بلومبرغ
بدأت جايا أيير تفكر جدياً بتغيير عملها حين حلّ الوباء. كانت حينها تحمل شهادتين في الهندسة الميكانيكية ولها ثماني سنوات من الخبرة العملية في مجال الفضاء.
تشاورت المهندسة الرائدة في تصميم هياكل المركبات الفضائية في شركة تتبع "بوينغ" مع شخص عمِلت معه في شركة إيلون ماسك للصواريخ "سبيس إكس" (Space Exploration Technologies). اقترح عليها التواصل مع زميلهم السابق بنسون تساي، الذي كان يسعى وراء بعض العقول اللامعة في شركتهم وشركات الطيران الأخرى في لوس أنجلوس لحلِّ تحدٍّ تقني جديد.
سباق "الأتمتة"..لماذا تخشى أمريكا التكنولوجيا؟
حين عملت آيير لدى "سبيس إكس"، كان تساي يطوّر تقنية بطاريات للأقمار الصناعية والمركبات الفضائية للشركة، لكنه الآن يصنع البيتزا. وافقت آيير، التي أربكها ذلك، وأثار فضولها بعض الشئ، على أن تلتقي به. قالت: "بدا الأمر غير مألوفٍ لدرجة أنني رغبت بمعرفة المزيد بشأنه".
أمتعها تساي بتصوره لرجلٍ آلي قائمٍ على عجلات ويصنع البيتزا من الصفر، ثم يقود سائقٌ الشاحنة إلى تجمع مكاتب أو مركز للتسوق أو منطقة سكنية، ويطلب الزبائن البيتزا عبر تطبيق ثم يتكفل الروبوت بالبقية.
معضلة الفطر
لقد أقنع تساي أصحاب رؤوس أموال لاستثمار ملايين الدولارات، وهم مجموعة ستضم قريباً شركة يديرها مغني الراب جاي زي. كما حشد فريقاً من نحو 40 عالم صواريخ وتقني لتقديم ما يسميه "حلّ البيتزا".
كان عليهم بداية إيجاد حلّ للفطر. حين زارت آيير المقر الرئيسي لشركة "ستلر بيتزا" (Stellar Pizza) في هوثورن بكاليفورنيا لأول مرة في 2020، كان الفريق قد اكتشف كيفية العجن وإكساء العجينة بصلصة البندورة، ثم نثر الفلفل الأخضر فوقها.
لكن ثبت أن الفطر سيتطلب جهداً كبيراً إذ يتطلب تصميم الماكينة إدخال المكونات مقطعة ومكدسة في مجرى، إلا أن الفطر أعرض من مكعبات الموزاريلا أو من شرائح الببروني كما يحتوي سوائل أكثر، لذا تتكتل شرائحه بعد التقطيع والتعبئة في مجرى الآلة وتلتصق بجدرانها الداخلية. تساي يشبهها بمناديل ورقية مبللة تلتصق بجدار.
خط إنتاج في شاحنة
بغض النظر عن الفطر، تأثرت آيير بتطوير "ستلر" لروبوتها الخاص، فهي كادت تمضي مجمل حياتها المهنية في صناعة المركبات الفضائية، إلا أن هذ الاحتمال الغريب أغراها للعمل على شيء مختلف. قالت: "بدا فعلاً مكاناً رائعاً يمكنني فيه العمل على أشياء جديدة من وجهة نظر هندسية، وأستطيع أيضاً الحصول على البيتزا". انضمت آيير إلى الفريق كمهندسة ميكانيك تشرف على ما يمكن تشكيله من مكونات جديدة تضاف إلى البيتزا غير الصلصة أو الجبن.
بثروة 38 مليار دولار.. صاحب شركة لـ"أتمتة" المصانع يصبح أغنى شخص في اليابان
هذه الآلة المسماة روبوت وهي لا تشبه الروبوت في أعين من ليست لهم خبرة في ذلك، فهي أشبه بشاحنة طعام فيها خط تجميع مصغر في داخلها. إن فكرة بناء روبوت لجذب المواهب والمستثمرين والزبائن، تبدو أكثر إثارة من مجرد تكرار فلسفة هنري فورد مع فارق أن هدفها إعداد بيتزا.
يشير تساي إلى أن تعقيدات الآلة، والفوضى التي يُحتمل حدوثها بسبب خطأ ما، تشبه تقريباً محاولة دخول مدار لأجرام كونية. قال: "إذا نظرنا إلى الأمر بتمعن كافٍ، فنحن أمام مهمة لا تقل صعوبة عن إطلاق صاروخ".
دعك من المريخ
كانت الغاية النهائية في "سبيس إكس" هي استيطان المريخ. أما طموح تساي في "ستلر" فهو أكثر محليةً على حد وصفه: "منافستنا الحقيقية هي (دومينوز)".
لا تنتج آلة "ستيلر" وفقاً لتصميمها أفضل بيتزا في العالم مذاقاً. قال تساي فيما تناول قضمة من بيتزا النقانق وأخرى من كرات خبز بالجبن من صنع روبوته: "لا ندعي إنتاج بيتزا إيطالية خارجة لتوها من فرن على طريقة نابولي".
تبلغ عائدات "دومينوز" أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً، ويؤكد تساي أن "ستلر" سيمكنها التفوق على "دومينوز" عبر استبدال تكاليف العقارات بالشاحنات المتنقلة وتوظيف عدد أقل من البشر.
يعمل معظم هؤلاء الناس حالياً في مختبر. أمضت آيير عامها الأول تبني نماذج لمجرى انزلاق المكونات واختبار مراوح وشفرات، فيما تجرب أساليب مختلفة لتقطيع الخضار.
بقيت مشكلة الفطر ملحة طيلة ذاك الوقت، فهو لا يشكل معضلة في مصانع البيتزا المجمدة، لأن شرائحه لا تلتصق ببعضها كشرائح الفطر الطازج.
لكن "ستلر" عازمة على استخدام مكونات طازجة، وأُخبرت آيير أنه لا بد من الفطر، فهو وفقاً لشركة الأبحاث "إن بي دي غروب" (NPD Group)، يتقدم على البصل والفلفل الأخضر والزيتون الأسود كأكثر المكونات النباتية طلباً. علِّقت آيير في لحظة إحباط شديد: "من المؤسف أن يكون الفطر هو الأروج".
مشكلة الفطر مجدداً
تشاورت آيير في عدة مناسبات مع زميل استطاع التغلب على مشاكل مشابهة، حين تسبب تسخين الجبن بقذف قطرات منه عالياً نحو أجزاء من الآلة. لكن حلول الأجبان لم تنسحب على الفطر، ولم يؤدّ عكس اتجاه الذراع داخل مجرى الآلة لنتيجة تذكر.
فكرا ذات مرة بإضافة دهون خفيفة إلى جدران المجرى، لكنها تخلت عن الفكرة بعد تجربة منتجات مثل زيوت الكانولا والزيتون لأنها خلّفت بقايا غير مرغوبة على الفطر.
بعد ارتفاع الأجور.. هل تكون الأتمتة والذكاء الاصطناعي بديلاً للعمال؟
كانت هذه المشكلة تزعجها حين زار صحفي المختبر في يناير وكذلك حين زاره مرة أخرى في مارس. تحوَّل البحث إلى تحدٍّ ملح عندما سألها الأصدقاء عن وظيفتها. تتذكر إجابتها: "أقضي صباحي في تقيطع الفطر... إنني أستثمر تلك الشهادة الجامعية جيداً".
أتى الحل أخيراً في مايو، إذ صممت آيير جهاز تحريك، يقول تساي إن تفاصيل عمله تعود ملكيتها للشركة. لكن الأهم كان استبدال تقطيع الفطر طازجاً بتخزينه بعد تقطيعه إلى شرائح في ثلاجة لبضعة أيام. أنتجت تلك العملية مكوناً أكثر جفافاً وأسهل استخداماً. لم يستطع الموظفون تمييز فارق في الطعم لدى تجريب عينات من المنتَج النهائي.
سباق روبوت البيتزا
كتب كثيرون عن سباق الفضاء بين "سبيس إكس" تابعة إيلون ماسك و"بلو أوريجن" (Blue Origin) لمالكها جيف بيزوس، لكنهن لم يتطرقوا إلى الاختراقات المثيرة التي حققتها صناعة روبوتات البيتزا الناشئة. السبب جليّ وهو أن البيتزا لا تتصدر قائمة القضايا المُلحة، لكن المهندسين يحبونها ويفضلون حلّ المشاكل بأنفسهم.
من يدري، ربما أتاهم الإلهام من رواية الخيال العلمي "سنو كراش" التي كتبها نيل ستيفنسن، واستهلها بمشهد يصور خدمة توصيل بيتزا سريعة بعدما حل الخراب والبؤس بلوس أنجلوس. مهما كان السبب، فإن فكرة روبوت البيتزا هيمنت كأسطورة لسنوات على أذهان فئة من عشاق التقنية.
أكثر الجهود الطموحة في العقد الماضي تمثلت في شركة "زوم بيتزا" (Zume Pizza) الناشئة، حيث أسسها في 2015 أليكس غاردن، الرئيس السابق لشركة ألعاب الفيديو التي أصدرت "فارم فيل" (FarmVille)، بهدف بناء روبوت على عجلات يصنع البيتزا. كان ماسايوشي سون، مؤسس تجمع التقنية الياباني "سوفت بنك" أحد داعمي "زوم بيتزا"، وهو من المؤمنين بإمكانيات الروبوتات، إذ قال إن معدل ذكائها سيصل في غضون 25 سنة إلى 10000، وإنها في وقت ما ستحل مكان "القوى العاملة برمتها". خصصت "سوفت بنك" في 2018 مبلغ 375 مليون دولار لدعم "زوم".
البيتزا هي الحل
حصلت "زوم" على أذرع رجل آلي وبرمجتها لتجميع البيتزا داخل مطبخها في "وادي السيليكون"، لكن عيباً حاسماً في التصميم طرأ بسبب ضرورة خبز البيتزا خلال سير الشاحنة للاستفادة من الوقت. كانت النتيجة فوضوية بسبب تطاير الجبن هنا وهناك. لجأت "زوم" بعدئذ للطهي في ثبات، واستخدمت سيارات ودراجات لتوصيل الطلبيات إلى الزبائن من أقرب نقطة بيع حولهم.
إلا أن حلم صناعة البيتزا عبر الروبوتات كان سابقاً لعصره، إذ تحولت "زوم" في 2020 لتصميم عبوات أغذية مستدامة وطردت أكثر من نصف موظفيها، حتى الروبوتات فقدت وظائفها هي الأخرى، لتتوقف الشركة عن صنع البيتزا وأزالتها من اسمها.
اختار تساي ذات الطريق الوعر، فبعد خمس سنوات من تصميم بطاريات "سبيس إكس"، أصبح في 2019 جاهزاً لخوض مغامرته في الروبوتات وصناعة المأكولات.
فكر بداية بشاي الفقاعات، أو "بوبا" (boba)، وهو اختراع تايواني منتشر يحتوي على كرات نبات التابيوكا. لكن المشروب كان بالكاد معروفاً ولم يُقبل عليه الأميركيون لدرجة تضمن ربحيته.
كما خطر البرغر بباله، إلا أن المنافسة صعبة بعد الانطلاقات الضخمة لشركات مثل "كرييتر" (Creator) و"ميسو روبوتيكس" (Miso Robotics) التي تصنع روبوت البرغر "فلبيي" (Flippy)، ما جعل البيتزا مرشّحته الأبرز.
وفقاً لبيانات يصعب تصديقها من وزارة الزراعة الأميركية، فإن 13% من الأميركيين يتناولون البيتزا في كل يوم عادي. كما أن جزءاً كبيراً منهم غير راضٍ تماماً عن الأربعة الكبار، فقد خسرت كل من "دومينوز" و"بيتزا هت" و"بابا جونز (Papa Johns)، و"ليتل سيزرز" (Little Caesars) نقاطاً في المؤشر الأميركي لرضا الزبائن في 2022 بالمقارنة مع استطلاع العام الذي سبقه.
روبوت يتعلم من أخطائه
اعتمد تساي، 38 عاماً، بشدة على شبكة علاقاته في "سبيس إكس" لبدء مشروعه. كما استوحى من نموذج عمل إيلون ماسك الشاقولي لتطوير المنتجات: يقول إن موظفي "ستلر" صمموا وجمّعوا معظم أجزاء نماذجهم بأنفسهم، تماماً كما صممت "تسلا" سياراتها و"سبيس إكس" صواريخها.
كثيراً ما ارتاد تساي وموظفوه محلات "هوم ديبو" (Home Depot) و"لوز هوم إمبروفمنت" (Lowe’s Home Improvement) في مراحل إصدارهم لأول روبوت للبيتزا المسمى "جينريشن زيرو" (Generation Zero).
أظهر "جينريشن زيرو" مشكلة في مرحلة مبكرة، وهي خلل في ذراع آلية تحمل صفيحة معدنية لإدخال البيتزا وإخراجها من الفرن. كانت الذراع تنزلق داخل الفرن مرتفعة بضعة سنتمترات عمّا يجب بحيث تقشر الطبقة العلوية من البيتزا فيتبعثر الجبن في كل مكان ويتكدس العجين على الحزام الناقل لدى إدخاله الفرن.
استدعى الفريق حينها مسؤول البرنامج التشغيلي، جوش فيلبرانت، الذي أعاد برمجة الذراع لتدخل منخفضة قليلاً، بينما راح الموظفون يتخلصون من البيتزا المشوهة ويكشطون بقاياها من الفرن ويمسحونه بالفوط.
قال مستذكراً الأمر بشيء من الألم: "اضطررنا لإخراج كل البيتزا وتوقيف الآلة، ثم إعادة تشغيلها بالكامل... كان هذا تردٍّ كبير في الكفاءة".
لا يهابون التحدي
كان أفيدان روس من أوائل المستثمرين في الشركة التي عرفت في بداياتها باسم "سيرف أوتوميشن" (Serve Automation)، وهو شريك مؤسس في شركة رأس المال الاستثماري "روت فنتشرز" (Root Ventures).
قال واصفاً إعجابه بطموح "ستلر" الكبير: "إنها مجموعة مهندسين لا يهابون التحدي، بل أنهم يحبون الجنون أيضاً". يرى الناس في بناء روبوت يصنع البيتزا جنوناً حقيقياً. كي يشرح روس عقلانياً استثماره 6 ملايين دولار في "ستلر" من زاوية اقتصادية، يقول إن الروبوتات يمكنها حل الأثر المزدوج لمشكلة الصناعة الغذائية، وهو نقص العمالة وارتفاع الأسعار: "يلجأ أعظم المهندسين لأتمتة الأغذية بسبب تأثيرها العالمي".
يصنع عديد من الشركات الأخرى روبوتات بيتزا. تبيع "بيكنيك وركس" (Picnic Works)، ومقرها سياتل، خط تجميع آلي يمكنه حسب وصفها تحضير 100 قرص بيتزا في ساعة واحدة.
تصنع "ميدلبي" (Middleby) روبوتها "بيتزابوت" في فيرمونت بكاليفورنيا، موطن "تسلا" سابقاً، وهو مصمم لإعداد بيتزا في أقل من دقيقة. ثالثتهما هي شركة "باتزي روبوتيكس" (Pazzi Robotics)، التي سعت لإنشاء مطاعم بيتزا مستقلة في باريس، قبل أن تُجبر على تصفية أعمالها في أكتوبر. يعزو رئيسها التنفيذي فيليب غولدمان فشلها لعدم قدرة رأس المال الاستثماري مواكبة الاستثمار في صناعة الأجزاء المادية، ولانعدام ثقة الناس بالروبوتات.
إثبات الجدارة
يعتقد روس أن هذه الشركات المنافسة داخلية، ويصفها بأنها فقاعة من "عروض البيتزا". أما موظفو "ستلر" فلديهم مقياس ساخر للبيتزا "القابلة للحياة بالحد الأدنى" وهو أن تكون على درجة مذاق مقبولة بما يكفي. هم يقيّمون النجاح جزئياً من خلال عدد أقراص البيتزا التي "أطلقت" بنجاح داخل الفرن.
أما إمتاع الزبائن بعروض الروبوتات، فهو ليس من مهام الشركة. يعلّق فيلبرانت: "أنت حرفياً تطلب البيتزا فتخرج من الجانب الآخر، دون أن ترى الماكينات الداخلية... إثبات مفهوم عمل المطبخ هو ألا تراه".
يرى قطاع المأكولات وصناعة الأطعمة فرصة في التحول الآلي، لكن تساي ما يزال دخلياً عليه. قال بريتن لاد، مستشار التجزئة والاستراتيجيات الذي عمل مع "مونتشو" (Muncho) في فيلادلفيا وهي تستخدم آلة "بيكنيك": "حصلت مبالغات في تقييم مؤسسي (ستلر بيتزا) لأنهم مهندسون سابقون في (سبيس إكس)... البيتزا ليست علم صواريخ." أضاف أن الروبوت ينجح حين يثابر على تقديم تجربة أفضل بثبات وبسعر يماثل البدائل التي يحضّرها الإنسان.
انتفاخ متفجر
كان الثبات من أكبر التحديات التي واجهت "ستلر". انضم مهندس الأتمتة السابق في "سبيس إكس" أريك جنكنز إلى الشركة في 2020، وسرعان ما اصطدم بأكبر مخاوف عمله السابق بشركة صناعة الصواريخ: الانفجارات التي لا تنقطع، إذ إن العجين ينتفخ بشكل زائد تحت ضغط الطهي فينفجر داخل الفرن. كان ذلك يحدث تكراراً تاركاً أجزاءً من العجين تتصلب وتتقلص ثم تتفحم تاركة لطخات على جدران وسقف الفرن الذي تصل حرارته إلى 480 درجة مئوية.
نتجت الانفجارات من جيوب هوائية غير متوقعة تمددت بشدة داخل العجينة إلى حد أن الصلصة والجبن انزلقا عنها. كما لم تنجح البيتزا منتفخة الحواف التي يحبها البعض لدى "ستلر"، فقد بدت الأجزاء غير المكسوة قبيحة كما تكدست المكونات في وسط البيتزا.
وقف المهندسون ينظرون عبر نوافذ الفرن متسلحين بسكاكين مائدة مربوطة إلى عصيّ استعداداً لأن يفتحوا باب الفرن ويثقبوا فقاعات العجين. كان الأسوأ أنهم لم يعرفوا أيها سينفجر وأيها سيخرج بشكل جيد.
تعامل المهندسون مع المشكلة مثلما واجهوا أي عقبة واجهتهم في "سبيس إكس". انطلقوا من فرضية أن طبقات العجين لم تكن تلتصق ببعضها جيداً بعد مدّها تحت الضغط، ثم اختبروا هذه الفرضية. أعادوا ضبط عملية ترقيق العجين التي أطلقوا عليها اسم الإرساء. حاولوا تغيير وضعية المد لتكون حركة الشوبك أقصر ثم أطول، جربوا جعلها أدق ثم أغلظ، لكن أي من هذه المحاولات لم تُفلح بإحداث فرق. كان ينقصهم مزيد من البيانات.
حل علمي
يرتاح عجين "ستلر" مدة يومين قبل دخول الفرن لتحسين الطعم والقوام وغالب تلك المدة داخل ثلاجة. يهيئ هذا بعض أنواع العجين لتكون أكثر عرضة للانفجار من غيرها. اشترى المهندسون مقياساً حرارياً مزدوج القطب لمعرفة درجة حرارة كل قطعة عجين تختمر. يصف جنكنز، مسؤول الاختبار والتكامل في "ستلر"، العملية قائلاً: "كنا نقيس الحرارة داخل كرة العجين في كل ثانية فيما تنتقل من حرارة الغرفة إلى أن تنخفض إلى درجة حرارة الثلاجة".
أظهرت الدراسة كمية الخميرة اللازمة بدقة، وسلسلة درجات الحرارة المطلوبة في مراحل اختمار العجين لكي تُخبز كل قطع البيتزا بنفس التسوية. ثم توصلوا أخيراً في بداية 2022 إلى عجين مخبوز خالٍ من الفقاعات على نحو مستمر. لم يصدق جنكنز ذلك في البداية. فقد اعتاد الفريق على التعامل مع مصيبة الفقاعات بين حين وآخر.
استقرار العملية
كان بإمكانهم بعد فترة نزع سلاح ميلشيا السكاكين التي دأبت على تسيير دورياتها الروتينية في الأفران. يعلق جنكنز: "استطعنا فعلاً القول إننا خبزنا 200 قطعة بيتزا دون لمس أي شيء... لقد كان ذلك مبعث راحة حقيقية".
الإصدار الحالي من روبوت البيتزا هو الجيل "A"، وهو الأول من نوعه القادر على تحضير الطعام بشكل مستقل وموثوق داخل شاحنة. يتألف من مجموعة أدوات متشابكة يسمح حجمها بإدخالها وإخراجها كقطعة واحدة من شاحنة ذات صندوق من طراز "إيسوزو إن أر أر" (Isuzu NRR) التي اختارتها "ستلر" لأن الفريق أحب شكلها.
داخل السيارة حجرة مبرّدة فيها أطباق للعجين وتبلغ سعة الثلاجة الدقيقة 420 قطعة عجين، رقمٌ كان ليجعل ماسك فخوراً، لكن تساي يصر أن الأمر محض صدفة. تنزلق الصواني إلى الأسفل، واحدةً تلو الأخرى تحت مخلب معدني يحمل ملصقاً للكائن الفضائي ذي العيون الثلاثة من فيلم "توي ستوري" (Toy Story). عندما يحين وقت الخبز، يلتقط المخلب كرة العجين ويحركها على طول خط التجميع. بعدها يضغط مكبسٌ العجين لتسطيحه، ويدفع الحزام الناقل الطبق الدائري نحو مقدمّة الشاحنة، حيث تراق الصلصة في غضون ثوانٍ على الجزء العلوي وتذوب بمجرد دخول الفرن تذوب لتتحول إلى طبقة متجانسة، ثم يتوقف الحزام الناقل تحت شلال من مكعبات جبن الموزاريلا.
بيتزا مسجلة
يمكن أن تحتوي المرحلة التالية، حسب رغبة الزبون، على شرائح الببروني، وهي ما يقوم بها منشار شريطي يقطع 19 قضيباً من لحم الببروني المقدد بحركة واحدة لتسقط فوق البيتزا بتباعد متسق. ثمة أيضاً مزالق أخرى تنثر الخضار أو النقانق، لتتحرك البيتزا أخيراً إلى الركن العامودي المخصص للخَبز في طرف الشاحنة، حيث يرفعها مصعد صغير إلى أحد الأفران الأربعة، ثم تحملها الذراع الآلية المزودة بصفيحة مصممة لتسمح بانزلاقها داخل الفرن.
تتحسّس المستشعرات على طول الطريق صحة استدارة المكونات وتموضعها، وإن استشعرت أي خلل تخرج البيتزا عن خطها إلى سلة مهملات. وهو ما يحدث أحياناً حين يجرب الفريق مكوناً جديداً أو تعديلاً ما. يؤكد تساي أن احتماليات الخطأ معدومة فعليّاً. العملية برمتها مسجلة بالفيديو، كما تعطى كل بيتزا رقماً تعريفياً ورمز استجابة سريعة (QR) لكي يستطيعوا التعرف عليها إذا اشتكى أحد الزبائن فيما بعد.
"ستلر" تنجح
أعجبت مراسل "بلومبرغ بزنس ويك" قطعة من بيتزا الخضار على نحو لم يتوقعه، فقد كانت طبقة العجين السفلية محمصة ولم تكن مقرمشة أو مطاطية، كما كان الجبن سائلاً بدرجة مناسبة ومتناسقة مع نكهة الزيتون الأسود. لم تكن بيتزا فاخرة، لكن مذاقها أفضل بكثير من بيتزا "دومينوز"، وهو جلّ ما سعى له تساي.
لضمان الجودة، دفعت "ستلر" نقوداً لتستشير نويل برونر، وهو طباخ شهير مهم ساعد أصحاب مطاعم ومشاهير "توم هانكس" لتحسين تحضير مطاعمهم للبيتزا.
بدأت "ستلر" بتجربة لقياس ضغط العمل في سبتمبر، فأرسلت شاحنتها إلى الأحياء المحيطة بجامعة جنوب كاليفورنيا، حيث لا يمانع الطلاب نهائياً تحميل تطبيقٍ على هواتفهم مقابل بيتزا مجانية.
وصل عدد الطلبات إلى 180 في خمس دقائق في إحدى الزيارات الأولى فاستغرق تحضير الطلبات ساعتين. ثم فرضت الشركة أواخر أكتوبر سعراً مبدئياً بلغ 8 دولارات لقاء بيتزا بقِطر 30 سنتيمتراً، وهو ما قلل فترات الانتظار.
أحد المكونات التي لا يمكنك طلبها من شاحنة "ستلر" في جامعة جنوب كاليفورنيا هو الفطر. لأن طلاب الجامعة عامةً لا يطلبونه، حسب تساي الذي يؤكد أن الفطر "معضلةٌ حُلت تقنياً".
فلسفة تساي
يجلس موظفان في كل شاحنة غالباً للإجابة على أسئلة الزبائن وتعبئة البيتزا الجاهزة في علب كرتونية. وكثيراً ما يكون معهم موظف ثالث هو تساي نفسه، فهو يحب مراقبة تفاعل الناس مع التطبيق ومع الموظفين.
يشير تساى إلى أن الجيل المقبل من الروبوتات، الذي يُتوقع إصداره في 2023، سيضع البيتزا في العلب بنفسه. رغم ذلك، يريد تساي أن يجلس موظفان في كل شاحنة. بهذه الصورة، يمكن للمرء أخذ استراحة دون أن يترك خط التجميع بلا رقابة، فالموظفون ليسوا طهاة محترفين. وفي حال تعطل أي من أجزائها، ليس أمامهم إلّا العودة بالشاحنة إلى المقر الأساسي، بغض النظر عن عدد قطع البيتزا التي لم يبيعوها. وهو ما لم يحصل حتى الآن، كما يقول تساي.
"أوبر" تطلق أسطول سيارات أجرة ذاتية القيادة
قال إنه لا يعير اهتماماً لجعل الشاحنة ذاتية القيادة، لكون ذلك يتطلب مجموعة مختلفة من الخبرات وسيضع شركته الناشئة في منافسة مباشرة مع "ألفابت" و"تسلا".
يؤكد أن "ستلر" تركز على الطهي الذاتي، وأن الفكرة هي إنتاج نظام معين يسهل تكراره ولا يكلف مالاً كثيراً، إذ تبلغ حالياً تكلفة شاحنة طعام عادية نحو 100 ألف دولار. يرفض تساي الإفصاح عن تكلفة بناء نموذج "ستلر".
قال شخص مطلع على النفقات، طلب عدم الكشف عن هويته كونه غير مصرح له بالبوح بالرقم، إنه باحتساب الرواتب والإيجارات واللوازم مع أكثر من عامين من العمل، فالمبلغ لا يقل عن ستة ملايين دولار.
نية للتوسع
استهلك فريق "ستلر" على مدى العامين الماضيين كمية هائلة من البيتزا. سألنا تساي، وهو ابن مهاجر تايواني، إذا كانت الكمية مبالغ فيها: "لا، إنه كسؤالي عمّا إذا كنت سأسأم من أكل الأرز".
بعد نحو ساعة، وأثناء المقابلة مع فيلبرانت، قاطعنا وصول طرد له من سلسلة السلطات "سويت غرين" (Sweetgreen). قال فيلبرانت، وبدا على وجهه شئ من الندم لعدم تناوله البيتزا: "لا يمكنك أكل البيتزا كل يوم".
قال تساي إنه سعيد بتجاوز التحديات الهندسية المرتبطة بتصغير المعدات، فقد فاز برضا الذوق العالي لهيئة طلاب جامعة جنوب كاليفورنيا، وضمن دعم جاي زي، الذي قادت شركته لرأس المال الاستثماري دعماً بقيمة 16.5 مليون دولار في أكتوبر.
لكن ما يزال أمام "ستلر" عديداً من التحديات المقبلة، فعليها إعادة إنتاج الروبوت على شاحنات عديدة، وإثبات الجدوى الاقتصادية للمشروع، ثم التوسع خارج لوس أنجلوس.
يؤكد تساي تصميم شركته الناشئة على النجاح من أجل البشرية: "حلّ المشكلات هنا على الأرض يهمني كثيراً".