بلومبرغ
يسلّم كثيرون بحتمية أن الولايات المتحدة ستتفادى السقوط في جحيم التخلف عن سداد مستحقات ديونها الاتحادية هذا العام، إلا أن مسلّمات بُنيت على أساس الاهتداء بالعرف قبل أشهر فقط من وقوع صدمات قلبت العالم رأساً على عقب في السنوات الماضية ثبتت خيبتها بفداحة. كان منها انهيار مصرف "ليمان براذرز" ونتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016 وتفشي كورونا حول العالم.
تتأتى الصدمة التي قد تضرب الاقتصاد من مواربة إجرائية تخص الحكومة الأميركية تتقاطع مع تصاعد مشاحنات الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لقد بلغ الدين الاتحادي سقفه القانوني الذي حدده الكونغرس فيما يطالب جمهوريو مجلس النواب بتنازلات من الديمقراطيين والبيت الأبيض قبل أن يقرّوا رفعه.
هذه المواجهات ليست جديدة، إلا أن المشرّعين لم يسبق أن أخفقوا بالتوصل إلى رفع لسقف الدين أو تعليق العمل بالسقف المحدد قبل نفاد السيولة لدى وزارة الخزانة، التي تمكّنها من الإيفاء بالتزامات الولايات المتحدة المالية.
أسواق غير قلقة
قال الخبير الاقتصادي في جامعة "جورج مايسون" تايلر كوين، الذي يكتب مقالات رأي تنشرها بلومبرغ: "إن لم يحصل أمر ما لفترة طويلة، فهو يسقط من الذاكرة ببساطة". أضاف كوين، تلميذ توماس شيلينغ، أحد روّاد "نظرية اللعبة" وهي دراسة تركز على تنافس الأشخاص ليحصلوا مبتغاهم من مصالح أو يتعاونوا لصالح قرار مشترك: "نبدأ ببساطة بافتراض أن هذا أمر لا يمكن أن يحدث ولن يحدث، فلا يستوعبه عقلنا".
لا تبدي الأسواق المالية قلقاً كبيراً، إذ يستبعد الخبراء الاقتصاديون أن يخفق المشرّعون بالتوصل إلى اتفاق. إذ يفترض معظم المعنيين أنه في هذه اللعبة، لا يطيق أي من الطرفين تبعات عدم رفع سقف الدين. سيحل التاريخ "أكس"، الذي يشير إلى اليوم الذي لن تعود فيه الحكومة قادرة على سداد مستحقاتها، في غضون بضعة أشهر فقط، لكن الظروف السياسية المحيطة بالمفاوضات هذه المرة تبدو أخطر من كل المواجهات السابقة.
بالنسبة للأميركيين الذين يرزحون أصلاً تحت وطأة ارتفاع أسعار الفائدة، فإن تخلّف الولايات المتحدة عن السداد سيرفع كافة تكاليف الاقتراض، من الرهون العقارية إلى بطاقات الائتمان وقروض السيارات. كما أن محافظ خطط التقاعد (401 k) المتهالكة أصلاً ستكون عرضة لمزيد من الضربات.
انتهى النزاع حول سقف الدين في 2011 بتسوية جنّبت البلاد التخلّف عن السداد، إلا أنها أدت إلى انخفاض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" 17%. يبدو أن النزاع هذا العام سيأتي على القدر نفسه من الشراسة على أقل تقدير.
علّقت تريسي تشين، مديرة محفظة لدى شركة "برانديواين" (Brandywine) لإدارة الاستثمارات الدولية في فيلادلفيا: "السوق مطمئنة جداً، فيما الأجدى بالمستثمرين توخي الحذر الشديد، فهذه المرة سقف الدين سيكون الحدث الأهم والأخطر هذا العام".
يحدّ سقف الدين قدرة الحكومة على الاستدانة كي تفي بالالتزامات التي سبق أن أقرها الكونغرس. كانت الولايات المتحدة قد بلغت هذا السقف في يناير إلا أن الخزانة تمكنت حتى الآن من الاعتماد على إجراءات محاسبية خاصة لتواصل السداد.
تبعات مجهولة
من شأن تخلف الولايات المتحدة عن سداد الدين الاتحادي أن يعرّض النظام المالي الأميركي لأكبر صدمة منذ إفلاس مصرف "ليمان براذرز"، الذي جلب أسوأ ركود منذ الكساد الكبير.
رغم أن المتداولين والهيئات الناظمة استفادوا حتماً من دروس النزاع حول رفع سقف الدين في 2011، الذي لم يُحلّ إلا قبل بضعة أيام من التخلّف عن السداد، إلا أن لا أحد يعرف ما إذا كانت الإجراءات التي ستُعتمد ستكفي لدرء انهيار مالي ممنهج آخر.
القرار الأول الذي يتعين على وزارة الخزانة اتخاذه حين تصل إلى التاريخ "إكس" هو ما إذا كانت ستمنح الأولوية لبعض الالتزامات على حساب أخرى، رغم أن بعض الخبراء يحذّرون من استحالة انتقاء الديون التي تُسدد.
يفترض عدد من المسؤولين السابقين أن الخزانة ستواصل دفع مستحقات الأوراق المالية الحكومية البالغة قيمتها 24 تريليون دولار، فالتخلف عن تسديد هذه الدفعات سيقوّض السندات التي تشكل عوائدها معياراً لاحتساب تكلفة الاقتراض حول العالم.
تشكل سندات الخزانة ضمانات لقروض أسواق المال قصيرة الأجل المقدرة بتريليونات الدولارات، فهي جزءٌ لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي لدرجة أنه يصعب التكهن بأضرار التخلف عن السداد.
قال روبرت تومي، المدير الإداري لرابطة قطاع الأوراق المالية والأسواق المالية، وهي أكبر تجمع للوسطاء والبنوك الاستثمارية ومديري الأصول في الولايات المتحدة: "لدينا كثير من التدريب النظري، لكن الأمر لم يُختبر قط على أرض الواقع... تأثير ذلك على السوق سؤال لا إجابة واضحة له. فيما يخص أجواء التداول، السؤال هو كيف ستُتداول هذه الأوراق المالية وما أثر ذلك على التسعير وما سواه. أمّا التعبات فهي مجهولة".
أردف تومي أن الرابطة لا ترغب بأن ترى وقوع مثل هذا الأمر على أرض الواقع، وقال: "نحن ننطلق من إيماننا بعدم جواز الإضرار قط بالثقة بحكومة الولايات المتحدة وتصنيفها الائتماني". تابع جازماً: "يجب أن نرفع سقف الدين، نقطة على السطر".
مغبة الانتقاء
تنطوي تبدية سندات الخزانة على تحديات سياسية، لأن ذلك سيعني أن الحكومة ستفي بالتزاماتها تجاه مستثمرين أثرياء وجهات أخرى مثل الحكومة الصينية، فيما تؤخر إلى أجل غير واضح مستحقات ملايين الموظفين الاتحاديين والمتعهدين والجنود والمستفيدين من الضمان الاجتماعي وغيرهم.
زد على ذلك أن هذه الانتقائية في السداد قد تؤثر أيضاً على نظرة المستثمرين إلى الأهلية الائتمانية للولايات المتحدة، ما قد يقوّض قيمة سندات الخزانة ويؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها لا تتباين عن مغبة التخلف عن سداد السندات الحكومية.
لكن ما الذي سيحصل إن اضطرت وزارة الخزانة لتأجيل السداد؟ وضع الفاعلون الأساسيون في السوق على مر السنين إجراءات تُعتمد في حالات الطوارئ تمكّن وزارة الخزانة في كل مساء من تمديد تاريخ استحقاق الأوراق المالية ليوم واحد إن لم تكن تملك ما يكفي من الأموال.
بمعنى آخر، أن تؤجل ردّ أصل المبلغ. مع ذلك، لا يُعرف بعد ما إذا كانت كافة الأنظمة قادرة على معالجة معاملات تخصّ ورقة مالية يوم 10 أغسطس على سبيل المثال، فيما أن تاريخ استحقاقها كان 9 أغسطس.
حذّر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول في فبراير قائلاً: "لا يجب لأحد أن يفترض أن الاحتياطي الفيدرالي سيستطيع أن يحمي الاقتصاد من تبعات الإخفاق باتخاذ الخطوات اللازمة في الوقت المناسب" بشأن سقف الدين.
كان باول قد استحضر خطراً رئيسياً قبل عقد حين كان عضواً في مجلس الاحتياطي الفيدرالي خلال مواجهة سابقة في واشنطن حول رفع سقف الدين، وهو تخوف المستثمرين الذين سيتلكأون في شراء كل الدين الأميركي المعروض في مزاد الخزانة. قال آنذاك، حسب سجلات الاحتياطي الفدرالي لمحادثات صُناع السياسية: "الخطر الرئيسي هو فشل المزاد، وفقدان القدرة على دخول السوق مقابل أي سعر".
ستعجز الخزانة في حال فشل المزاد عن جمع ما يكفي من الأموال لتسديد ديونها المستحقة، ما سيفتح سيل مشكلات. كما سبق أن شرح رئيس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك ويليام دولي في أزمة عام 2011 "سيزيد ذلك بلا شكّ احتمالية التخلف عن السداد، وسيكون له تأثير هائل على الظروف المالية في أسواق رأس المال".
ظروف معاكسة
يعود إلى السياسيين في واشنطن تقرير ما إذا ستنتهي القصة على هذه الشاكلة هذا العام، وما يزال لديهم متسع وقت ليتصرفوا. سيحلّ التاريخ "إكس"، وفق تقديرات "غولدمان ساكس"، بين بداية ومنتصف أغسطس. إلا أن تعقيدات العملية التشريعية وضيق هوامش الهيمنة الحزبية على مجلسي النواب والشيوخ لا تخدم الإدارة في واشنطن.
كما الحال في المواجهات الماضية حول رفع سقف الدين، يصرّ الجمهوريون على خفض النفقات مقابل رفع سقف الدين لصالح رئيس ديمقراطي. تتفاقم الأزمة أكثر هذه المرة نظراً لضعف قبضة رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي على عدد من النواب الجمهوريين المصممين على عدم التسوية.
من جانب آخر، ثمّة مصلحة للرئيس جو بايدن والأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس في إظهار الجمهوريين كمتطرفين ومزعزعين للاستقرار بما أنهم يهددون بعدم رفع سقف الدين البالغ 31.4 تريليون دولار.
يحاكي مسار مكارثي الشاق للفوز بمنصب رئيس مجلس النواب في يناير تقلبات الوضع السياسي في الولايات المتحدة، فقد أخفق بالفوز في 14 جولة تصويت قبل أن يتمكّن من انتزاع فوز في جولة التصويت الخامسة عشرة.
من أبرز التنازلات التي قدمها مكارثي لضمان انتخابه كانت الموافقة على تمكين أي مشرّع من طلب التصويت على إقالته في أي وقت، ما سيمنح نفوذاً لمجموعة صغيرة من المتشددين، الذين قد يفرضون إدخال تعديلات على التشريعات مثل سقف الدين عبر تهديد رئاسة مكارثي لمجلس النواب.
حتى دون هذا التهديد، لا يستطيع مكارثي تحمّل أكثر من أربعة أصوات جمهورية معارضة في أي عملية تصويت منقسمة حزبياً.
مكاسب انتخابية
بالنسبة للمحافظين، يمنحهم الجدل المثار حول سقف الدين فرصة مهمة قبيل انتخابات 2024 لتصوير الديمقراطيين كمبذرين للإنفاق الحكومي يسهمون في زيادة التضخم. للقيام بذلك، هم بحاجة لافتعال أزمة أشدّ وطأة، بما أن 3% من الأميركيين فقط اعتبروا أن الدين أو العجز الاتحادي هو المسألة الأكثر إلحاحاً التي تواجهها البلاد بحسب استطلاع من شركة "غالوب" في فبراير، مقارنةً بـ17% في 2011.
قال النائب سكوت بيري، رئيس تجمّع "الحرية" المحافظ: "هذه فرصة لزيادة الوعي، يجب أن تكون قادراً على استغلال اللحظة من أجل القيام بالتغيير حتى لا تستمر بتفليس البلاد".
بدا الابتهاج واضحاً في صفوف حلفاء بيري حيال فرصة خفض حجم الحكومة، وكان النائب توماس ميسي عن كنتاكي، وهو مهندس ومحافظ متشدد، بالغ الحبور حين خرج من مقرّ مجلس النواب يستعرض عداداً يحتسب الدين علقه على جيب سترته وقد صنعه من نحاس يُستخدم لعزل السقوف. قال: "عشرون من أعضاء الكونغرس طلبوا منّي أن أصنع لهم عداداً مثله".
في البيت الأبيض، يتشبث بايدن بالدروس المكتسبة من مواجهة 2011 حول سقف الدين. إذ يرى كثير من الديمقراطيين أن الاتفاق الذي عُقد في خواتيمها قوّض تعافي الولايات المتحدة من الأزمة المالية العالمية، ما يجعلهم مترددين بشأن التفاوض حول العجز هذه المرة.
بالنسبة للديمقراطيين، رفض الجمهوريين تقديم تنازلات وتهديدهم بالتالي للأهلية الائتمانية للبلاد يدعم جهودهم لتصوير الحزب الجمهوري على أنه طرف متهوّر ومتطرف متحالف مع الرئيس السابق دونالد ترمب.
قال جون أنزالوني الذي يجري استطلاعات رأي لصالح بايدن: "إنهم يلعبون لعبة الروليت الروسية بالاقتصاد، والشعب الأميركي سيعاقبهم على ذلك".
في حين يُستبعد التوصل إلى اتفاق مالي كبير بين بايدن والجمهوريين، فإن أحد الحلول التشريعية الأخرى المحتملة تتطلب التحاق عدد من المشرعين الجمهوريين المعتدلين بالأقلية في مجلس النواب لدعم رفع "نظيف" غير مشروط لسقف الدين.
إلا أن هذه العملية معقدة وتتطلب وقتاً طويلاً جداً لدرجة قد تكون شبه مستحيلة. يواجه مجلس الشيوخ تحديات من جهته أيضاً، بعد أن أبلغ 24 عضواً في الحزب الجمهوري بايدن بضرورة إجراء تغييرات "هيكلية" لتمرير رفع سقف الدين.
تحذير من الركود
على أي حال، فإن انتظار اللحظة الأخيرة من أجل التوصل إلى حل سياسي قد ينطوي مشكلات عديدة. فكما أوضح دولي في محادثات الاحتياطي الفدرالي في 2013: "هناك احتمال أن تقع مشكلة حتى لو كان لديك هامش مناورة أكبر مما تظن".
قال جاك مالفي، الذي يراقب سوق السندات منذ السبعينيات وهو حالياً مستشار خاص في "مركز الاستقرار المالي"، إنه في السيناريو الأسوأ المتمثل بالتخلف عن سداد سندات الخزانة "فإن العبء الذي سيرزح تحته الاقتصاد الأميركي سيستغرق سنوات حتى يزول... سيطلق ذلك سلسلة ردّات فعل، فلم يسبق أن دخلنا في تخلّف عن السداد".
كتب ديفيد ويلكوكس، مدير البحوث الاقتصادية الأميركية لدى بلومبرغ إكونومكس، محذراً من أن أي انقطاع قصير لوزارة الخزانة عن السداد، سواء كان ذلك في دفع الفائدة لأصحاب السندات أو رواتب الموظفين الاتحاديين أو إعانات المستفيدين من الضمان الاجتماعي، سيتسبب "بردّة فعل سريعة في السوق ربما تكون مدمرة".
حتى إن حصلت سندات الخزانة على حماية كاملة، فإن التوقف عن الدفع لملايين الموظفين الحكوميين والمستفيدين من الإعانات، سيؤدي إلى ركود اقتصادي شبه فوري.
أظهرت دراسة محاكاة أجراها محللون لدى بنك "باركليز" أنه يتعين على وزارة الخزانة خفض نفقاتها بنحو 200 مليار دولار في أغسطس إن بقيت حاجتها للاقتراض عند مستواها في أغسطس 2021.
حذّر الفريق المصرفي برئاسة أجاي راجادهياكشا في مذكرة للعملاء إنه في حال استغرقت الحكومة بضعة أسابيع لاستئناف الإنفاق والتعويض عن الدفعات المتأخرة "قد يحصل تراجع كبير" في الناتج الإجمالي المحلي قد يبلغ 15% على أساس سنوي.
خطر مستقبلي
ربما يتعين وقوع خضة في السوق للضغط على الكونغرس مثلما حصل إبان الأزمة المالية في 2008 حين رفض مجلس النواب في نهاية سبتمبر خطة إنقاذ حكومي قيمتها 700 مليار دولار، ليعود ويوافق على نسخة منقحة قليلاً بعد أيام من تداعي الأسواق.
حتى هذه اللحظة، ما تزال المخاوف محدودة، فالخبراء الاقتصاديون الذين استبينت بلومبرغ آراءهم على قناعة أن خطر التخلف عن السداد منخفض جداً، ولا يتجاوز 10%، وأن السياسيين سيتوصلون في نهاية المطاف إلى اتفاق مالي متصل برفع سقف الدين.
رغم ارتفاع أسعار بعض العقود المالية التي تتضمن تأمينات في حال تخلف الولايات المتحدة عن السداد، فإن عدم وجود مهلة نهائية محددة لحل الأزمة خفف قلق المستثمرين.
مع ذلك، ثمّة خطر في أن تعرقل هذه النظرة التفاؤلية التوصل إلى اتفاق، فإذا كان الجميع يستبعد وقوع الأسوأ، قد يدفعهم ذلك للتمسك بمواقفهم. يعتقد الخبير الاقتصادي كوين أن الأمور ستكون "على ما يرام" هذه المرة، كما كان الأمر فيما مضى.
إلا أنه حذّر من أن تكرار الأزمات يفاقم المخاطر. قال: "إن كررت التجربة مراراً، لن تعود الأمور على ما يرام عاجلاً أو آجلاً".