بلومبرغ
كان يحلو للبعض أن يسمي "غلاكسو لابراتوريز" (Glaxo Laboratories) جامعة غلاكسو، لأن الشركة البريطانية الصغيرة اشتهرت ببحوث صيدلانية فائقة لكنها نادراً ما أثمرت أدوية مدرّة للأرباح.
دام ذلك إلى أن أنتج علماؤها جزيئاً سمّوه رانيتيدين (ranitidine) وسجلت الشركة براءة اختراعه في الولايات المتحدة عام 1978.
كان ذاك الجزيء جديداً لكنه لم يأتِ ابتكاراً بحد ذاته، فقد كان علماء "غلاكسو" يسعون لمحاكاة دواء آخر ثبتت فعاليته كعلاج للقرحة والحرقة، وهذا أمر درج عليه العلماء أحياناً. لقد طوّروا عقار رانيتيدين بسرعة وتحققت منه إدارة الغذاء والدواء على عجالة، ثم طرحته "غلاكسو" تحت الاسم التجاري: "زانتاك" (Zantac).
سوّقت "غلاكسو" للدواء الجديد على أنه أفضل وأسلم من عقار "تاغاميت" (Tagamet)، وهو العقار الذي استوحت منتجها منه. سرعان ما أطاح "زنتاك" بغريمه "تاغاميت" عن عرشه وأصبح الأكثر مبيعاً في العالم بين الأدوية التي تتطلب وصفة.
عوّلت "غلاكسو" لسنوات على "زانتاك" الذي جلب لها نصف مبيعاتها ونصف أرباحها تقريباً. فازت الشركة بجائزة من الملكة إليزابيث الثانية التي أسبغت على رئيس الشركة التنفيذي لقب فارس.
لقد صنع "زانتاك" للشركة مجدها وثروتها، كما موّل تحوّلها إلى هيئتها المعاصرة التي شكلتها سلسلة اندماجات واستحواذات وانفصالات أصبحت إثرها شركة "جي أس كيه" (GSK)، التي تقدّر قيمتها اليوم بحوالي 73 مليار دولار.
بين أكثر أدويتها مبيعاً عقاران لتثبيط الاكتئاب هما "باكسيل" (Paxil) و"ويلبوترين" (Wellbutrin) ولقاح الهربس النطاقي "شينغريكس" (Shingrix).
لكن "زانتاك" لم يعد من بين تلك العقاقير، فقد اكتُشف في 2019 أن مستويات عالية من مادة يرجح أنها مسرطنة تشوبه. لم يكن ذلك صدفةً أو غلطة طالت بضع دفعات من الدواء، بل ظهر أن السمّ يسببه مكونه الفعال الأساسي: رانيتيدين.
سحبت الشركة الصانعة والمنظمات الصحية حول العالم الدواء من الأسواق، وحظرته إدارة الغذاء والدواء تماماً في 2020، بالتالي لم يعد يحق لأي شركة أن تصنعه ولا يُنصح أحد بتناوله.
تبيّن أن المادة المسرطنة هي ثنائي ميثيل نتروزامين (NDMA)، التي كانت تضاف فيما مضى إلى وقود الصواريخ، وهي تُستخدم الآن حصرياً لإصابة جرذان المختبرات بالسرطانات عمداً. قالت وكالة الغذاء والدواء إن استهلاك كميات صغيرة من هذه المادة لا يسبب ضرراً ، إلا أن الاختبارات كشفت عن وجود كميات كبيرة من (NDMA) في رانيتيدين، وأنه قادر على إفراز مزيد منها مع مرور الوقت. بالتالي، بدا أن تناول أي جرعة منه يشكل خطراً.
تحذيرات متكررة
تلقت "غلاكسو" تحذيرات شتّى من علماء عاملين لديها ومن باحثين مستقلين بشأن خطر رانيتيدين المحتمل وذلك منذ طرحه ولغاية سحبه من الأسواق. ترد هذه التحذيرات التي تكررت على مدى أربعة عقود في مئات الوثائق التي أتت في آلاف الصفحات، لكن لم يسبق نشر كثير منها.
راجعت بلومبرغ بزنيسويك مستندات مقدمة أمام المحكمة ما يزال بعضها غير علني، إضافة إلى عدد من الدراسات البحثية وسجلات إدارة الغذاء والدواء الأميركية وطلبات ترخيص أدوية جديدة، حصلت عليها بموجب طلب استند إلى قانون حرية المعلومات.
تشير هذه المستندات إلى أن إدارة الغذاء والدواء قيّمت الخطر المحتمل للسرطان حين أقرت استخدام رانيتيدين، إلا أن "غلاكسو" كانت قد حجبت عنها دراسة أساسية.
لقد دعمت الشركة على مدى سنين بحوثاً مغلوطة مصممة لتخفيف المخاوف كما اختارت ألّا تنقل الدواء وتخزنه بطرق يجدر أن تقلل الخطر. هكذا باعت "غلاكسو" دواءً قد يؤذي المرضى، وحاولت أن تبخس أدلة تشير إلى ذلك ولم تصدر أدنى تحذير لأحد.
رفع أكثر من 70 ألف أميركي تناولوا "زانتاك" أو جنائسه، دعوى ضد الشركة أمام محاكم أميركية لبيعها دواءً يُحتمل أن يكون ملوثاً وخطراً. كان مقرراً أن تبدأ أولى هذه الجلسات في نهاية فبراير أمام محكمة كاليفورنيا العليا في مقاطعة ألاميدا، إلا أنها أُجلت إلى الصيف نظراً لجدول أعمال القاضي.
تخاصم هذه الدعاوى شركات أخرى باعت دواء "زانتاك" في السنوات اللاحقة وبينها "فايزر" و"سانوفي".
كانت محكمة اتحادية قد حكمت لصالح "جي اس كيه" في ديسمبر في قضية جماعية منفصلة، فقد صرفت القاضية روبن روزنبرغ في محكمة مقاطعة جنوب فلوريدا آلاف القضايا الاتحادية التي قُدمت جماعياً أمام محكمتها في مرحلة ما قبل المحاكمة.
قالت روزنبرغ: "ليس هناك من توافق واسع النطاق في المجتمع العلمي حول وجود رابط ملحوظ ومهم إحصائياً بين رانيتيدين والسرطان".
تعتبر "جي أس كيه" إعلان روزنبرغ رأياً فاصلاً حيال المزاعم الموجهة ضدها. قالت المتحدثة باسم الشركة كاثلين كوين في بيان "إن رأي المحكمة ينسجم مع الموقف الذي اتخذته (جي أس كيه) والمتهمين الآخرين في هذه القضية".
أضافت: "بعد ثلاث سنوات من بحوث موسعة، بينها 13 دراسة وبائية راجعها أقران وشملت بيانات بشرية تتعلق باستخدامات رانيتيدين، فإن الإجماع العلمي يشير لعدم وجود دليل ثابت موثوق على أن (زانتاك) يزيد خطر الإصابة بأي نوع من السرطان".
يعتزم المحامون الذين يمثّلون المدّعين الاستئناف ضد الحكم.
المادة المسرطنة
في غضون ذلك، تنتظر "جي أس كيه" عشرات آلاف القضايا في محاكم الولايات، التي لا تُلزم قضاتها بالأحكام الصادرة عن المحكمة الاتحادية. أعلنت الشركة في بيان أنها "ستستمر بالدفاع عن نفسها بقوة، ضدّ كل الاتهامات الواردة في هذه الدعاوى"، ورفضت الإدلاء بأي تعليقات إضافية.
تحذّر المنظمات الصحية كافة، من وكالة حماية البيئة إلى إدارة الغذاء والدواء، حتى منظمة الصحة العالمية من مادة (NDMA) التي يُرجح تسببها بالسرطان لدى البشر. لكن إثبات أن الخلايا السرطانية عند مريض ما تحولت بفعل دواء من إنتاج شركة محددة أمر معقد.
تشير قرارات اتخذتها "غلاكسو" إلى أنها لم ترغب قطّ بأخذ هذا الاحتمال في عين الاعتبار. الأدلة كانت موجودة، إلا أنه حسب الوثائق، فضلت "غلاكسو" ألا تجدها.
[object Promise]رُبط بين (NDMA)، وهي سائل أصفر بلا رائحة أو طعم يظهر قابل للاختلاط بالماء، وريط بينها وبين السرطان للمرّة الأولى في 1956، وتبيّن أن خطورتها الكبرى على الكبد.
تنتمي هذه المادة إلى مجموعة مواد كيميائية معروفة باسم نتروزامين وقد صُنفت في السبعينات على أنها أخطر المواد المسببة للسرطان المكتشفة حتى ذاك الوقت، إذ تسببت بالسرطان في كافة الأجناس الحيوانية التي اختُبرت عليها.
يمكن لجرعة واحدة لا تتجاوز مليغراماً واحداً من (NDMA) أن تحدث تحولاً في خلايا الفئران وتحفز الأورام. ويكفي غرامان منها لقتل إنسان في غضون أيام.
تكوّن مادة مسرطنة في المعدة
كان ويليام ليجينسكي يجري بحوثاً حول أمراض السرطان لصالح الحكومة الأمريكية في 1969 حين اكتشف أن نتروزامين قابل للتكوّن في المعدة، إذ يتواجد النتريت، وهو مادة كيميائية شائعة، في اللحم المملح والمشوي وفي الجعة والقهوة والخضروات، وقد يتحد مع مواد كيميائية أخرى تُعرف بالأمينات موجودة في عدد من الأدوية، وتشكّل حمضية المعدة بيئةً مناسبةً لهذا التفاعل.
في حين أن كمية نتروزامين التي تتكوّن مرة واحدة قد لا تكون مؤثرة، لكنها قد تشكل خطورة مع مرور الوقت. نشر ليجينسكي دراسات حول نتروزامين، وقدم شهادته أمام الكونغرس.
حسب رأيه، الطريقة الأسهل لمعالجة هذه المشكلة هي تحديد كمية نيترات الصوديوم التي يحقّ لمصنّعي الطعام أن يضيفوها لحفظ اللحوم وتمليحها، ويشمل ذلك اللحم المجفف والقديد والبسطرمة واللحم المعلّب والنقانق، وهي أطعمة اتضح أنها من الأسباب الشائعة للحرقة والارتجاع الحمضي.
كما أجرى ليجينسكي تقييماً لعدة مئات من الأمينات، لتبيان أيّ منها يمكن أن تؤدي إلى نشوء النتروزامين لدى محاكاة الظروف السائدة داخل المعدة، وظهر أنها كلّها قادرة على ذلك. لم يكن رانيتيدين قد اكتُشف بعد آنذاك، إلا أنه يحتوي أيضاً على بنية أمينية. أدت بحوث ليجينسكي في 1979 إلى سحب مضاد تحسس شائع الاستخدام كمسكّن من السوق، بسبب خطر تسببه بالسرطان.
كانت روزالي ليجينسكي، الخبيرة في السمّية الوبائية الوراثية التي تقاعدت أخيراً من إدارة الغذاء والدواء الأميركية قد درست نتروزامين إلى جانب زوجها، وقالت: "كان يرى أنها المواد المسرطنة الأخطر"، إلا أنه خسر التمويل الاتحادي لبحوثه، وعزت جزءاً كبيراً من سبب ذلك إلى ضغوط مارسها قطاعا الغذاء والدواء.
توفي ويليام ليجينسكي في 2004 بعد إصابته بسكتة دماغية، وكان يظنّ أن عمله لم يجد نفعاً.
[object Promise]تقصير أمد التداوي
في نوفمبر 1980، أصدر محلل صيدلانيات لدى شركة استثمارية بريطانية معروفة تقريراً إلى المستثمرين بعنوان "غلاكسو رانيتيدين.. مدعاة قلق". كانت "غلاكسو" تستعد حينها لتقديم طلب لترخيص بيع رانيتيدين في الولايات المتحدة إلى إدارة الغذاء والدواء.
كتب المحلل أن بحوثاً أكاديمية في الولايات المتحدة تشير إلى أنه في ظلّ ظروف محددة في المعدة، يمكن أن ينتج مركب خطير عن رانيتيدين. قصد بتلك الظروف التفاعل الكيميائي الذي تحدث عنه ليجينسكي وآخرون، والمنتج هو مادة كيميائية يمكن أن تسبب السرطان، أمّا مبعث القلق فكان يتعلق بتأثير ذلك المحتمل على المبيعات.
حذّر المحلل من أنه إلى حين انتهاء الجدل حول علاقة رانيتيدين بالسرطان، فإن الأطباء في الولايات المتحدة قد يترددون بوصف هذا الدواء لمرضاهم.
بعد صدور تقرير المحلل، حذّر مسؤول العلاقات العامة في "غلاكسو" جيوف بوتر من المبالغة في ردّة الفعل. وجّه مذكرة إلى رئيس الشركة التنفيذي حينها بول جيرولامي الذي لم يكن قد لُقب فارساً بعد، ورئيس مجلس الإدارة أوستن بايد الذي كان يحمل ذلك اللقب وغيرهما من أعضاء مجلس الإدارة، وعد فيها بـ"مراقبة الوضع عن كثب والاستعداد لاتخاذ إجراء دفاعي سريع في حال أي تدهور للوضع".
إلا أن المدير المساعد لشؤون الأبحاث السريرية في "غلاكسو" آنذاك قال في إفادة لاحقة إن مجلس الإدارة لم يطلب منه قطّ اختبار رانيتيدين ليتحرى إحتواءه على نتروزامين.
في أحد الاختبارات التي أجريت في بريطانيا في 1981، تلقى 11 رجلاً يتمتعون بصحة جيدة 150 مليغراماً من رانيتيدين يومياً على مدى أربعة أسابيع. كان العلماء في "غلاكسو" يحاولون تبيان ما إذا كان استخدام رانيتيدين لفترات طويلة يؤثّر على البكتيريا المعوية، بالأخص التي قد تنتج مزيداً من النتريت، فتتيح تكوّن النتروزامين.
وجدوا أن رانيتيدين قد يتسبب بذلك فعلاً، إلا أنهم خلصوا إلى أن أهمية هذا الأمر ليست واضحة. كتب العلماء في "غلاكسو" في خلاصة اطلعت عليها إدارة الغذاء والدواء لاحقاً أنه بالفعل يمكن لمستويات عالية من النتريت أن تؤدي إلى تكوّن مرَكبات نتروزامين التي تعدّ مسرطنة بكافة أنواعها تقريباً.
إلا أن البحوث على الحيوانات لم تكن قد أظهرت حتى ذلك الحين أن رانيتيدين مادة مسرطنة، بالتالي تعذّر تقدير خطرها على البشر. كما أن الدواء لم يكن معدّاً ليتناوله المرضى لفترات طويلة، وقال العلماء: "يوصى باستخدام رانيتيدين لفترة قصيرة، ما يحدّ من أي خطر سرطاني، إن وُجد".
لكن في الواقع، تناول كثير من الناس "زانتاك" لأشهر وسنين، بل حتى لعقود.
إخفاء النتائج
أعلنت "غلاكسو" في أكتوبر 1981 عزمها بناء مصنع في كارولاينا الشمالية لإنتاج دواء "زانتاك" الذي كان يباع أصلاً في بريطانيا وإيطاليا، وكان العلماء يجرون دراسات حوله. نشر الباحث سيلفيو دي فلورا من جامعة جنوة نتائج بحثه في دورية "لانسيت" الطبية البريطانية وبينت أنه عند امتزاج رانيتيدين مع النتريت تنتج "آثار سامة تحولية".
لم يسع دي فلورا لتبيان سبب هذا التفاعل السام، وعاد لاحقاً لينصح أي شخص يوصف له "زانتاك" بتخفيف استهلاك النتريت وترك وقت طويل بين تناول الطعام وتجرع الدواء، في حين كانت النصيحة المنتشرة حول العالم على العكس من ذلك، حيث كان يُنصح بتناول الدواء لتجنب الحرقة في وقت قريب لوجبة الطعام.
تواصل مديرون تنفيذيون في "غلاكسو" مع دي فلورا على الفور. قال في رسالة إلكترونية: "حاولوا إقناعنا بأن استخدام رانيتيدين آمن... لا تحب الشركات الصيدلانية هذا النوع من الدراسات".
بعد أسبوعين، نشر خمسة علماء في "غلاكسو" رسالة في "لانسيت" قالوا إنها تهدف لوضع خلاصات دي فلورا في سياقها الصحيح، فأشاروا إلى أن دي فلورا استخدم مستويات من تركيز النتريت لا يمكن أن تتواجد قطّ في معدة البشر، وأصبحت هذه الحجة المعتمدة لدى "غلاكسو".
قال دي فلورا إن الباحثين غالباً ما يستخدمون جرعات كبيرة من المركبات التي يريدون دراستها في المختبر "لأنهم يقيّمون التأثير في غضون وقت قصير، بدل الوضع الأكثر شيوعاً المتمثل بالتعرض لجرعات صغيرة على فترات طويلة".
في مارس 1982، علمت "غلاكسو" عن دراسة أخرى كشفت مخاطر رانيتيدين المحتملة، حيث تلقت تقريراً من بضع صفحات من منافستها "سميث، كلاين أند فرنش" (Smith, Kline & French) ، صانعة " تاغاميت".
مزج الباحثون هناك رانيتيدين مع كميات مختلفة من النتريت ولاحظوا أيضاً تكوّن سمّ، جاء اسمه في الرسالة إلى "غلاكسو": (NDMA).
كان طبيعياً أن تشكك "غلاكسو" بهذه الخلاصة، التي أتت من شركة أجرت اختباراً على منتج منافس ووجدت فيه علّة. طلبت "غلاكسو" من أحد علمائها إجراء اختباراته الخاصة، ووقع اختيارها على ريتشارد تانر الذي كان يعمل في قسم علم الصيدلة البيوكميائية، وتوصّل إلى النتيجة ذاتها.
فقد عثر على ما يصل إلى 232 ألف نانوغرام من (NDMA) في بعض العينات. مع العلم أنه حين اعتبرت إدارة الغذاء والدواء لاحقاً أن وجود كمية صغيرة من (NDMA) مقبولة في أي دواء، كانت تلك الكمية 96 نانوغرام. إلا أن تانر لم يجد أي (NDMA) عندما استخدم مستويات أقل من النتريت، حيث تقول الشركة اليوم إن هذه الحالة هي الأقرب إلى ما يجري داخل معدة الإنسان.
لكن تبيّن المستندات المقدمة أمام المحكمة أن "غلاكسو" أبقت هذه الدراسة سرية في 1982، ولم يُبلّغ المدير المساعد لشؤون البحوث السريرية في الولايات المتحدة بتقرير تانر. كما أن الاستشاري الطبي الأعلى لبحوث الجهاز الهضمي لم يكن على علم به، ولم تُبلّغ به إدارة الغذاء والدواء الأميركية.
تجاهل محاذير
كانت "غلاكسو" على علم أيضاً بمشكلة خطرة أخرى تتعلق برانيتيدين، وهي أنه لم يكن دائماً مركباً مستقراً. فالدواء حساس للحرارة والرطوبة، وقد يتحلل لدى تعريضه لأي منهما. هذا ما ركزت عليه إدارة الغذاء والدواء لاحقاً، ففي بعض الحالات التي قد لا تكون متطرفة بالضرورة، وحتى في درجة حرارة الغرفة، يبدأ رانيتيدين بالتحلل، ما يتسبب بظروف تؤدي إلى تكوّن (NDMA) داخل الدواء بحدّ ذاته.
ركزت إحدى النقاشات في الشركة عام 1982 على منع تحلل رانيتيدين القابل للحقن. كانت "غلاكسو" قد تقدمت للتوّ بطلب للموافقة على بيعها أقراص رانيتيدين، وفي صدد التقدم بطلب للحصول على الموافقة لبيع الحقن.
أصرّ مسؤول التطوير الصيدلاني في الشركة جون بادفيلد على أهمية إبقاء رانيتيدين القابل للحقن مبرداً عند حرارة 4 درجات مئوية خلال شحنه من بريطانيا ونقله داخل الولايات المتحدة وتخزينه في المستودعات.
كما حذّر في مارس من ذلك العام من أن التخلف عن الالتزام بهذه التعليمات سيكون "خطراً جداً". لكن المديرين التنفيذيين أصدروا مذكرة في يوليو قالوا فيها إن "تبريد الحقن لن يكون مقبولاً في إطار عملية التسويق لدى (غلاكسو)".
أثار هذا الردّ امتعاض بادفيلد الذي أجاب: "هذا المنتج حساس جداً للحرارة، وحمايته بالطريقة التي ناقشناها مهمة جداً".
تسارعت الأمور بعد ذلك في كارولاينا الشمالية. كانت الاختبارات البشرية الأولى على رانيتيدين قد بدأت في الولايات المتحدة قبل شهرين فقط من تقديم "غلاكسو" طلب طرح دوائها الجديد في السوق في مارس 1982.
قال فريد إشيلمان، المدير المساعد لشؤون البحوث السريرية آنذاك، إن الشركة كانت صغيرة وكان موظفوها شباناً ولم يتهاونوا في مسائل السلامة ولم يكونوا مضطرين للتعامل مع كثير من البيروقراطية. أضاف: "كان الجميع يعتقد أنه دواء رائع، فكلما أسرعنا بطرحه في السوق، تمكّن الناس من استخدامه بشكل أسرع، كنّا متفانين للقيام بأمور جيدة".
إشيلمان هو من بين عدّة أشخاص كان يفترض أن يطّلعوا على دراسة تانر، لكنها لم تصلهم. في حين رفض التعليق على المسألة الحالية، قال: "لو أن الدواء كان ساماً بحدّ ذاته، لكنّا اكتشفنا ذلك منذ وقت طويل".
[object Promise]توصية بالموافقة
في مايو 1982، اجتمع إشلمان ومجموعة من علماء "غلاكسو" في صالة بالمكتبة الوطنية للطبّ لتقديم "زانتاك" أمام لجنة من باحثين مستقلين ومجموعة من مسؤولي إدارة الغذاء والدواء الأميركية معنيين بالتوصية للإدارة بالموافقة على بيع الدواء في الولايات المتحدة أو رفضه.
كان ديفيد جاك الذي أسهم في اكتشاف رانيتيدين أول المتكلمين، وقال إن الشركة أجرت دراسات موسّعة حول التبعات السامة المحتملة للمركب ولم تجد ما يدعو للقلق. لكنه قال في ذلك الصباح: "نريد أن نركز فقط على الموضوع الذي يطرح المشكلة الفعلية في ذهن الناس، بالأخص احتمال تسبب دواء من هذا النوع بالسرطان". عرض جاك مع علماء آخرين في "غلاكسو" ثلاث دراسات أظهرت أن استخدام رانيتيدين لفترة طويلة (حوالي سنتين) لم يسبب سرطانات لدى الجرذان أو الفئران.
قال أحد زملائه: "ثبت أن رانيتيدين ليس مركباً ساماً وحده... لا يوجد أي دليل يشير إلى أن رانيتيدين بحدّ ذاته مادة مسرطنة سواء داخل المعدة أو في أي مكان آخر".
فنّد علماء "غلاكسو" مزاعم بأن رانيتيدين يمكن أن ينتج نتروزامين في ظلّ ظروف بشرية عادية. إلا أنهم لم يتناولوا دراسة تانر التي أجرتها الشركة. قال ريتشارد كلاين الذي خدم في إدارة الغذاء والدواء لأكثر من أربعين عاماً، وعمل خلالها ضمن فريق الموافقة على الأدوية (لكن ليس زانتاك) إنه لو علمت الإدارة عن دراسة تانر، لربما كانت على الأقل "طرحت مزيداً من الأسئلة وطلبت مزيداً من البيانات. لربما أثار ذلك شكوكها".
هكذا اخُتتم النقاش حول المخاوف المتعلقة بالسرطان، وانتقل الحديث إلى كمية الجرعات المحددة ونوع قرحات المعدة التي يستطيع "زانتاك" معالجتها. لم يخض الحاضرون كثيراً في مسألة نقل الدواء وتخزينه وما إذا كان يتعين وضع أي نوع من التحذيرات على الغلاف.
حدث كلّ شيء بسرعة، قبل استراحة الغداء كان الخبراء الخارجيون قد صوّتوا لصالح التوصية لإدارة الغذاء والدواء بالموافقة على الدواء، على أن يتم تناوله بجرعة 150 مليغراماً مرتين في اليوم لمدة تصل إلى ثمانية أسابيع كعلاج للقرحة الاثني عشرية الحادة، وهي الأشيع بين قرحات المعدة.
تضمنت التوصيات على الغلاف تعليمات بحفظ الأقراص في المنزل في مكان جاف دون حرارة 30 درجة مئوية. بعد سنة، في مايو 1983، منحت وكالة الغذاء والدواء شركة "غلاكسو" الموافقة على بيع "زانتاك".
تفوّق "زانتاك"
كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الدواء الذي كان يباع أصلاً في 31 دولة "أقوى عدّة مرّات من (تاغاميت) وأفيد بأن عوارضه الجانبية أقلّ، إلا أن الدوائين يُعدّان آمنين جداً لدرجة أن الأطباء يصفونهما لعلاج طيف واسع من مشاكل الهضم يتعدى الأمراض التي حددتها الشركات".
حقق "زنتاك" في السنة الأولى لطرحه في الولايات المتحدة مبيعات بقيمة نحو 125 مليون دولار، ليصبح أحد الأدوية الأفضل أداءً في بداية طرحها.
قال جو غرايدون، الخبير الصيدلاني في كارولاينا الشمالية الذي أسهم بتأسيس منظمة "بيبولز فارمسي" (People’s Pharmacy) إن "فريد إشلمان أصبح بطل (غلاكسو) بفضل (زنتاك)... وقال رئيس (غلاكسو) إن (زنتاك) هو المحرك الذي يشغّل القطار، كان المنتج الفائز الذي يدرّ الأموال".
أسس أشلمان بعدها شركته الخاصة التي تعمل على إجراء اختبارات للأدوية الجديدة لصالح الشركات الصيدلانية، وانضمّ إليه لاحقاً عدد من المديرين التنفيذيين في "غلاكسو". باع شركته في 2011 مقابل 3.9 مليار دولار وتبرع بـ100 مليون دولار لصالح كلية الصيدلة في جامعة نورث كارولاينا في تشابل هيل التي كانت تحمل اسمه أصلاً.
[object Promise]كانت حملة "غلاكسو" التسويقية جهداً جبّاراً يرمي لتقويض "تاغاميت" الذي كان آنذاك الأكثر مبيعاً حول العالم بين الأدوية التي تتطلب وصفةً طبيةً.
استند المديرون التنفيذيون لاحتواء "زانتاك" على عناصر ناشطة في كلّ حبّة دواء أكثر من "تاغاميت"، لذا سوّقوا له على اعتبار أنه أجدى. كانوا أيضاً يعلمون أن "زانتاك" سيوصف للمرضى على جرعتين في اليوم بدل أربع جرعات، فشددوا للأطباء أنه الدواء الأنسب. كما أنهم كانوا على علم بأن بعض المرضى، رغم أن عددهم ليس بكبير، عانوا عوارض جانبية بسبب "تاغاميت" منها تفاعلات سيئة مع أدوية أخرى أو ارتباك ذهني، فسوّقوا لـ"زانتاك" على أنه أسلم.
كما تعمّدت "غلاكسو" تسعير "زانتاك" بسعر أعلى بين 15% و25% من "تاغاميت" للدلالة على تفوقه. ردّت "سميث، كلاين أند فرينش" بإطلاق حملة تسويقية لـ"تاغاميت"، نصبت فيها نفسها خبيرة قرحات الجهاز الهضمي.
جنى مليارَي دولار
ضاعفت "غلاكسو" عدد موظفي مبيعاتها ثلاث مرات عبر تعاون مع شركة الأدوية السويسرية "هوفمان- لاروش" التي كان لديها طاقم كبير آنذاك ولم يكن لها أي دواء لامع.
بدأوا بتسويق "زانتاك" لدى أخصائيي الجهاز الهضمي، ثمّ على غير العادة، شرعوا يعقدون "ندوات تثقيفية" حول "زاناتك" تستهدف أخصائيي الرعاية الأولية وأخصائيي العظام والصيادلة.
بعد ثلاث سنوات على طرح "زانتاك" في الولايات المتحدة، وجّهت إدارة الغذاء والدواء تأنيباً لشركة "غلاكسو" على إطلاقها مزاعم تسويقية مغلوطة تكراراً، جاء آخرها في إطار مسعاها كي تتأهل للاستفادة من برنامج تعويضات مالية حكومي.
قالت الإدارة في رسالة من أربع صفحات في مايو 1986: "يبدو أننا لم نحقق نجاحاً كافياً في التوصل إلى تصحيح طوعي لهذه الممارسات الدعائية والتسويقية التي تقوم بها شركتكم"، واختتمت بالتهديد باتخاذ إجراء بموجب صلاحياتها الناظمة. ردّت "غلاكسو" بأن الإدارة أساءت تفسير ممارساتها.
في ذلك العام، أصبح "تاغاميت" أول دواء تبلغ قيمته مليار دولار، ليعود "زنتاك" ويطيح به في العام التالي.
في مارس 1988، كلّفت "غلاكسو" شركة "غالوب" بإجراء استطلاع تحت عنوان "حرقة المعدة على امتداد الولايات المتحدة"، أظهر أن 44% من الراشدين يعانون من حرقات المعدة شهرياً. كان "زانتاك" يوصف لمعالجة الحرقة في حينها، إلا أن مضادات حموضة كثيرة أخرى كانت متوفرة في السوق وتباع دون وصفات طبية.
عمدت "غلاكسو" للترويج لهذا الاستطلاع عبر وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة، وحذّرت إعلاناتها من أن الحرقة وغيرها من العوارض المرتبطة بالارتجاع المريئي المزمن قد تؤشر إلى أمراض مثل القرحة، ونصحت المصابين باستشارة الأطباء.
أجرى طبيب جهاز هضمي يحظى باحترام كبير دراسة في شتاء 1988 أظهرت أن دواء "زانتاك" قادر على التخفيف من الحرقة لدى العدّائين الذين شكّلوا مجموعة جديدة من المرضى المحتملين، إذ كانوا يعانون من مشكلة حملت اسماً جديداً هو "الارتجاع المريئي لدى العدّائين".
في حين كانت تلك الدراسة صغيرة ولم تخضع لمراجعة أقران، إلا أن مكانة الطبيب وقدرات شركة "غلاكسو" في مجال العلاقات العامة ضمنا أن تحصد الدراسة الاهتمام المرجو. كشفت "نيويورك تايمز" لاحقاً أن الطبيب كان استشارياً يتلقى الأموال من "غلاكسو"، وقال إنه لم يعتقد أن الشركة ستستغل الدراسة.
بحلول 1989، ارتفعت مبيعات "زانتاك" لتبلغ مليارَي دولار، أي نصف مبيعات "غلاكسو"، و53% من سوق أدوية القرحة المصروفة بوصفة طبية.
أقراص بلا وصفة
نفذت إدارة الغذاء والدواء في 1993 تهديداتها المتعلقة بطريقة تسويق "زانتاك"، واتهمت "غلاكسو" في رسالة تحذيرية بأنها "قامت بسلوك متكرر" بهدف نشر معلومات مضللة حول تفوّق "زانتاك" على "تاغاميت" ضمن حملاتها الإعلانية والتسويقية.
طالبت الإدارة "غلاكسو" بتوجيه رسائل إلى الأطباء الأميركيين ونشر إعلانات في 12 دورية طبية رائدة لتصحيح هذه التصريحات. قال متحدث باسم إدارة الغذاء والدواء لصحيفة "صنداي تايمز" في لندن: "لا ترتكب معظم الشركات أخطاء في موادها التسويقية... هذا السيناريو هو الأسوأ". أطلقت "غلاكسو" بعد أسبوعين حملة "إعلانية تصحيحية".
كان لدى"غلاكسو" أسباباً عديدة تدفعها للتعاون مع إدارة الغذاء والدواء، ومنها عملها على تطوير أنواع جديدة من "زانتاك" لمعالجة الحرقة تتوفر بعيارات أصغر يمكن بيعها دون وصفة طبية، وتتطلب موافقة تلك الإدارة عليها.
كما كان مسؤولو الشركة يفكرون بتغيير لون الأقراص الجديدة. ففي بعض الاختبارات لتقييم استقرار الدواء، كانت الأقراص البيضاء تتحوّل إلى الأصفر أو البني، فسعت "غلاكسو" لإخفاء ذلك، واختارت تغطية الأقراص الجديدة بلون زهري مصنوع من أكسيد الحديد.
في كثير من الأحيان، يؤشر تغير لون أقراص الدواء إلى تحللّها، ما قد يتسبب في بعض الحالات بتكوّن شوائب خطرة. إلا أن "غلاكسو" زعمت أن الوضع لم يكن كذلك في حالة "زانتاك"، وقالت: "استُخدم اللون لتغطية الأقراص لضمان حفاظها على شكل متماثل طوال مدة صلاحيتها".
قال إيان وينتربورن الذي عمل على إعداد التركيبة المباعة بلا وصفة طبية في إفادة: "لم يكن هناك أي قلق تجاه التحلل المرتبط بتغير اللون".
حين أتمّت "غلاكسو" تقديم طلبها لترخيص دواء "زانتاك" بلا وصفة طبية، كان وينتربورن أحد بضعة أشخاص تلقوا رسائل تهنئة عبر البريد الالكتروني.
كتب أحد المديرين التنفيذيين في نهاية 1994: "يختتم ذلك ما أرى أنه كان جهداً بطولياً بذله كافة المعنيين بهذا المشروع على مدى سنتين ونصف... أعتقد أن هذا كان من أكبر إنجازات (غلاكسو) في تاريخها".
[object Promise]صفقات استحواذ
احتفلت "غلاكسو" في ربيع 1996 بطرح أقراص "زانتاك" عيار 75 مليغراماً التي تباع بلا وصفة طبية. كان لون تلك الأقراص زهرياً ويمكن تناولها مرّة أو مرتين في اليوم. كان الأميركيون في حينها ينفقون زهاء مليار دولار سنوياً على علاجات حرقة المعدة، ما يعني أن الأسواق كانت جاهزة لـ"غلاكسو" التي رفعت شعار: "تستمر الأسطورة".
أتمت "غلاكسو" استحواذاً جبرياً في 1995 على شركة أدوية بريطانية أخرى هي "ويلكوم" (Wellcome)، وبعد خمس سنوات في عام 2000 استحوذت "غلاكسو ويلكوم" على منافستها اللدودة "سميث كلاين بيتشام (SmithKline Beecham) في أكبر اندماج من نوعه في تاريخ قطاع الأدوية، نجم عنه أكبر شركة أدوية في العالم "غلاكسو سميث كلاين".
اضمحلال لون الأقراص
كان جيمس غويتز، وهو مهندس طيران يقيم في جنوب كاليفورنيا يتناول "زانتاك" لأعوام، وقد بدأ بالنوع الذي يتطلب وصفة ، ثمّ انتقل للأقراص التي لا تحتاج وصفة.
بعدما وافقت إدارة الغذاء والدواء على جنائسه، بدأ يتناولها أيضاً. أمّا جون راسل المقيم قرب لوس أنجلس فشُخّصت إصابته بالتهاب المعدة وبدأ يتناول الدواء في 2001، حيث كان يمكن له أن يشتريه من محطة الوقود أو الصيدلية المحلية.
استمرت مشكلة اضمحلال لون "زنتاك"، وفي 2010 طُلب من أندرو سيرل، المشرف على تقييم مخاطر التسمم الجيني في "جي أس كي"، أن يحقق في سبب تحوّل لون تركيبة "زنتاك" القابلة للحقن إلى اللون الأصفر.
أجرى سيرل اختبارات للشوائب المعروف أنها تسبب هذا اللون الأصفر. ورغم أن مادة (NDMA) المستخدمة في المختبرات صفراء اللون إلا أنه لم يجر أي اختبار للتحقق من وجودها. طُرحت المشكلة مجدداً في 2015 حين أفاد مصنع في الصين أنه واجه مشاكل تتعلق بأقراص "زنتاك" التي تتحلل ويتغير لونها.
وجهت "جي أس كي" رسالة إلى الأطباء أبلغتهم فيها بأنها لم تجد أي شوائب محددة، ولكن لا يمكنها أن تؤكد ما إذا كانت الأقراص البنية التي اضمحل لونها ترقى لمستوى معايير السلامة التي تعتمدها الشركة.
لم يتحقق أحد من وجود (NDMA)، وعزا سيرل في إفادته المشكلة إلى أسلوب التخزين غير الملائم.
بين هاتين الحادثتين، واجهت "جي أس كس" مشكلتين فتحتا الأعين على الشركة. فقد وافقت الشركة في 2012 أن تقر بذنبها وأن تدفع غرامة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على خلفية التسويق لأدوية من أجل استخدامات غير ملائمة وتجاهل بيانات متعلقة بالسلامة والاحتيال على برنامج "مديك إيد" (Medicaid).
شمل ذلك بعض الأدوية الأكثر شعبية التي تنتجها الشركة بعد "زانتاك"، وهي "باكسيل" و"ويلبوترين" ودواء السكري "أفانديا". وصفت وزارة العدل الأميركية القضية بأكبر اتفاق تسوية في مجال الرعاية الصحية في تاريخ الولايات المتحدة وأضخم مبلغ تغرم به شركة أدوية.
بعد سنتين، غرّمت الصين "جي أس كي" 500 مليون دولار ورحّلت أحد كبار مسؤوليها التنفيذيين بتهمة تورطه برشوة الأطباء كي يصفوا أدوية الشركة لمرضاهم. أبلغت الشركة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أنها "أصدرت بيان اعتذار للحكومة والشعب الصينيين".
[object Promise]نهاية الرانيتيدين
وجّهت مسؤولة تنفيذية رفيع المستوى في "جي أس كيه" رسالة إلى زملائها في نوفمبر من ذلك العام قالت فيها: "إلي الجميع، ثمّة حاجة ملحّة لمعرفة ما إذا كان تقرير الدراسة التالي قُدّم في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة" مشيرة إلى تقرير تانر. جاءت الإجابة بالنفي، إذ لم يُقدّم التقرير في إطار أي طلب لترخيص دواء جديد.
عندها فقط، سلّمت "جي أس كيه" التقرير الذي كانت تخفيه منذ 1982.
اتخذت إدارة الغذاء والدواء قراراً نادراً وحاسماً في أبريل 2020، حيث ألزمت كافة مصنّعي رانيتيدين تحت أي صيغة وأي عيار بالتوقف الفوري عن إنتاج الدواء وبيعه. كانت تلك نهاية العقار.
وقالت الإدارة "ترتفع مستويات (NDMA) في رانيتيدين حتى في ظلّ ظروف التخزين العادية، وتزيد هذه المستويات بشكل أكبر في العينات المحفوظة تحت حرارة مرتفعة، بما فيها الحرارة التي قد يتعرض لها المنتج خلال عملية التوزيع ولدى استخدام الزبائن له".
وصف غرايدون من منظمة "بيبولز فارمسي" ذلك بأنه "المثال الأول المتوفر لدينا حيث يمكن لظروف التخزين أن يكون لها تأثير عميق على جودة الدواء، وقد أقرّت إدارة الغذاء والدواء بذلك".
انتظرت إدارة الغذاء والدواء حتى أكتوبر 2021 لنشر بعض المعلومات المحددة حول ما اكتشفته، حتى أنها لم تقم بذلك عبر دراسة بحثية بل من خلال سلسلة من المحاضرات الشهرية حملت اسم "الجولات الكبيرة لإدارة الغذاء والدواء". فقد تبيّن أن قرصاً واحداً من رانيتيدين بطعم النعناع المنعش احتوى على 357 نانوغراماً من (NDMA) عند اختباره للمرّة الأولى، أي أكثر بأربعة أضعاف تقريباً من الحدّ الأقصى الذي حددته إدارة الغذاء والدواء، وارتفعت هذه الكمية إلى 931 نانوغراماً عند فحصه مجدداً بعد خمسة أشهر.
انتقادات للإدارة
رفضت إدارة الغذاء والدواء التعليق على أي من اتصالاتها مع شركة "غلاكسو"، واكتفت ببيان قالت فيه إنها تعمل لتأمين الحصول على أدوية آمنة وفعّالة وذات جودة عالية، وعلى تقييم المنافع والمخاطر "انطلاقاً من العلوم المتوفرة اليوم".
بيّنت أنها تطلب سحب أدوية من الأسواق حين يستدعي الأمر ذلك لدى "اكتشاف شوائب جديدة أو استخدام عمليات تصنيع جديدة وعند تحقيق تقدمات علمية. فإدارة الغذاء والدواء تعمل لتعزيز السلامة والجودة والفعالية وستستمر في التحقيق بالمخاطر الناشئة التي تهدد صحة المرضى".
استند قرار إدارة الغذاء والدواء بسحب رانيتيدين من السوق لطريقة تكوّن (NDMA) داخل الدواء وليس في المعدة. تقول الإدارة إنه بعد هضم رانيتيدين لا يؤدي لتكوّن مزيد من (NDMA)، إلا أن بعض العلماء يخالفونها الرأي.
نشرت "جي أس كيه" في ديسمبر 2020 نتائج تحليل الأسباب الجذرية، وجاءت النتيجة غير حاسمة. لم يستطع علماء الشركة أن يحددوا بالضبط كيف كان (NDMA) يتشكل في رانيتيدين، وأشاروا إلى أنه في بدايات تطوير الدواء في سبعينيات القرن الماضي، لم يكن لدى أحد أي سبب منطقي ليتوقع أن يتكوّن (NDMA).
اتخذت إدارة الغذاء والدواء بعد ستّة أشهر قراراً نادراً وهاماً آخر. فبرغم أنها عثرت على (NDMA) في رانيتيدين، وبرغم أن رانيتيدين مادة قد تكون مسرطنة للبشر، قالت الإدارة إنها لم تجد "مؤشرات متسقة" تدلّ أن "زانتاك" يزيد خطر الإصابة بالسرطان.
جاء ذلك في الصفحة الثامنة من دراسة من عشر صفحات تختبر مستويات (NDMA) في بول أشخاص تناولوا رانيتيدين، وقد اعتمد بيان إدارة الغذاء والدواء على سبع دراسات بحثية أجراها علماء من خارجها.
في حين أظهرت إحدى الدراسات علاقة بين رانيتيدين وسرطان الثدي، إلا أن الإدارة انتقدت الطريقة التي أُجريت بها الدراسة.
أشارت دراسة أخرى إلى بعض المخاوف حيال تسببه بسرطان الكبد، إلا أن معدّيها قالوا إنهم ليس لديهم ما يكفي من البيانات من أجل تأكيد علاقة بين الاثنين. في حين لم تبد الخلاصة التي توصلت إليها إدارة الغذاء والدواء حاسمة، إلا أن البيان الصادر عنها بات جزءاً لا يتجزأ من حملة العلاقات العامة التي تقودها "غلاكسو"، وعلى الأرجح أيضاً من دفاعها القانوني.
يصف بعض العلماء ذلك "بالبراءة بحكم التبعية". وجدت ثلاث دراسات بعد ذلك رابطاً بين الدواء والسرطان، بالأخص سرطان المثانة والكبد. تقول إدارة الغذاء والدواء إنها متمسكة ببيانها، فيما يقول المنتقدون إن هذا الموقف يعفي الوكالة من تحمّل مسؤولياتها عن السماح ببقاء مادة كيميائية خطيرة في دواء طيلة عقود.
[object Promise]سرطان المثانة
بعد فترة، لم تعد أقراص "زانتاك" التي تُصرف بلا وصفة طبية ويتناولها جون راسل كافية للتخفيف من ضيقه، فوصف له الطبيب في 2017 جرعة يومية قدرها 300 مليغرام. بعد عام ونصف، لاحظ راسل دماً في بوله، واكتشف الطبيب ورماً بطول ثلاث سنتمترات في مثانته. أُبلغ راسل، مثل غويز أن السرطان قد يعود، وعاد بالفعل. وقد وصف راسل المرض بأنه "أشبه بعشب ضار".
كان طبيب الرعاية الأولية الذي عالج راسل متعجباً لإصابته. قال راسل: "لم أدخن يوماً، هذا العامل الأكثر خطورة، ولم أعمل قطّ على مقربة من مواد كيميائية أو البلاستيك، والمرض ليس وراثياً في عائلتي، بالكاد كنت قد سمعت عن سرطان المثانة من قبل". كشفت كلّ عمليات تنظير المثانة التي خضع لها راسل منذ 2021 عن وجود ورم، وقد خضع لأربع عمليات جراحية خلال 18 شهراً.
حين سمع عن سحب "زانتاك" من السوق، تذكر أنه تناول "آلافاً من تلك الأقراص". كان راسل يلعب كرة القدم في الجامعة ويهوى التمارين الرياضية، لكن اليوم وقد بلغ عمره 58 سنة يبدو وقد أنهكته العمليات الجراحية. قال: "أريد النيل من الجاني". قرأ راسل عن قرار القاضية الفدرالية في ديسمبر، وقال "أرغب في المثول أمام المحكمة، أريد أن يخبرني القاضي عمّا يظنّ أنه سبب السرطان الذي أعانيه".
يعاني جيمس غوتيز من قصور كلوي، وسيضطر للخضوع إلى غسيل الكلى قريباً، ولكنه ما يزال قادراً على العمل ويتوقع أن يقدّم شهادته أمام المحكمة في مقاطعة ألاميدا. عند سحب "زنتاك" من السوق، احتفظ بأربع زجاجات كان قد اشتراها، وهي الآن موجودة في الثلاجة في مكتب برين ويسنر وهو أحد محاميه إلى جانب أقراص أخرى تعود لراسل.
أظهرت الاختبارات أن أحد أقراص غويتز ملوثة بـ3 آلاف نانوغرام من (NDMA). قال ويسنر إن أحد أقراص راسل تحتوي على ضعفَيْ تلك الكمية، مشيراً إلى أنه دعا "جي أس كيه" لفحص الأقراص، إلا أنها لم تستجب.
اتفاقات تسوية
توصلت "بوهرينغر" (Boehringer) و"فايزر" و"سانوفي" لاتفاق تسوية مع غويتز في ديسمبر، مع إبقاء المبلغ الذي دفعته سرياً. يمكن لـ"جي أس كيه" أن تختار تسوية القضية أيضاً. إن لم تفعل، سيحاول ويسنر وشريكته في القضية جنيفر مور أن يقدما الدعوى أمام المحكمة نفسها التي فاز فيها ويسنر بحكم بقيمة ملياريْ دولار ضد شركة "باير" (Bayer) لصالح زوجين زعما أن مبيد الأعشاب "راونداب" (Roundup) تسبب لهما بالسرطان. وعاد وخفّض قاض آخر الحكم إلى 87 مليون دولار.
كانت مور قد تمكنت أيضاً من الحصول على أحكام بمبالغ طائلة لصالح موكلين آخرين في القضية ضد "روانداب". قالت إنه في حالة المبيد العشبي، لا يوجد إجماع علمي بأنه مسبب للسرطان، فيما أنه متعارف على أن (NDMA) مادة خطرة.
أضافت: "في هذه الحالة، كافة المنظمات العلمية والهيئات الناظمة تقول إن (NDMA) مادة مسرطنة لدى البشر، ولدينا أقراص موكلينا التي تظهر مستويات فلكية من المادة المسرطنة".
تحظى محاكمة غويتز بأهمية خاصة بما أنها الأولى منذ صدور الحكم الاتحادي في فلوريدا الذي عمّ على إثره شعور لدى الشركة والمستثمرين بأن الخطر زال. كانت الرئيسة التنفيذية لـ"جي أس كيه" إيما ويلمسلي قد قالت في اتصال لمناقشة الأرباح في الأول من فبراير "واضح أننا كنّا جدّ مسرورين بالنتيجة".
بحسب سردية "جي أس كيه"، فإن مراجعة روزنبرغ لـ13 دراسة وبائية لم تجد أي رابط بين رانيتيدين والسرطان. لكن هذا الأمر غير صحيح تماماً، فهي في الواقع أجرت مراجعة لـ11 دراسة، وجدت أربعة منها رابطاً قال العلماء إنه يستحق مزيداً من البحث. كان عديد من الدراسات التي اطلعت عليها روزنبرغ قيّمت الخطر الإجمالي للسرطان. قال ويسنر إن أحد التحليلات التي تضمّ دراسات وبائية تحوي بيانات حول سرطان المثانة، بينها بعض الدراسات التي اطلعت عليها روزنبرع تشير إلى "خطر مرتفع إحصائياً في حال تناول رانيتيدين".
[object Promise]"زنتاك" بحلّة جديدة
يجوز القول إذاً إن العلم غير حاسم تجاه هذه القضية، وقد يختلف الحكم باختلاف القضاة وهيئات المحلفين. قد تواجه "جي أس كيه" دعاوى قضائية تمتد لسنوات في كاليفورنيا وديلاوير وغيرها من الولايات، وقد تتكبد مبالغ طائلة تتراوح تقديرياً بين 3.5 مليار و17 مليار دولار.
كما أعلنت الشركة في يوليو 2020 أنها تتعاون مع تحقيق لوزارة العدل حول "زانتاك". كما تواجه "فايزر" و"سانوفي" دعاوى مشابهة بشأن بيع منتجات قد تكون خطرة.
كما حال "جي اس كيه"، ترفض الشركتان المزاعم بأن "زانتاك" يشكّل خطراً على الصحة. لدى طلب التعليق على القضية، أشارت "فايزر" إلى بيان على موقعها الإلكتروني مفاده أن الشركة باعت "زانتاك" في 2006 وأن لديها "دفاعاً فعّالاً في هذه القضية وما تزال هناك مسائل قانونية ووقائع مهمة ستتولاها المحاكم".
قال متحدث باسم "سانوفي" إنها "واثقة بدفاعنا في هذه القضية نظراً لافتقار مزاعم الادعاء للدعم العلمي الواضح".
كانت "سانوفي" قد أجرت تحقيقها الخاص حول طريقة تكوّن (NDMA) في أقراص "زانتاك" آملة أن يمكّنها ذلك من القيام ببعض التعديلات التي يمكن أن تجتاز تدقيق إدارة الغذاء والدواء، ما يتيح إعادة الدواء إلى السوق.
سمّت الشركة هذا المشروع "مشروع تشرتشل"، إلا أن نتيجته خالفت المرجو منه فاضطرت "سانوفي" لاتخاذ قرار غير مسبوق، إذ لم تستطع أن تجد طريقة لتصنع "زانتاك" باستخدام المكوّن الذي يجعله "زانتاك"، أي رانيتيدين.
لذا أعادت الشركة صنع "زانتاك" في 2021 باستخدام مادة فاموتيدين، وهي العنصر الفعّال الأساسي في دواء آخر للحرقة هو "بيبسيد" (Pepcid). يتوفر دواء "زانتاك" ذاك في السوق حالياً. تقول "سانوفي" على موقعها الإلكتروني إن هذه النسخة من الدواء "تستند إلى تاريخ علامة (زانتاك) وإرثها".