بلومبرغ
لعلك سمعت بمصطلح الهبوط الحاد، الذي يشير إلى دخول الاقتصاد في ركود تام يسلب سوق العمل ملايين الوظائف، وربما مر عليك نقيضه أيضاً وهو الهبوط السلس، الذي يعني تباطؤ الاقتصاد بوتيرة تدريجية ثابتة دون الفتك بالوظائف فيما يتراجع التضخم.
اليوم هناك مصطلح جديد يُحكى عنه وهو الركود المتداول، وهو إلى حد ما هجين من نمطي الركود سالفي الذكر. تشير كلمة متداول هنا إلى تعرض القطاعات للانكماش واحداً تلو الآخر دون انهيار الاقتصاد برمته وتبقى سوق العمل صامدة إلى حد كبير.
وضّح سونغ وون سون، أستاذ الاقتصاد بجامعة لويولا ماريماونت، ما يعنيه الركود المتداول: "تتناوب الصناعات والقطاعات الهبوط، بدلاً من التراجع أكثر أو أقل دفعة واحدة".
رغم أن هذا الإطار لا يفسر كل ما يشهده اقتصاد ما بعد الوباء من تغيرات محيرة، إلا أنه أجاد توصيف كل ما مرت به الولايات المتحدة منذ بدأ الاحتياطي الفيدرالي في مارس برفع أسعار الفائدة التي كانت أقرب للصفر. ينطوي هذا الركود الهجين على احتمال صمود الاقتصاد في وجه أسوأ نوبة تضخم منذ السبعينيات دون بلوغ الانكماش.
تناوب الهبوط
لم يكن تلقي قطاع الإسكان لأولى ضربات التضخم مفاجئاً، لأنه الأكثر عرضة للتأثر بزيادات أسعار الفائدة المتلاحقة التي أقرها الاحتياطي الفيدرالي. كان الإسكان عرضة للتأثر على نحو استثنائي لأن الارتفاع الحاد في أسعار العقارات أثناء الوباء جعل شراء المنازل بعيد المنال بين كثير من الأميركيين.
لقد تراجع عدد الوحدات السكنية الجديدة، وهي مؤشر رئيسي لقياس نشاط البناء، للشهر الرابع على التوالي في ديسمبر، كما انخفض عدد الوحدات ذاتها على مدى العام الماضي بأكمله، فيما يُعد أول انخفاض سنوي منذ 2009.
ثم انتقل الركود إلى قطاع التصنيع، فتجلى بانخفاض مؤشر إنتاج المصانع الذي يحظى بمتابعة واسعة النطاق لخمسة أشهر متتالية حتى يناير. أدت عدة عوامل لتراجع المؤشر مثل ضعف الطلب على الصادرات الأميركية وتحول إنفاق المستهلكين، الذين لم يعودوا معزولين في المنازل، من السلع مثل دراجات "بيلوتون" الثابتة وأجهزة الكمبيوتر الشخصية إلى الخدمات مثل وجبات المطاعم والإجازات.
قالت مجموعة "ثري إم"، التي تصنع منتجات واسعة التنوع بدءاً من ورق الملاحظات اللاصق "بوست-إت" إلى الشاشات التي تعمل باللمس، الشهر الماضي أنها تخطط للاستغناء عن 2500 وظيفة تقريباً في قطاع التصنيع.
كما عمدت شركات التقنية، التي ازدهرت خلال الوباء، إلى تقليل أعداد موظفيها استجابةً لضعف المبيعات وتراجع عائدات الإعلانات عبر الإنترنت.
كانت مجموعة من شركات القطاع قد أعلنت خفض وظائفها بأكثر من 97 ألف وظيفة في العام الماضي، وهي أرقام مرشحة للارتفاع خلال 2023 مع إلغاء 67 ألف وظيفة منذ بداية يناير، وفقاً لإحصاء من بلومبرغ.
دعم من المستهلكين
تكشف تلك المؤشرات مجتمعةً عن تباطؤ النشاط الاقتصادي وبلوغ التضخم سقفه بعد ارتفاع مطرد، وهذا تطور مبشر، لكن ليس هناك انكماش واسع النطاق.
لم تسأ الأمور بفضل المستهلكين الذين شكلوا حائط صد رئيسي عن الاقتصاد. تعرض المستهلكون لضغوط اقتصادية خلال العام الماضي إثر ارتفاع أسعار البنزين والبيض وكل شيء آخر، إلا أن ذلك لم يثنهم عن الإنفاق بسبب تراكم المدخرات خلال الوباء وزيادة الدخول من سوق العمل النشيطة.
قال مايكل ميباخ، الرئيس التنفيذي لشركة "ماستركارد"، في بيان أرباح 26 يناير: "لقد كان الإنفاق الاستهلاكي قوياً على نحو لافت، رغم استمرار عدم اليقين بشأن الاقتصاد الكلي والجيوسياسي".
لم تكن هذه المرة الأولى التي تعاني فيها الولايات المتحدة من ركود متداول. يتذكر إد يارديني، محلل الأسواق المالية المخضرم، استخدام هذا المصطلح في منتصف الثمانينيات حين عصف انهيار أسعار الطاقة بجزء كبير من الوظائف في قطاع النفط، وتسبب إلغاء امتيازات ضريبية معدة لتشجيع الاستثمار بعرقلة نمو قطاع الاستثمار العقاري. تباطأ الاقتصاد آنذاك، لكنه لم ينهر تماماً.
شهدت الوايات المتحدة ركوداً طفيفاً آخر في 2016 إثر تضرر المصدرين الأميركيين من ارتفاع الدولار وتسبب انخفاض أسعار السلع الأساسية في كبح عائدات المزارعين وشركات النفط. لم يحدث ركود في هذه المرة أيضاً، رغم أن بعض المحللين قالوا إن التباطؤ في عمق الاقتصاد الأميركي ساعد دونالد ترمب على الفوز بالرئاسة ذاك العام.
إذاً ما الذي يخبئه القدر هذه المرة؟ ستكون النتيجة المثالية من وجهة نظر الاحتياطي الفيدرالي والمستثمرين هي استمرار الركود المتداول، حسبما تقول ليز آن سوندرز وكيفن غوردون المحللان لدى شركة "تشارلز شواب" للخدمات المصرفية.
مؤشرات مختلطة
إن حدث ذلك، سيمتد ضعف الاقتصاد إلى قطاع الخدمات وستخبو جذوة سوق العمل، حتى فيما يبدأ قطاعا الإسكان والتصنيع بالاستقرار ثم الازدهار. سيسمح هذا السيناريو باستمرار تمدد الاقتصاد الأميركي فيما يُمهَّد الطريق لخفض التضخم أكثر.
تبدو مؤشرات حدوث هذا السيناريو مختلطة. فقد أثار ارتفاع معدلات التوظيف بشكل كبير في يناير دهشة خبراء الاقتصاد، حيث خفّض البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ 1969.
ساعد ذلك على ظهور نظرية أخرى في "وول ستريت" تتعلق بسيناريو عدم الانزلاق إلى ركود تقليدي بغض النظر عن حدته. تقول تلك النظرية بارتفاع معدل النمو فيما يظل التضخم مرتفعاً، ما سيجبر الاحتياطي الفيدرالي على التوقف عن رفع أسعار الفائدة، ومن ثم دفع الولايات المتحدة صوب الركود.
لكن هذه النظرة التشاؤمية لا تروق للجميع. على سبيل المثال، خفض جان هاتزيوس كبير الاقتصاديين لدى بنك "غولدمان ساكس" احتمالات الركود خلال العام المقبل إلى 25% نزولاً من من 35% في السادس من فبراير، بعد أيام من الإعلان عن معدلات التوظيف شديدة الارتفاع.
أشار هاتزيوس في مذكرة للعملاء إلى تباطؤ نمو الأجور والانخفاض السريع في معدلات التضخم من بين أمور أخرى، وكلاهما بشرى للاحتياطي الفيدرالي.
قال غوردون من "شواب" إن الأمر يدور بالأساس حول توقعات لا يمكن الجزم بحتمية حدوثها بشأن ما إذا كان الركود المتداول الذي تعانيه الولايات المتحدة سيتحول إلى شيء أسوأ: "لا أحد لديه ما يستند إليه بعد".