الخوف جعل جون مكافي ثرياً.. ثم دمره

عبقري تقنية ماجن ترشح لرئاسة الولايات المتحدة ومات في سجن إسباني متهماً بتهرب ضريبي، هل انتحر؟

time reading iconدقائق القراءة - 28
جون مكافي - المصدر: بلومبرغ
جون مكافي - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

يكاد وشم جون مكافي يروي القصة من ألفها إلى يائها بكلمة يتيمة. كانت البداية في بلدة "كامبريلز" الإسبانية المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط في 2019 حين أقنع زبون ملحاح سانتياغو كويفس أن يعيد فتح أبواب صالون الوشم "سكوربيو تاتو" الذي يملكه بعدما أغلقه مستهلاً عطلته.

كان الزبون متيقناً بشأن مبتغاه: وشم بسيط على شكل كلمة "WHACKD$"، التي تعني "مقتول" بلغة الشارع، على عضلة عضده الأيمن.

قال إنه راغب بهذا الوشم تحديداً ليكون رمزاً لرغبته "بأن يكون حياً". تجاذب كويفاس حديثاً ودياً مع عميله اللحوح فيما كان يقحم حبر الوشم تحت جلده على مدى ساعة تقريباً. يتذكر كويفاس أن ذاك الزبون الغامض "لم يفصح عن هويته... لكنني أدركت من كان في العام التالي".

كان زبون كويفاس هو جون مكافي، رائد البرمجيات الذي كان يُفترض أن يكون صاحب ثروة بمئات الملايين في وادي السليكون. لكن حين جلس مكافي على الكرسي قبالة كويفاس كان مفلساً وهارباً من العدالة لنحو عقد.

ذاع صيت مكافي رائداً في الحوسبة خلال الثمانينيات والتسعينيات، وكان يُذكر في أوساط القطاع التقني في مصاف بيل غيتس وستيف جوبز.

مؤامرة خفية

نجح مكافي إلى حد كبير بإقناع قطاع الحوسبة الذي كان في المهد بأن يخشى وجود ثغرات أمنية تسمح باختراق أنظمته، ثم أن يوكل له مهمة تأمين منتجاته.

في نهاية هذه الحقبة، كان مكافي قد بدد أمواله واتجه لمشروعات الأثرياء التي هي محض تفاخر لا طائل منه. لكن حياته بدأت تنهار في القرن الواحد والعشرين، حين أقيمت ضده دعوى قضائية بتهمة القتل الخطأ، كما بدت ثروته وكأنما تبخرت بين عشية وضحاها.

ثم لاحقته جهات قضائية أثناء هروبه في بيليز، حيث وجهت له اتهامات بالاغتصاب والقتل. كان مكافي قد بدأ رحلة هروبه الأخيرة من قبضة العدالة بحلول الوقت الذي قابل فيه كويفاس أواخر 2019.

الولايات المتحدة تُلزم الشركات بالإبلاغ خلال 72 ساعة عن الهجمات السيبرانية

بات مكافي محور ضجة إعلامية صاخبة ونُسجت من خيوط قضاياه ووشمه نظريات مؤامرات. لم يكن المبرر الواهي الذي صرح به مكافي لكويفاس بشأن الوشم هو دافعه الوحيد، بل أراد التقني البارع أن يكون الوشم رمزاً لعملته المشفرة من جهة، وإشارة يوجهها للمؤمنين بنظرية المؤامرة بأن تخطيطاً لاغتياله يمضي قُدماً.

قارن مكافي نفسه برجل الأعمال الأميركي سيئ السمعة، جيفري إبستاين، الذي قضى في سجنه بينما كان ينتظر أن تفصل محكمة بقضية اتجار بالبشر كان فيها متهماً.

غرد مكافي في أكتوبر 2020 قائلاً: "فلتعلموا إن شنقت نفسي، كما كان أمر إبستاين، فإن ذلك لن يكون خطأً اقترفته أنا".

قبض ضباط الهجرة على مكافي في نفس الشهر بمطار إل بارت الدولي في برشلونة إنفاذاً لمذكرة اعتقال دولية تستند لتهمة التهرب الضريبي، واحتجزته السلطات دون إمكانية الإفراج عنه بكفالة.

عُثر على رائد البرمجيات مشنوقاً داخل زنزانته في 23 يونيو 2021، بعد ساعات من تبليغه بأنه سيُرحل إلى الولايات المتحدة، ثم أغلقت السلطات الإسبانية التحقيق مستبعدة وجود شبهة جنائية واعتبرته منتحراً.

بات وشم كويفاس بمثابة رمز مقدس لدى أتباع مكافي الذين اعتبروه دليلاً على أن نافذين أرادوا إسكاته لكنه أبى أن يرحل بصمت.

تناقضات شخصيته

ليس ذلك متسقاً مع شخصية مكافي، الذي كان يجعل نفسه محط أنظار الجميع ولو كان محاطاً بأبرز الشخصيات. يُعزى هذا السلوك لمعاقرته العلنية للمخدرات والكحول بكميات هائلة، لكنه كان يتمتع أيضاً بجاذبية لا يمكن نكرانها.

قالت جوي أثاناسيو، صديقة ومحامية جين ابنة مكافي: "كان لديه حاشية تحيط به على الدوام، كما عامله الناس كما لو كانت له منزلة زعيم طائفة دينية".

كان مكافي كذوباً، لكن كذبه كان قهرياً في بعض الأحيان، وذلك يُصعب كشف غموضٍ اكتنف سنيه الأخيرة، التي غالباً ما طغت فيها الغرابات. يصفه زملاؤه ومقربوه بأنه رجل غامض يكون صاحياً ولبقاً تارةً، ثم يعتريه الارتياب أو حتى الذهان تارةً أخرى.

قال جيمي واتسون جونيور، حارس مكافي الشخصي السابق وشريكه التجاري: "كان الأمر أشبه بالعمل لدى ستالين أو هتلر أو شخص من هذا القبيل. كان يراقبني ويراقب الجميع على الدوام".

أما باربرا دويبك، خطيبة مكافي السابقة فقالت: "لم أثق به أبداً. كنا نذهب إلى مطعم فتجده في الحمام يغازل نادلةً". بينما قالت جين مكافي إن والدها: "لم يكن من النوع الذي ترغب بأن يخط قصة حياتك".

كان لدى كل شخص في دائرة المقربين من مكافي، الذين تحدثوا إلى "بلومبرغ بيزنس ويك"، وجهة نظر خاصة حول شخصيته الحقيقية. غير أن جنون الارتياب كان القاسم المشترك بين فترات حياته، حلوها ومرها، إلى جانب ولعه بالمبالغة.

600 ألف وظيفة أمن سيبراني شاغرة في الولايات المتحدة.. والتحديات تتعاظم

لقد بنى مكافي ثروته على هذا الهوس: تبرم صناعة الأمن السيبراني صفقات تُقدّر بمليارات الدولارات سنوياً تحسباً لمخاوفٍ غالباً ما تكون مبالغاً فيها. يجعل هذا مكافي يتحمل مسؤولية انتشار هذا النموذج حاله حال المنخرطين بهذه الصفقات.

حظي مكافي بعديد من الألقاب أبرزها: قطب من وادي السيليكون وملياردير ماجن وزعيم روحي ومطلوب دولي متوارٍ ومتهم بالقتل والاغتصاب ورائد مهد لتطوير قطاعي الأمن السيبراني والعملات المشفرة، وعلى رأسها "بتكوين".

مع تفاقم الكآبة والغموض اللذين أحاطا حياته، بات مكافي أيضاً نبراساً للمعلومات المغلوطة والمضللة على غرار نظرية "كيو أنون". قال مكافي نفسه إنه كان يحاول خلق واقعٍ بديلٍ كاملٍ في بعض الأحيان. مع ذلك، كانت هناك بعض الحقائق التي لم يستطع التقني اللامع تجاوزها، بغض النظر عن ثروته أو جاذبيته.

طفولة بائسة

عندما روى مكافي قصة حياته، بدأ بإدمان والده على الكحول وما اقترن به من سلوك عنيف. قال في مقابلة مع قناة "إيه بي سي نيوز" في 2017: "لا يحظى أحد بحياة مثالية، حتى الأطفال". كان والده جندياً أميركياً يتمركز في جنوب غرب إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية، وأنجبته والدته البريطانية جوان ويليامز بعد مرور نحو أسبوعين على يوم الانتصار على اليابان وانتهاء الحرب في 1945.

سرعان ما انتقلت العائلة إلى الولايات المتحدة، لتستقر في مدينة سيلم بولاية فيرجينيا. وصف مكافي والده بأنه سكير بغيض أساء معاملته وأمه إلى أن انتحر بطلقة حين كان هو في الخامسة عشرة.

قالت فران، زوجة مكافي الأولى، إن شبح والده لم يفارق خياله: "كان مزاجه شديد التقلب على نحو مخيف. كان ذلك بسبب ما تعرض له خلال تلك السنوات".

أظهر مكافي ثقة كبيرة بقدراته البيّنة في الرياضيات منذ سن مبكرة، فضلاً عن نظرة مفعمة بالإصرار على تحقيق أهدافه مهما كلف الأمر. قال رائد البرمجيات في مقابلته مع قناة "إيه بي سي نيوز" إنه كان يبيع الكوكايين أثناء دراسته الجامعية.

التقى مكافي زوجته فران عندما كان طالب دراسات عليا للرياضيات، وكانت إحدى طالباته وسنها 18 عاماً، وقد فُصل من عمله بعدما تكشفت علاقتهما.

عبقرية تقنية

لكن حياته المهنية كانت آخذة في الازدهار بحلول أواخر الستينيات، فعمل لدى شركات "زيروكس" و"يونيفاك" و"سيمنز" و"بوز ألين هاميلتون" و"لوكهيد مارتن"، إضافة لوكالة "ناسا". بالغ مكافي في أهمية مكانته وتأثيره في بعض هذه المؤسسات.

على سبيل المثال، زعم التقني البارع أنه عمل على تشفير الأقمار الصناعية ومشروع لمعالجة البيانات الرئيسية الخاصة ببرنامج "أبولو"، بينما قال خبراء مخضرمون في "ناسا"، ومنهم المهندس جيم كاميرون، إنه لم يضطلع بأي من تلك المهام.

مع ذلك، شرع مكافي يرفع اسمه في وادي السيليكون بحلول الثمانينيات. شغل رائد البرمجيات منصب رئيس قسم البحث والتطوير في شركة "أوميكس"، وهي إحدى أوائل شركات تخزين البيانات، ما يعني أنه صمم برنامجاً لأنظمة تشغيلها.

جون مكافي رائد برامج مكافحة الفيروسات يفارق الحياة في السجن

تتذكر مديرته ريبيكا كوستا أنه كان بارزاً باختلافه. قالت: "أتذكر أنني نظرت من نافذة مكتبي ورأيت رجلاً يقود دراجة نارية مرتدياً سترة جلدية سوداء تشبه سترات مايكل جاكسون. كانت كيفية تقديمه لنفسه لا تقل غرابة عن لقاء كائن فضائي". ألمحت له يومها إلى أن موعدهما كان مقرراً في الثامنة صباحاً وقد أتي بعدما انقضى نصف اليوم، فأجاب: "نعم، لكنني كنت حينها ما أزال أعاني صداع الثمالة".

قالت كوستا إنها لم تكن تتيقن أن مكافي سيلتزم بالمواعيد النهائية أو الميزانيات، لكن كفاءته كانت تستحق التغاضي عن بعض الأمور: "استغرقني الأمر 15 دقيقة في مختبر البحث والتطوير لأدرك أنه كان عبقرياً. لم أكن لأعبأ إن أقام حانةً داخل إدارة البحث والتطوير واحتسى الخمور طوال اليوم. إن كان بإمكانه أن يحل المشكلات التقنية التي كان يجد لها حلولاً، فهو من أبحث عنه".

مخاوف مربحة

استقال مكافي من "أوميكس" بعد عامين سعياً وراء مكاسب أكبر. تغلغل أسلوب رائد برامج مكافحة الفيروسات الفوضوي في ثقافة "مكافي أسوشيتس" لدى تأسيسها في 1987. زعم مكافي لاحقاً أنه ابتكر برنامج مكافحة الفيروسات الذي يحمل اسمه في يوم ونصف، كوسيلة لمحاربة فيروس قديم آخذ في الانتشار، وأنه بات لديه أربعة ملايين مستخدم في غضون شهر.

حقق مكافي معظم مساعيه للانتشار عبر أفعال لافتة للنظر مثل الشاحنة التي تشبه سيارة فيلم "صائدو الأشباح" (Ghostbusters)، التي كان يقودها إلى مكاتب الزبائن. لكن برنامجه لمكافحة الفيروسات كان موثوقاً أيضاً.

قال بول فيرغسون، الذي عمل في مجال الأمن السيبراني لأكثر من 30 عاماً: "لقد كان البرنامج بمثابة معيار ذهبي. إنّ رصد (مكافي) أي ملفات ضارة، يمكنك الوثوق بحقيقة أن جهازك أصيب بفيروس فعلاً، وأنه البرنامج لم يشر لإصابة خطأ".

أُتيح استخدام برنامج "مكافي" لحماية أجهزة الكمبيوتر المنزلية مجاناً بدايةً، فيما فُرضت رسوم على استخدام الشركات له فقط. دأبت "مكافي" على زيادة مساحة تواجدها الإعلامي لجذب اهتمام جماهير أكثر على كلا الجانبين من جهة، وترسيخ فكرة الحماية من الفيروسات لدى الوعي العام من جهةٍ أخرى.

ثم بزغت فرصة "مكافي" الكبرى في 1992 مع ظهور فيروس "مايكل أنجلو". آنذاك، قيل أن الأخير يصيب أجهزة الكمبيوتر فيما يظل خاملاً حتى عيد ميلاد الفنان الشهير في 6 مارس، ثم يزيل جميع البيانات الموجودة على الأجهزة التي تعرضت للفيروس.

في حين قدّر نظراؤه عدد الأجهزة المصابة بآلاف، قال مكافي للصحفيين إن إجماليها قد يكون 5 ملايين، ما يعني خسائر تُقدّر بعشرات ملايين الدولارات. ثبت أن التقديرات الأقل كانت الصحيحة في نهاية الأمر، لكن التحذير العام رفع مبيعات برامج مكافحة الفيروسات.

ثقافة الفوضى

تصعب المبالغة في تقدير مدى انتشار برنامج "مكافي" لمكافحة الفيروسات حول العالم في عصرنا الحالي. كلما شغّلت جهاز كمبيوتر يعمل بنظام "ويندوز" سترى شعار نظام التشغيل، ثم برنامج "مكافي" يتفحص الجهاز بحثاً عن أي تهديد.

اعتدنا رؤية ذاك الدرع الحامي الصغير في زاوية الشاشة طوال الوقت، وهو من مألوف بني فئة عمرية معينة، تماماً كما ألفوا أصوات الصفير والتشويش التي كانت تصدر عن المودم حين الاتصال بالإنترنت أو عبارة التنبيه الأشهر "لديك رسالة جديدة".

كان مكافي قد طُرد من الشركة بحلول ذلك الوقت. لقد خفضت درجته الوظيفية ليصبح كبير مسؤولي التقنية، لأن أصحاب رأس المال المغامر كانوا يهيئون الشركة لطرح أسهمها لاكتتاب عام.

كان الموظفون الذين استعانت بهم "مكافي" للمشاركة في إدراتها قد ضاقوا ذرعاً بثقافتها التي تضمنت مسابقات مخلّة في مكاتبها وإقامتها حفلات كانت لتبدو أنسب كمشاهد لفيلم (The Wolf of Wall Street).

87 % زيادة في هجمات الفدية على المؤسسات الصناعية في 2022

قالت أندريا نيشن، وهي إحدى كبار مسؤولي "مكافي": "كان جون عبقرياً تقنياً مذهلاً، لكنه لم يكن قائداً. لم يستطع الارتقاء بالشركة إلى المستوى التالي". أضافت نيشن، التي تذكرت تنظيف المكاتب من مخلفات مقززة بعد تلك الحفلات، إن مكافي كان مستعداً للتخارج من الشركة.

استقال التقني البارع من وظيفته في 1993، وتخلى عن كرسيه عضواً في مجلس الإدارة في 1995، ثم تخارج من الشركة بشكل كامل مقابل 84 مليون دولار على الأقل، كانت بين نقد وعوائد بيع أسهم. لكن ذلك لم يكن كافياً.

هواية جديدة

أقام مكافي لبضع سنوات في عقار تحول لاحقاً إلى مركز يوغا في ولاية كولورادو، حيث أسس رائد البرمجيات نادياً لهواية جديدة أسماها "أيروتريكينغ" (aerotrekking) في 2006. تركزت الهواية الجديدة على التحليق بطائرات خفيفة جداً على ارتفاع شديد الانخفاض.

يتضمن تصميم جسم الطائرة محركاً يعمل بالوقود، لكنه أغفل إدخال قمرة للقيادة، وغالباً ما تحلق بأجنحة مصنوعة من قماش. يفترض بالطائرات المبتكرة أن تكون رشيقة بما يتيح لها التحليق موازية لجروف الوديان سفوح الجبال وأن تكاد تلامس قمم الأشجار فيما يبقى طيارها مكشوفاً تماماً نظراً لعدم وجود قمرة قيادة.

أنفق مكافي زهاء 11 مليون دولار على بناء مجمع لممارسة هواية "أيروتريكينغ" على أرض يملكها مساحة 157 فداناً في نيو مكسيكو، كما أنشأ شركة "ساوثويست أيروتريكينغ أكاديمي" (Southwest Aerotrekking Academy) وأعلن عن رحلاتها. بدا المكان، الذي تضمن مقهى خاصاً ومتجراً عاماً ومسرحاً سينمائياً، وكأنه واحة خيالية مفعمة بالأدرينالين لبعض الوقت.

لكن وقوع حادث في صباح يوم من نوفمبر 2006 غير مجرى الأحداث، فقد تحطمت طائرتان في وادي "ستارفيشن كانيون" القريب وتُوفي طياراهما وكان أحدهما ابن شقيقة مكافي وهو من مدربي الأكاديمية. رفعت عائلة الطيار الآخر دعوى قضائية ضد مكافي ووالد ابن شقيقته والأكاديمية في 2008.

باع مكافي أصول شركته وفرّ إلى بيليز. تجاهل التقني البارع أوامر المحكمة وراوغ موظفي التبليغ خلال مؤتمرات التقنية لسنوات. رغم أن المحكمة قضت بتعويض عائلة الهاوي المتوفى بنحو 2.2 مليون دولار، إلا أن مكافي لم يدفع المبلغ قط. قال فرانك فليمنغ، محامي الأسرة: "لقد كان متعجرفاً جداً واحتقر العملية القضائية برمتها".

هروب متكرر

ساءت الأحوال في بيليز، فقد بدأ الأمر بأن اشترى مكافي كميات كبيرة من المخدرات والأسلحة، ثم استعان بحارسين شخصيين لحمايته، وتورط بعلاقات مع صديقات مراهقات. كما وظّف مكافي باحثة في علم الأحياء كانت تعمل لدى جامعة "هارفرد" لتعمل على تطوير مضادات حيوية طبيعية وأدوية موضعية، لكنها استقالت لاحقاً وزعمت أنه خدّرها واغتصبها.

أنكر التقني المخضرم ادعاءات الباحثة ولم توجه إليه أي اتهامات. داهمت وحدة شرطة لمكافحة العصابات المجمع السكني حيث يقيم مكافي، ورغم أن المداهمة لم تفض لتوجيه اتهامات له، إلا أنها عمّقت نوبات جنون الارتياب لديه.

عندما سعت سلطات بيليز لاستجوابه بشأن مقتل جاره الأميركي المغترب في 2012، فرّ مكافي إلى غواتيمالا.

سُجن رائد البرمجيات لدى دخوله غواتيمالا بشكل غير قانوني، وادعى أمام الصحفيين أن رئيس وزراء بيليز هو من لفّق التهمة المنسوبة إليه واتهمه دون دليل بأنه أمر بقتل معارضيه. طغت ادعاءات مكافي لفترة على جريمة القتل الفعلية.

رحّلت سلطات غواتيمالا مكافي إلى الولايات المتحدة بدل تسليمه إلى بيليز ليُستجوب. أصدرت محكمة مدنية في فلوريدا حكماً يلزم التقني المخضرم بدفع 25 مليون دولار لأسرة جاره المقتول، لكنه لم يفعل.

خلت حياة مكافي من متاعب كبرى بعد عودته إلى الولايات المتحدة، حيث التقى زوجته الأخيرة جانيس مكافي عندما كانت تعمل بالدعارة، ثم تطلقا وبقيا كما الأزواج بعد ذلك. جنى رائد البرمجيات بعض المال من تقاضيه أجوراً مقابل التحدث عن تجربته في مناسبات مختلفة.

برز نجم مكافي لفترة وجيزة عبر "يوتيوب" مع انتشار مقطع مصور يعج بالأسلحة والنساء ومسحوق أبيض قابل للتنشق، كما ترشح للرئاسة في 2016 باعتباره تحررياً. كان مؤسس "مكافي" قد بدأ يروج للعملات المشفرة حين ولج المشهد السياسي في الولايات المتحدة، فورطه هذا في مشكلات مجدداً.

دعاية أم احتيال؟

قال واتسون، حارس مكافي الشخصي السابق وشريكه التجاري، إنه روّج للعملات المشفرة عبر "تويتر" سعياً للمال. تلزم الهيئات التنظيمية للأوراق المالية التقليدية المشاركين في أنشطة دعائية للعملات المشفرة بالإعلان عن علاقات العمل من هذا النوع تجنباً للاتهام بالاحتيال، رغم أن رعاية أو توقيع عقد للمشاركة في أنشطة الدعاية مع شركات العملات المشفرة مشروع. كانت قضية مكافي توشك أن تصبح بمثابة اختبار تنظيمي لمعاملة العملات المشفرة كسند مالي يخضع لقواعد الإفصاح ذاتها.

بعد حملة أميركا التنظيمية.. شركات التشفير تبحث عن ملاذات "صديقة"

في سياق منفصل، بلغ مكافي أن الحكومة الفيدرالية بصدد التحقيق معه بتهمة التهرب الضريبي وأنها تخطط لتوجيه اتهامات له في أواخر 2018، فما كان منه إلا أن أبحر هو وجانيس بقاربه من ميامي إلى منطقة البحر الكاريبي.

سجل مكافي خطاباً مصوراً وجهه لجمهور رحلة بحرية تحت عنوان العملات المشفرة: "أعتذر بشدة لأنني لا أستطيع أن أكون معكم للاستمتاع بهذه الرحلة البحرية الرائعة. لكن سبب غيابي عنكم هو أنني لو حاولت مشاركتكم لأعادني الإنتربول إلى أميركا لمواجهة اتهامات بالتهرب الضريبي. صحيح أني لم أدفع ضرائب منذ ثماني سنوات ولم أقدم إقرارات ضريبية منذ ثماني سنوات، ولن أفعل ذلك مجدداً".

فرّ مكافي وجانيس إلى جزر الباهاما ثم جمهورية الدومينيكان، حيث انتهى بهما المطاف في السجن لأن قاربهما كان محملاً بالأسلحة والمخدرات والنقود وسبائك ذهبية. تمكن مكافي من استغلال أنه مزدوج الجنسية لكونه بريطانياً أيضاً كي يُرحّلوا إلى أوروبا قبيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وليس إلى الولايات المتحدة.

الفرار الأخير

كان الزوجان قد شقا طريقهما إلى إسبانيا بحلول أكتوبر 2019، حيث ألقى مكافي خطاباً في مؤتمر أسبوع بلوكتشين في برشلونة. سأل أحد متابعي رائد البرمجيات على "تويتر" عما يفعله في كاتالونيا في ديسمبر. فنشر مكافي صورة له التقطت في بلدة سالو الواقعة قبالة ساحل البحر المتوسط. ثم كشف مكافي خلال الأشهر التي تلت ذلك تحركاته لمن كانوا يترقبونها بحرص.

حظي مكافي بحياة متواضعة على نحو غير معهود في كامبريلز. كان يرتاد مطعم "كاتوري" للسوشي بانتظام دون أن يباهي بمآثره أمام العاملين. لكنه جعل من كسر قيود الإغلاقات الرامية للحد من تفشي "كوفيد-19" هواية فيما كانت إسبانيا تشهد موجة شديدة من الإصابات.

ضمّن مكافي تغريداته مقاطع مصورة له على شاطئ ومنتزه كامبريلز، إضافة إلى صورة له وهو يتبول في موقف سيارات "ماكدونالدز". تؤكد جانيس أنه كان يقيم على بعد يقل عن كيلومترين خارج المدينة في فندق مهجور يُسمى "داورادا بارك".

رسمياً، لم يكن الفندق مفتوحاً منذ 2017، وفقاً لتعليقات على موقع "تريب أدفايزر". كان سقف مدخل الفندق الرئيسي يتداعى حين زرناه العام الماضي، لكن كان واضحاً أن أناساً كانوا يقيمون فيه. كانت على شرفاته طاولات تزينها نباتات مروية وبه ناموسيات لدرء البعوض نُصبت باعتناء.

كان فندق "داورادا" قد استُخدم كمنجم غير متوقع لتعدين العملات خلال الفترة من 2018 إلى 2020 على الأقل، وفقاً لتقارير إخبارية محلية.

كانت جانيس تتنقل في أنحاء إسبانيا، لكنها التزمت الحذر أثناء الحديث عن الفترة التي قضتها هناك، وشرحت أنها تخشى على سلامتها وأن ثمة من كان يراقبها أثناء التسوق ولا تعرف بمن تثق. قالت: "أنا لا أريد الخوض في تفاصيل الفترة التي قضيناها في إسبانيا وحسب. كان هناك أصدقاء يساعدون جون، ويتطلب ذلك قدراً من الخصوصية".

أضافت جانيس إن تعاون هؤلاء الأصدقاء يعود إلى 2018 على الأقل، حين سجل مكافي خطابه المصور لجمهور رحلة العملات المشفرة البحرية. لم يقل واتسون، الذي قضى أيضاً وقتاً مع مكافي في إسبانيا، الكثير عن تلك التجربة: "لا أريد التعمق في هذا الأمر، فقط لحماية نفسي".

تصعيد الصراع الروسي مع أوكرانيا يهدد بحرب سيبرانية

اعتقال منتظر

في صيف 2020، ضمن مكافي تغريدة عبر "تويتر" مقطعاً مصوراً لناطقين بالروسية يعلمانه هو وجانيس أساسيات اللغة في حانة. لم يكن هذان الشخصان أعضاء في عصابة نافذة في روسيا، وفقاً لما توصلت له "بلومبرغ بيزنس ويك". يبدو أنهما كانا يحاولان جني بعض المال السريع من العملات المشفرة.

كان دعم مكافي للعملات المشفرة يدر أموالاً تكفي كي يواصل السفر والتغريد متسخطاً بشأن قيود "كوفيد". نشر صوراً له وهو يستخدم ملابس داخلية نسائية مزخرفة كبديل للكمامة، كما قال أن بعض الأشخاص الذين زعم أنهم كانوا بدائل له يشبهونه اعتقلوا لمخالفتهم القواعد.

أخطرت "غوغل" مكافي وجانيس بأنها قدمت بيانات من حساباتهما استجابةً لأمر قانوني في إطار دعوى دائرة الإيرادات الداخلية الأميركية ضد الزوجين، لكنه استمر بنشر مقاطع مصورة له وهو يعزف الهارمونيكا تارةً، ويتذمر بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة أو بشأن صديقاته السابقات تارةً أخرى. أخيراً، أُلقي القبض على مكافي بموجب مذكرة اعتقال دولية لاتهامه بالتهرب الضريبي في 3 أكتوبر.

كانت السلطات الإسبانية قد اعتقلت مكافي في برشلونة بعدما ظهر أمر بالقبض عليه عند إدخال بيانات جواز سفره فيما كان يريد أن يستقل طائرة متجهة إلى إسطنبول. احتُجز رائد البرمجيات في سجن محلي كان مجمعاً مترامي الأطراف يبدو كحظائر بسقوف خضراء.

كما وجّهت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية له ولشريكه واتسون تهمة احتيال وطالبت بأن يدفعا ما إجماليه 13 مليون دولار. في وقت لاحق لذلك حكم قاضٍ فيدرالي ضد واتسون، الذي عاد إلى الولايات المتحدة واعتقل هناك، وألزمه بدفع نحو 400 ألف دولار كغرامة ومنعه من تداول الأوراق المالية الرقمية.

بداية النهاية

استعان مكافي بعديد من المحامين للدفاع عنه في المعركة القانونية المقبلة. بالطبع، استمر بالتغريد أيضاً. قالت جانيس إنه سُمح له بالتحدث عبر الهاتف ثلاث مرات في اليوم لمدة ثماني دقائق في كل مرة. كانت تُقرأ له الأخبار، وكانت تُأخذ عنه تغريدات لتنشرها.

نشرت جانيس تسجيلاً صوتياً مطولاً لجون من داخل السجن بعد نحو ثلاثة أسابيع من اعتقاله، قال فيه: "أحبكم جميعاً وأفتقد القدرة على مشاركة الصور والمقاطع المصورة معكم. قد أخرج بكفالة في غضون أسبوع أو أسبوعين، وإن لم يحدث ذلك، سيطلق سراحي هنا في النهاية".

كانت الرسائل اللاحقة أقل تفاؤلاً وتظهر كلمات شعر أملاها على جانيس لتودعه في تغريداته أنه بات أكثر تفكراً. قال التقني الغامض: "جسدي مقيد. لطالما كان عقلي مقيداً بالمخاوف وبصبوّ وطموحات وبالتهرب من الملل. أنا سجين رغبات وظروف تنقلني من سجن إلى آخر بلا فوارق تذكر".

أظهر مقطع مصور لجلسة الاستماع بشأن ترحيل مكافي في 15 يونيو 2021 التقني البارع مخاطباً المحكمة عبر مترجم ويقول إنه لم يدفع الضرائب لأن الفساد يقوّض دائرة الإيرادات الداخلية وأنه ترشح للرئاسة كي يفضح هذا الفساد. بدا وقد بات أنحل كما انحنى ظهره.

قراصنة يستهدفون المتلهفين لشراء منازل بخدعة غبية لكنها ناجحة

استطرد قائلاً: "إذا رُحلت إلى الولايات المتحدة، من فضلك ترجم ما أقول، سأقضي بالتأكيد بقية حياتي في السجن. أود أن أطلب من المحكمة أن تأخذ كل هذه التصريحات في الاعتبار. شكراً لك". لكن المحكمة الإسبانية وافقت على الطلب الأميركي بتسليم مكافي بعد أسبوع من ذلك.

تحدثت جانيس إلى مكافي صباح 23 يونيو بعد عودته من المحكمة مباشرة، فقالت إنه لم يكن سعيداً بالقرار رغم أنه كان مستعداً له، وأن محاميه كانوا يعملون على استئنافه. لكن الحراس فتحوا باب زنزانة مكافي ذاك المساء فوجدوه معلقاً بالنافذة شنقاً، وفق ما نقلته الصحافة الوطنية. تُوفي مكافي إثر ذلك عن عمر ناهز 75 عاماً.

كانت جانيس قد نشرت محتوى رسالة الانتحار، التي أبلغ ضابط السجن عن العثور عليها في جيب مكافي: "أنا شبح طفيلي. أرغب بالتحكم بمستقبلي المعدوم".

تضارب الآراء

أكد عديد من مقربي رائد البرمجيات أن خط وأسلوب كتابة الرسالة يوافقان شخصيته. كما قرر الطبيب الشرعي أن وفاته كانت انتحاراً وكذلك فعل القاضي الذي نظر القضية. غير أن ظروف الوفاة كانت مثالية بالنسبة لقاعدة مكافي الجماهيرية من المؤمنين بنظرية المؤامرة. لقد كان يردد لسنوات أنه مطلوب، وأن ثمة من يسعى لقتله كما يعبّر وشمه.

قالت جانيس إنها تعتقد أن أحدهم خدّر وخنق شريك حياتها الذي كان زوجها يوماً، لافتةً إلى أنه لم يُسمح لها برؤية جثته على الفور، وأنه حين سُمح لها بذلك رأته عبر حاجز زجاجي. كان هذا على الأرجح بسبب قيود "كوفيد"، لكن هذا زاد يقيناً بأنه ثمة تستر على قتله. قالت جانيس: "حين وجدوه، كان يتنفس وقلبه ينبض".

يعتقد محامي مكافي نيشاي سنان أيضاً أن الأمر لم يكن انتحاراً: "لا تتماشى شخصية جون مع فعل شيء كهذا. لقد كان توقيت الجريمة مريباً، وكذلك الطريقة التي يفترض أنه انتحر بها".

رفضت السلطات الإسبانية التعليق على هذا الموضوع بما يتجاوز حكم القاضي بأن وفاته كانت انتحاراً، مستندةً إلى قوانين الخصوصية التي تحمي المعلومات المتعلقة بتاريخ مكافي الطبي في السجن والتحقيق في وفاته.

ما تزال جثة مكافي قابعة داخل مشرحة في برشلونة. قال محاميه الإسباني خافيير فيلالبا إن جانيس استأنفت الحكم القضائي بوفاة شريكها منتحراً أمام محكمة أعلى. لذلك، لا يمكن نقل رفاته إلى أي مكان للدفن لحين إبرام الحكم في القضية.

قالت جانيس والمحامون إنه لم يترك عقارات، لكن لائحة اتهام مكافي بتهمة التهرب الضريبي تزعم أن لديه تاريخاً في شراء أصول بأسماء أشخاص آخرين. قالت جانيس إن وضعها المالي مريح، فيما أكد سنان: "كنا دائماً نتقاضى رواتبنا لدى استحقاقها".

أما جين مكافي فقالت إنها غير مهتمة بإجراء مزيد من التحقيقات حول وفاة والدها أو أصوله. لكنها تريد أن يُوارى جثمانه الثرى بسلام. تلقت جين سيلاً من روايات بأن مكافي شوهد في تكساس. لكنها تعرفه أكثر من أي شخص آخر، وكانت شاهدة على تدميره لذاته في السر والعلن.

تقول محامية جين مكافي، جوي أثاناسيو: "دارت بينهما محادثات في بعض الأوقات خلال السنوات القليلة الماضية، وكان واضحاً أنه لم يكن صاحياً، وبالطبع قد يكون عديم الاكتراث. للأسف، هذا أحد نتائج الإفراط بمعاقرة الكحول المخدرات".

المملكة المتحدة تصعد خططها لإطلاق الجنيه الإسترليني الرقمي

كبرياء قاتل

عمد مكافي لتحدي المثال الذي كان عليه أبوه. لكن يبدو أن عوامل مثل إفراط مكافي بمعاقرة الكحول والمخدرات ومزاجه المتقلب وعلاقته المتوترة مع ابنته، تؤدي جميعها إلى نفس النتيجة.

كما يبدو منطقياً أيضاً أن الرجل الذي اعتقد أنه لا يمكن إجباره على فعل أي شيء لا يريد القيام به، سقط نتيجة خرق بسيط للقانون مثل التهرب الضريبي، فربما رفض كبرياؤه إهانة أن يُجبر على سداد ديونه وقضاء سنواته الأخيرة في السجن.

كان هناك شبه إجماع بين من أدلوا بوجهة نظرهم في هذا التقرير بأنهم شعروا بأن مكافي استغلهم وخدعهم وخانهم في وقت من الأوقات. لقد كان مروجاً مثالياً يمكنه بيع أي شيء لأي شخص.

لولا مكافي، لتحتم على شركات البرمجيات أن تجعل منتجاتها أكثر أماناً وأفضل استعداداً لأسوأ تهديدات فيروسات عصر الدوت كوم. غير أن رائد البرمجيات لم ينجح في فراغ، فقد حظي مكافي، مثل عديد من المؤسسين الذين أصبحوا أثرياء جداً ومشهورين بسرعة كبيرة، بعديد من عوامل التمكين التي ساعدت في تعزيز إيمانه بقدراته الدعائية وحياته خارج إطار القانون.

تضافرت كل تلك العوامل لتطمس الخط الفاصل بين الواقع والخيال، فقد كان مكافي حاكماً بأمره. استهدفت خدعة مكافي الأخيرة أتباعه المؤمنين بنظرية المؤامرة. كان التقني المثير للجدل قد وعدهم بأن سيلاً من المعلومات المحرجة والخطيرة سينشر عند وفاته عبر ما يُعرف بمفتاح الرجل الميت.

لكن لم يظهر قط مثل هذا الكم من البيانات المزعومة. مع ذلك، فقد نجحت الشائعات في إبقاء أساطيره حية لفترة أطول قليلاً وعالقة في الأذهان، شأنها شأن ذلك الدرع الصغير الذي كان قابعاً في زاويةٍ بأسفل شاشات الحواسيب.

تصنيفات

قصص قد تهمك