بلومبرغ
يصعب قياس المشاعر الإنسانية، سواء كان ذلك حيال مشاعر فرد بعينه أو مجتمع بأسره. غير أن جهود أحد الاقتصاديين في الستينيات لربط بعض الأرقام بمفهوم البؤس القومي يتردد صداها صخباً على نحو استثنائي مع انتهاء عام بائس بحق لمعظم المستثمرين الأفراد.
كان آرثر أوكون، الذي ترأس مجلس المستشارين الاقتصاديين لبضع سنوات في عهد الرئيس ليندون جونسون، قد اشتهر بين الاقتصاديين بقانون "أوكون" الذي أوجد علاقة بين البطالة والناتج الاقتصادي، لكنه يشتهر أكثر بابتكار ما يسمى بمؤشر البؤس وفق عملية حسابية بسيطة للغاية. ما عليك سوى إضافة معدل التضخم إلى معدل البطالة، إذ يقيس كل منهما نوعاً مختلفاً من البؤس الاقتصادي. يفيد معدل البطالة بمعاناة السكان العاملين العاطلين عن العمل وأفراد الأسر الذين يعتمدون عليهم من بؤس شديد، فيما يمثل التضخم معاناة اقتصادية أقل حدة، لكنه يؤثر في شريحة سكانية أكثر بكثير، قوامها كل من يواجه هذا الشعور الخانق عندما ترتفع أسعار المستهلك على نحو أسرع من زيادة الرواتب.
بالتأكيد مؤشر "أوكون" ليش مثالياً، فهناك عديد من الأسباب الأخرى تسبب بؤساً قومياً طويل الأمد مثل أحداث 11 سبتمبر أو إزهاق "كوفيد-19" حياة 1.1 مليون إنسان. كما توجد أمثلة كثيرة على مزيد من أسباب الضيق العابر، كخسارة فريق كرة القدم الأميركي أمام هولندا في كأس العالم، أو وقف بث مسلسل "ساينفيلد". بالطبع تعتبر الخسائر ذات الرقمين في أسواق الأسهم والسندات من أسباب بؤس المواطنين. تكمن أهمية مؤشر "أوكون" لقياس البؤس الاقتصادي في أن الاحتياطي الفيدرالي يرى ذلك في خانة الضيق العابر، كما لو كان خسارة مباراة كرة قدم أو انتهاء مسلسل كوميدي، وليس مما يحفز أعضاء المجلس على تغيير السياسة.
التفويض المزدوج
كان ذلك درساً قاسياً بالنسبة إلى عديد من المستثمرين في 2022، رغم عدد المرات التي أكد فيها مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي لسنوات أن سياستهم ركزت فقط على ما يسمى بالتفويض المزدوج من الكونغرس المتمثل بالحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق الحد الأقصى لتشغيل العمالة. عبارة أخرى، يضطلع البنك المركزي بوضع السياسات المؤثرة في شقي مؤشر "أوكون"، لكن المشكلة هي أننا نشهد عصراً ذهبياً لنظريات المؤامرة. لقد تشكل ما يداني الإجماع خلال سنين ضعف التضخم التي تلت الأزمة المالية العالمية، حول نظرية تقول إن هناك تفويضاً ثالثاً غير معلن للاحتياطي الفيدرالي، وهو حماية المستثمرين من البؤس المتأتي من خسائر أسواق المال.
يساعد ذلك الاعتقاد على تفسير سبب تفاقم بؤس المستثمرين في 2022 على خلفية عديد من الارتفاعات قصيرة الأجل في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500"، التي بلغت 4% و5% و7%، بل حتى 11 و17%، ما منح المستثمرين أملاً بأن السوق الهابطة قد ولت. لكن تلك الآمال تبددت في نهاية المطاف بعدما أوضح صانعو السياسة في الاحتياطي الفيدرالي بعبارات لا لبس فيها أن البنك المركزي لم يغير مساره للحيلولة دون خسارة الجميع لخطط تقاعدهم الاستثمارية "401 كيه".
يسهل تفهم كيف جاءت ثقة الأسواق الزائفة بالاحتياطي الفيدرالي، فعادةً ما أتبع البنك المركزي الضعف الهائل في الأسواق المالية بإجراءات أقل حدة لإبقاء سعر الفائدة المستهدف قرب 0% خلال السنوات العشر السابقة على تفشي "كوفيد-19" في 2020. كان الاحتياطي الفيدرالي قد أبقى على سعر الفائدة عند هذا المستوى منذ تخفيضه نهاية 2008 في إطار جهود لإنقاذ الاقتصاد الذي عصفت به الأزمة المالية العالمية. لقد استغرق الأمر سبع سنوات قبل أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة القياسي عن الحد الأدنى البالغ 0%، فيما استغرق ثلاث سنوات إضافية للوصول إلى 2%. دفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة إلى ما يزيد على 4% في أقل من تسعة أشهر هذا العام بعد تخفيضه مرة أخرى إلى 0% خلال الأيام الأولى لتفشي الوباء.
شوط طويل
عندما اعتلى رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول المنصة للإدلاء بتصريحات في مؤتمر صحفي في 14 ديسمبر، كان انتعاش آخر في سوق الأسهم يتلاشى بعدما وضح البنك المركزي أنه لا يزال أمامه شوط طويل ليقطعه قبل انتهاء المعركة ضد التضخم الجامح. كان مؤشر أسعار المستهلك قد أظهر بوادر التباطؤ، لكنه لا يزال على الأقل ثلاثة أضعاف المعدل المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي. نعم، تباطأت وتيرة رفع أسعار الفائدة من ثلاثة أرباع إلى نصف نقطة مئوية، لكن أحدث توقعات الاحتياطي الفيدرالي بددت آمال السوق العريضة بأنه سيخفض سعر الفائدة في العام المقبل.
بيَّن أوّل تصريحات باول أنه لم يكن قلقاً بشأن استمرار بؤس المستثمرين في الأسواق، بل بشأن نوع البؤس الذي كُلف تخفيفه وحسب، إذ قال: "قبل أن أخوض في تفاصيل اجتماع اليوم، أود أن أؤكد للشعب الأميركي أننا نتفهم المعاناة الناشئة عن ارتفاع معدل التضخم وأننا ملتزمون للغاية خفض التضخم إلى هدفنا البالغ 2%".
بطبيعة الحال تشكل أسواق الأسهم والسندات إحدى الأدوات على قائمة جهود الاحتياطي الفيدرالي لتحقيق أهدافه. عندما لم يمثل التضخم تهديداً، وكان الهدف هو درء البؤس الناشئ عن ارتفاع معدلات البطالة، كان منطقياً أن يحاول صناع السياسة جبر ضعف تلك الأسواق، لأن ركود الأسواق المالية قد يدفع الشركات لإبطاء التوظيف أو تسريح موظفيها. من هنا كان الاعتقاد بوجود التفويض السري الثالث.
نقاش ممتد
يبلغ معدل البطالة 3.7% حالياً، أي ثلاثة أعشار نقطة مئوية فقط فوق أدنى مستوى له في أكثر من 50 عاماً. يواصل الاقتصاد الأميركي توظيف مئات آلاف الناس كل شهر، فيما ينتظر أكثر من 10 ملايين شاغر من يشغله. لذلك يعتقد صناع السياسة أنه مفيد الاستمرار بتشديد الظروف المالية، أي رفع أسعار الفائدة لجعل الاقتراض أكثر تكلفة، خشية أن تحفز سوق العمل الرائجة زيادة مكاسب الأجور التي تتطلب من الشركات زيادة الأسعار بشكل أكبر، ما يؤجج البؤس الناجم عن التضخم.
قال باول: "نعتقد أن الظروف المالية شُددت العام الماضي بشكل كبير، لكن الإجراءات المتعلقة بسياستنا تعمل من خلال الظروف المالية، التي تؤثر بدورها في النشاط الاقتصادي وسوق العمل والتضخم... أود أن أضيف أن تركيزنا ليس على التحركات قصيرة المدى ولكن على تلك المستمرة. بالطبع يؤدي عديد من الأمور إلى تحريك الأوضاع المالية بمرور الوقت".
قد يمتد نقاش الاقتصاديين حول حكمة سياسة البنك المركزي في أوائل العقد طيلة ما تبقى من حياتنا على الأقل. فبعد كل شيء، هذا ما يفعله الاقتصاديون. هل جاءت إجراءات مثل إبقاء الاحتياطي الفيدرالي على أسعار الفائدة عند 0% لفترة طويلة، وشراء كثير من السندات لأجل طويل، في إطار جهوده لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار في أثناء الوباء؟ وهل ينبغي أن يكون الركود الذي يتوقعه الجميع في العام المقبل عميقاً؟ هل جاء رد فعل البنك المركزي قوياً على نحو مُبالَغ فيه بتشديد الأوضاع المالية هذا العام؟
تُعَدّ تلك مناقشات هامة، لكنها قد لا تحسم أبداً بشكل كامل. بصراحة، قد لا تكون ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى المستثمرين في 2023. ما الذي سيهم إذا ما كان الاحتياطي الفيدرالي يقرر الاستمرار في محاربة التضخم حتى مع تزايد مخاطر فقدان الوظائف؟ حاول أن تتخيل الراحل آرثر أوكون فيما يدخن غليوناً كالذي اشتهر به شيرلوك هولمز ليقرر أي شِقَّي معادلة مؤشر البؤس التي وضعها هو الأهم.
قد تكون لاحظت، لكن دعم أسواق الأسهم والسندات ليس بالتأكيد على رأس أولويات البنك المركزي.