بلومبرغ
كان العمل في "وول ستريت" سلساً للغاية لجيل درو بيتيت لدرجة جعلت المحلل الاستراتيجي لدى بنك "سيتي غروب" يقرر دراسة المصاعب المالية. بدأ بيتيت، 33 عاماً، بقراءة "مجموعة الكتب الأشد بؤساً وتشاؤماً التي أمكنه الحصول عليها".
استفاد المحلل الاستراتيجي وزملاؤه، الذين بدأت حياتهم المهنية بعد الأزمة المالية لعام 2008، من فترة كان فيها اقتراض المال "رخيصاً وسهلاً وسريعاً" حسبما يصفه بيتيت. حتى عندما قلقل الوباء الأسواق قبل ثلاث سنوات، انتعشت "وول ستريت" سريعاً بعد تلقيها دعماًَ حكومياً. قال بيتيت إنه وزملاءه الأصغر سناً "ليس لديهم فكرة عما تبدو عليه بيئة الأعمال المتردية".
لكنهم يوشكون على معرفة ذلك. يتأهب المصرفيون الشبان لأول معاناة ممتدة في حياتهم المهنية، مع توقع المحللين الاستراتيجيين إقبالنا على فترة ركود، إن لم تكن أسوأ سنوات الاقتصاد العالمي في أربعة عقود.
لقد ولى عصر التيسير النقدي، فقد ارتفعت أسعار الفائدة إلى 5% وأكثر بسبب حملة بنك الاحتياطي الفيدرالي العنيدة ضد التضخم. بعدما حققت البنوك الكبرى أرباحاً متوالية تقدر بتريليونات الدولارات على مدى العقد الماضي، يمكن أن تنشأ الظروف الجديدة كنتاج لاضطرابات مثل تسريح الموظفين بأعداد لا تحصى، وتعثر الصفقات، وتقلب الأسواق وسط توقعات متشائمة.
قال جيف بيوركمان، نائب رئيس قطاع أسواق رأس المال لدى شركة "لازار" للاستشارات المالية وإدارة الأصول، الذي بدأ لدى الشركة في 2016: "إنها المرة الأولى التي يشهد فيها كثير منا بيئة هابطة كهذه". بالنظر إلى معاناته هو وجيله من التقلبات السوقية المتعلقة بالوباء مطلع 2020 فإن: "هذا التحول يبدو أكثر ديمومة، وقد يمتد لفترة طويلة".
مخاوف مبررة
حتى أن اثنين من الرؤساء التنفيذيين المتخوفين أثاروا الموضوع مع مايكل سو، الذي يعد أحد كبار المنظمين المصرفيين في الولايات المتحدة، بصفته قائماً بأعمال المراقب المالي للعملة. يعطي سو مثالاً على ذلك بقوله: "المصرفيون أنفسهم يقولون: مرحباً، لدي مجموعة من الشباب الذين لم تمر عليهم مطلقاً هذه المشكلة أو تلك، ونحن بحاجة لأن نعلمهم. لم يخضع البعض للتدريب على بعض الأمور منذ فترة". استطرد سو قائلاً إنه سمع بقيام رؤساء البنوك بحملات داخلية "فقط للتجول والتحدث إلى الموظفين قائلين: مرحباً يا رفاق، أتعرفون شيئاً عن هذا الأمر؟"
عندما ينظر بلير إيفرون، المؤسس المشارك في بنك "سنترفيو بارتنرز" الاستثماري بولاية نيويورك، إلى زملائه المبتدئين يدرك أنهم "لم يمروا بكثير من فترات الركود". يرغب إيفرون بأن يتمتعوا بالمهارات اللازمة لفهم الميزانيات العمومية وهياكل رأس المال في ظل الظروف المعقدة: "ماذا يعني أن تكون بحاجة إلى أدوات مالية مختلفة لإنجاز صفقة ما، كون المرء لا يستطيع الذهاب إلى البنك والاقتراض ست مرات؟"
أشارت أليسون هاردينغ- جونز، وهي واحدة من كبار مصرفيي فرع "سيتي غروب" في لندن، إلى أن الدروس المقبلة قد تكون قاسية على زملائها الذين بدؤوا حياتهم المهنية في تخوم 2010، وهم في طريقهم الآن ليصبحوا مدراء عامين.
قالت في مؤتمر أواخر العام الماضي: "لم يشهدوا مطلقاً بيئة لم تكن فيها فوائد القروض صفرية أو رخيصة للغاية. لقد رأينا هذا الوباء الذي أدى لتضخم تلك الفقاعة، التي تسببت بدورها في هذا القدر الهائل من النشاط، ربما قالوا لأنفسهم: حسناً، إنه أمر طبيعي".
فيما يعتقد ألبرت رابيل، الرئيس التنفيذي لشركة "كاين أندرسون كابيتال أدفايزرز" المتخصصة بالاستثمار في الملكية الخاصة، أن عقداً من الأموال السهلة جعل المخاطرة منتشرة بحيث سيستغرق التخلص من دروس هذه الحقبة وقتاً طويلاً.
بيَّن رابيل أن سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي قبل وبعد الوباء تمثلت بتطبيق سياسة التيسير النقدي: "لكن لسوء الحظ، هذه السياسة تعزز السلوك المتهور".
الأوقات العصيبة في "وول ستريت" ربما تعلمنا دروساً قاسية |
• كل ما ارتفع قد ينخفض بسرعة ارتفاعه. |
• ارتفاع أسعار الفائدة والضوائق الاقتصادية يعرقلان إبرام الصفقات. |
• معاناة المستهلك قد تزداد سوءاً دائماً. |
• الانصياع لضغوط العملاء قد يؤثر عليك في المستقبل. |
• الاكتتابات العامة تتناقص مع ارتفاع التضخم وعزوف المستثمرين وانخفاض قيم الأسهم. |
• حينما تنخفض إيرادات البنوك تلجأ لخفض الوظائف والرواتب وتجميد التوظيف. |
تباين التوقعات
تتوقع قلة من المصرفيين وقوع كارثة. فقد أمضت المصارف عقداً تعزز قدراتها، وذلك بفضل قواعد ما بعد الأزمة المالية المصممة لتجنب حدوث إفلاسات أخرى من جهة، وإخضاع البنوك لسلسلة من اختبارات الإجهاد لضمان قدرتها على تحمل الصدمات من جهةٍ أخرى.
بالطبع، يعصف مزيج التضخم وارتفاع أسعار الفائدة بالقطاع المالي بطرق شتى. على سبيل المثال، ينذر هذا المزيج بمعاناة الرهون العقارية وقطاع الإسكان في "وول ستريت" من اضطرابات، إذ بدأت بعض البنوك بالفعل في إلغاء الوظائف والحد من الإقراض.
يمكن للاقتصاد المتعثر أن يبطئ عمليات الاندماج والاستحواذ، ما يعرقل أحد المحركات الرئيسية للأرباح. كما يتسبب خطر حدوث ركود بتقليص العوائد عبر إجبار البنوك على تخصيص مليارات الدولارات من الاحتياطيات لتغطية القروض المتعثرة.
مع ذلك، تساعد أسعار الفائدة المرتفعة أيضاً بتوسيع الفجوة بين ما تكسبه البنوك من القروض وما تدفعه للمودعين، أو ما تسميه "وول ستريت" بصافي هامش الفائدة. غير أن التقلبات التي عادة ما تصاحب حالة عدم اليقين الاقتصادي قد تكون بمثابة هبة لأسواق المال.
في حين لم يختبر من هم دون سن 35 من المصرفيين فترات ركود طويلة، إلا أنهم عانوا أزمات مهنية أخرى. فقد أدت الطفرة التي شهدتها الأسواق خلال الوباء إلى الإنهاك، ليتبع ذلك توقعات جديدة بتحقيق توازن أفضل بين الحياة العملية والاجتماعية، لكنها سرعان ما تحولت إلى قلق بشأن العواقب السلبية لأخذ عطلات.
لقد استُبدل هذا الآن بمخاوف التسريح. أعلنت بنوك "غولدمان ساكس" و"مورغان ستانلي" و"كريدي سويس" و"باركليز" عن نيتها إقالة موظفين، أو أنها قد أقالتهم بالفعل. عندما يحذر ديفيد سولومون رئيس "غولدمان ساكس" من "أوقات عصيبة مقبلة"، قد يرعب ذلك موظفي القطاع بأسره ولا يقتصر ذلك على موظفيه.
مزج الخبرات
لا يعرف بعض المصرفيين الشبان يقيناً ما هو نوع الاضطرابات الذي سيواجهونه. قال متداول ديون مركبة لدى أحد عمالقة "وول ستريت" طلب عدم الكشف عن هويته ليتحدث بحرية، إنه كان قلقاً بشأن تغير البنية الاجتماعية والجيوسياسية للقطاع بطرق لم يشهدها من قبل، وهو ما شأنه إعادة صياغة عمله. وجد المتداول، الذي بلغ عمره 30 عاماً، أنه يفكر بهذا الأمر طوال اليوم.
لا يساور آني هاردي، النائبة الأولى لرئيس قطاع البنى الهيكلية وشؤون المالية العامة لدى "سيبيرت ويليامز شانك آند كو"، القلق بشأن الاضطرابات المتوقعة. تقول هاردي، 35 عاماً، وهي تساعد وكالات مثل إدارات النقل الحكومية على اقتراض الأموال: "عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة في الماضي وحظينا ببيئة الأعمال الرائعة تلك، كان كل شيء أسهل قليلاً. لكن عندما يكون الأمر أصعب قليلاً في بعض الأحيان، فإنه يبني شخصيتك ويقربك أكثر من عملائك".
قالت ماريا إمبيت، 31 عاماً، التي تعمل مديرة للمبيعات المؤسسية والتداول في "ستون إكس غروب"، وهي شركة خدمات مالية مقرها نيويورك، إن كبار المتداولين يخبرونها بأنها "لم تعمل تحت وطأة هذا النوع من التقلبات، ولم تشهد أسعار فائدة مرتفعة بهذا الشكل مطلقاً".
لكنها تقول إنها مرت بأزمات كافية من الجائحة والتضخم إلى الحرب في أوكرانيا، حتى أنها ستخبر الوافدين الجدد بذلك خلال عقد. قالت إمبيت: "الأسواق تتغير، هناك كثير من التقلب لكن الشمس ستشرق من جديد".
حتى بيتيت، شَعَرَ بقدرٍ من الهدوء بعد قراءة كتبه ثقيلة الوقع. قال: "لدينا أناس في الفريق شاهدوا كل شيء وعاصروا كل هذه الأسواق، كما لدينا أشخاص على الجانب الآخر نشؤوا في عالم البيانات الضخمة والأساليب الجديدة. يمكننا الجمع بين هذين العالمين".