاج وقود الطيران المستدام مع نمو الطلب. تستخدم ”نيستيه“ نفايات زيوت الطهي ومخلّفات الدهون الحيوانية لصنع وقود طيران مستدام، وتستكشف المواد الأولية الأخرى بما في ذلك النفايات الصلبة البلدية. قال جوناثان وود، نائب رئيس الشركة لشؤون الطيران المتجدد، إنَّ الشركة تختبر أنواع وقود الطائرات الاصطناعية المُصنَّعة عن طريق الجمع بين الكربون المجمع والهيدروجين المستخرج عبر تحليل الماء باستخدام كهرباء تولدها الطاقة المتجددة. تكون خصائص المنتج مشابهة للكيروسين.
قال وود: "لن أتظاهر أنَّه في المستقبل القريب على الأقل، سيكون وقود الطائرات الأحفوري ووقود الطيران المستدام بالسعر نفسه… لكنْ علينا أيضاً أن نتذكر أنَّ هناك تكاليف متعلقة بالانبعاثات، لذلك لا يمكنك النظر فقط للسعر المعلن لوقود الطائرات الأحفوري".
جادل مسؤولون تنفيذيون في شركات الطيران بأنَّ المشرّعين يجب أن يشجعوا بدل أن يفرضوا استخدام وقود الطيران المستدام، لا سيما عبر إعانات لتغطية تكاليف الإنتاج المرتفعة. تقدّر ”لوفتهانزا“ أنَّ وقود الطيران المستدام أغلى بثلاث إلى خمس مرات من وقود الطائرات العادي، حتى بعد تمكينه الزبائن من الدفع مقابل استخدام الوقود المستدام عبر نظام الحجز، كجزء من سعر التذكرة، للتعويض عن انبعاثات الكربون، لكنَّ عدداً قليلاً منهم قد اختار ذلك.
قال رئيس ”لوفتهانزا“ التنفيذي كارستن سبور، الأسبوع الماضي في مؤتمر في بروكسل، إنَّه ليس كل ركاب الدرجة الأولى في الشركة يرغبون بدفع ما يصل إلى 15000 يورو (16350 دولاراً) مقابل مقعد، على استعداد لدفع 500 يورو إضافية للطيران المحايد كربونياً عبر شراء الوقود المستدام.
تختار نسبة مئوية قليلة من الركاب حالياً في جميع درجات الطيران دفع ثمن الكربون الخاص بهم، وقال: "كيف يمكنني إهدار أموال المساهمين في شراء وقود أكثر تكلفة عندما لا يدفع أحد مقابل ذلك؟".
عامل الوزن
بينما أصبحت البطاريات شائعة في النقل البري، لكنَّ لها عيوباً كبيرةً على الطائرات؛ فهي ثقيلة، وتحتفظ بوزنها دون تغيير طوال الرحلة، على عكس الوقود السائل الذي يحترق. كما توفر البطاريات طاقة للوزن أقل بكثير من الكيروسين (250 واطاً/ساعة لكل كيلوغرام من البطاريات مقابل 12000 واط/ ساعة لكل كيلوغرام من الكيروسين). هذا يعني أنَّه يجب تقليص مقصورة الركاب أو مساحة الشحن لاستيعابها. يطرح الهيدروجين تحديات التخزين الخاصة به، بما في ذلك التبريد، وحقيقة فهو قابل للانفجار عندما يكون غازاً، مما يزيد من احتمال وقوع حوادث ناتجة عن تسرب الوقود.
البطاريات تبشر بطائرات أصغر حجماً. تصنع ”هارت إيروسبيس“ طائرة كهربائية إقليمية ”إي اس-30“ (ES-30)، وتزمع الشركة أن تبدأ تسليمها في 2028. تتوقَّع ”هارت“ أنَّ الطائرة التي تعمل بأربعة محركات كهربائية ستتمكن من نقل 30 راكباً لمسافة حوالي 200 كيلومتر باستخدام طاقة البطارية وحدها، و400 كيلومتر مع النظام الهجين الذي يتضمن مولّدين احتياطيين يعملان بوقود طائرات يشحن البطاريات.
تتنافس ”هارت إيروسبيس“ مع عدد قليل من مشروعات تخص شركات ناشئة، ومع برامج من مصنّعي الطائرات الراسخين لتقديم طائرة ركاب كهربائية إلى السوق بحلول نهاية العقد.
إنَّ أبسط طريقة لتقليل انبعاثات الطيران المتزايدة هي تثبيط الركاب بفرض ضرائب أعلى. مع ذلك؛ فإنَّ هذا من شأنه أن يزيد من حدة الانقسام الاقتصادي بين الشمال الغني للقارة والجنوب المتعثر. تمثل السياحة حوالي خمس الناتج الاقتصادي في كرواتيا واليونان والبرتغال. أما في دول شمال أوروبا مثل ألمانيا وهولندا؛ فيبلغ هذا الرقم حوالي 10%.
سواء كان ذلك من خلال جعل الطيران أغلى عبر فرض ضرائب أو تطوير وقود أخضر أو أساليب الدفع؛ فإنَّ الطيران الرخيص يتجه كي يكون شيئاً من الماضي في أوروبا، حيث تسعى الصناعة إلى التخلص من استهلاك الكيروسين.
قال ييانلوكا أمبروسيتي، رئيس شركة ”سينهيليون“ (Synhelion)، التي تختبر إنتاج وقود الطيران المستدام باستخدام الطاقة الشمسية في ألمانيا: "سيكون الطيران أعلى تكلفة عندما يكون أكثر استدامة…الخبر السار هو أنَّك ستظل قادراً على الطيران".