بلومبرغ
زراعة الشاي تسود مرتفعات سريلانكا الوسطى حيث تغطي نبتاته الخضراء سفوح التلال وتشقّ الشاحنات عادة طريقها هادرة تحمل حزماً زنتها 40 كيلوغراماً من أوراق الشاي على مسارات متعرجة متجهة نحو ميناء كولومبو.
لكن خلال زيارتنا الأخيرة إلى مزرعة غيراغاما للشاي في ضواحي كاندي، ثاني أكبر مدن سريلانكا، كانت قلّة من شاحنات الشاي تسير على الطرقات، فالبلاد ترزح تحت وطأة واحد من أشد الانهيارات الاقتصادية التي ضربت أي دولة في العالم منذ عقود. كما حال كثير من الأعمال التجارية الأخرى، تواجه غيراغاما صعوبة في تأمين المواد الأساسية. ارتفع سعر الأسمدة الزراعية تسعة أضعاف مقارنة مع 2019، فيما اضطرها انقطاع التيار الكهربائي للاعتماد على المولدات لبضع ساعات يومياً على الأقل.
خفّضت غيراغاما عدد عمال الورديات في معملها لتصنيع الشاي إلى النصف، ليبلغ 15 موظفاً تآكلت أجورهم بفعل التضخم المتسارع. كانت داواتابولا وات إرانغاني وهي عاملة بلغ عمرها 68 عاماً تشغل قميناً وقالت أنها ما عادت قادرة على استخدام الغاز للطهو في منزلها كما اعتادت أن تفعل طيلة عقود بعد الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة. اضطرت السيدة ذات اليدين السمينتين القويتين والوجه المغضن لقطع أشجار حديقتها حتى تشعل أحطابها التي انبعث دخانها ملء المنزل. حين نفدت أشجار حديقتها، راحت تبحث عن مزيد حطب في الأدغال. قالت: "لا أتذكر زمناً بلغ فيه ضيق الحال هذا القدر". إرانغاني الأرملة هي المعيلة الوحيدة لأسرتها، بمن فيهم حفيديها اللذين تعتني بهما منذ وفاة نجلها. قالت: "أقلق كثيراً على مستقبلهما، وما إذا كانا سيعثران على وظيفة حين يكبران".
سريلانكا المفلسة تعلن نفاد وقودها بعد تأخر وصول الشحنات
أصبحت القصص المشابهة لقصة إرانغاني شائعة بشكل صادم في سريلانكا. فقد صنّف البنك الدولي قبل ثلاث سنوات فقط اقتصاد البلاد على أنه ينتمي إلى الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل، وهي الفئة التي تضم دولاً مثل البرازيل وتركيا. على صعيد مؤشرات الصحة، مثل أمد الحياة، كانت المستويات في سريلانكا قريبة لتلك المسجلة في الصين أو بولندا. أمّا اليوم، فتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يصل إلى 7 ملايين شخص من أصل سكان البلاد البالغ عددهم 22 مليون نسمة يحتاجون مساعدات إنسانية طارئة، ويواجه عديد منهم خطر سوء التغذية.
استدارة نحو الصين
كانت شدة الانهيار السريلانكي صاعقةً. فمثل كثير من اقتصادات الدول في طور النمو، تعتمد البلاد على استيراد الغذاء والوقود والأسمدة الزراعية، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا قيّد الإمدادات ورفع أسعارها بشدة بالتزامن مع جموح سعر صرف الدولار الأميركي اللازم لابتياع هذه السلع. يخضع البنزين والديزل حالياً لتقنين صارم، ويضطر من يحتاج لأكثر من الحصة الأسبوعية أن يشتريه من تجار السوق السوداء الذين يملؤون السيارات بالوقود من غالونات بضعفي أو ثلاثة أضعاف السعر الرسمي.
لكن الأحداث العالمية ما كانت إلا الشرارة الذي فجرت وضعاً كان يغلي أصلاً في سريلانكا على مرّ أكثر من عقد. منذ 2005، باستثناء خمس سنوات، خضعت البلاد لحكم عائلة راجاباكسا، وهي عائلة سياسية كبيرة شغل أفرادها مناصب الرئيس ورئيس الوزراء، وتولوا وزارتي المالية والدفاع. أدارت العائلة ظهرها لحلفاء سريلانكا التقليديين في الهند والولايات المتحدة، ووجهت سياسة البلاد الخارجية والاقتصادية نحو الصين، مستدينة من البنوك الصينية التي تملكها الدولة لتمويل مشاريع البنية التحتية المكلفة. تحت ولاية تلك الأسرة، دخلت البلاد حقبة من فساد مستشرٍ، وفق وصف المعارضين، وشهدت اختلاس مليارات الدولارات من المال العام وتهريبها إلى الخارج.
اقتصاد سريلانكا ينكمش تحت وطأة التخلف عن سداد الديون
انتفض السريلانكيون هذا العام ونظموا مظاهرات حاشدة في الشوارع ضد الأسرة الحاكمة. استقال رئيس الوزراء ماهيندا راجاباكسا من منصبه في مايو، وهو الذي كان قد شغل منصب رئيس البلاد بين 2005 و2015، واستقال شقيقه الأصغر الرئيس غوتابايا راجاباكسا في يوليو بعدما اقتحمت حشود المحتجين مكان إقامته الرسمي. فرّ غوتابايا إلى سنغافورة لكنه عاد إلى سريلانكا في سبتمبر، فيما تضجّ كولومبو بالإشاعات بأن عائلة راجاباكسا التي ما يزال لديها عديد من الموالين تخطط للعودة إلى السلطة. وقد رفض أفراد العائلة إجراء مقابلة لإعداد هذا المقال.
تحاول حكومة تصريف الأعمال حالياً احتواء الانهيار الاقتصادي. تتفاوض سريلانكا لإعادة هيكلة ديونها الخارجية التي تزيد على 40 مليار دولار وتتوقع التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن خطة الإنقاذ بحلول أوائل العام المقبل. إلا أن ذلك قد لا يساعد المواطنين العاديين على المدى القريب. قال باتالي شامبيكا راناواكا، رئيس لجنة الاستقرار الاقتصادي في البرلمان السريلانكي: "تغلق المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة الواحدة تلو الأخرى، فيما ارتفعت أسعار الغذاء إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في 2019، والأسوأ لم يأت بعد".
الازدهار بعد الحرب الأهلية
انتُخب ماهيندا راجاباكسا وهو محام وعضو في البرلمان من الريف الجنوبي لسريلانكا رئيساً للبلاد في عام 2005 في خضم حرب أهلية طاحنة. كان النزاع قد دخل عقده الثالث بين الحكومة المركزية وحركة نمور تحرير تاميل إيلام المطالبين بدولة مستقلة لأقلية التاميل المهمشة، أُزهقت خلاله أرواح مدنيين من الجانبين وتخلله تعذيب للأسرى واغتيالات متبادلة لقادة الطرفين. تخصص نمور التاميل باستخدام التفجيرات الانتحارية كتكتيك في حرب العصابات بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
لجأ ماهيندا إلى أخيه غوتابايا الضابط الذي كان قد هاجر إلى كاليفورنيا لوضع حد للنزاع.
الدول الفقيرة تواجه اضطرابات والغنية تلتهم كميات كبيرة من الوقود
في تحوّل وظيفي لا شكّ أنه الأكثر جذرية في تاريخ لوس أنجلوس، استقال غوتابايا من منصبه كإداري في مجال تقنية المعلومات وعاد إلى سريلانكا حيث عُيّن وزيراً للدفاع وأشرف على سلسلة هجمات متواصلة على نمور التاميل، مقلصاً مساحة الأراضي التي ينشط فيها مقاتلوها. أظهر تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن ما يصل إلى 40 ألف مدني قتلوا في العملية، سقط بعضهم في عمليات قصف في المناطق التي زعمت الحكومة أنها مناطق حظر إطلاق نار. استسلم نمور التاميل فعلياً في مايو 2009 بعد مقتل قائدهم فيلوبيلاي برابهاكاران.
بعد حلول السلام أخيراً في سريلانكا، انفتحت البلاد على الأعمال. عنى ذلك بالنسبة لماهيندا وغوتابايا وأخيهم باسيل الذي عُيّن وزيراً للتنمية الاقتصادية، الالتفات نحو الصين بحثاً عن استثمارات، بدل التوجه نحو دول ديمقراطية مثل الهند، القوة الإقليمية العظمى. قال مسؤول حكومي سابق طلب عدم كشف عن اسمه خشية تعرضه لإجراءات انتقامية، إن المسؤولين الهنود عبروا مراراً عن استيائهم من ذلك في الاجتماعات الخاصة. لكن الصين كانت قد خرجت من الأزمة المالية في حينها أقوى من أي وقت مضى، وجذب نموذج التنمية الذي تعتمده والقائم على البنية التحتية، سريلانكا التي كانت في صدد إعادة الإعمار.
مشاريع مضخمة التكلفة
تضمّن مقترح آل راجاباكسا الرئيسي مشروعي بنية تحتية ضخمين، بينهما ميناء بحري عملاق ومطار دولي في مقاطعة هامبانتوتا الجنوبية، وهي منطقة نائية ومتخلفة تنموياً، تسرح قطعان الفيلة في سهولها المشمسة. إلا أن ميزة المنطقة الأساسية أنها مسقط رأس أجداد آل راجاباكسا ومعقلهم الانتخابي. نُفّذ المشروعان إلى جانب طريق سريع يربطهما بكولومبو، وموّلا بشكل رئيسي بقروض من الصين، وسرعان ما تضخمت تكلفتهما.
قّدرت تكلفة المطار في 2006، حين كان في مراحل التصميم الأولى، بين 60 و70 مليون دولار، حسب مراسلات وزارة الخارجية الأميركية التي سربها موقع "ويكيليكس". بحلول تاريخ افتتاحه في 2013، وصلت تكلفته إلى 244 مليون دولار وأتى ثلاثة أرباع المبلغ من قرض صيني. لم تشأ أي شركات طيران تقريباً تسيير رحلات إلى هامبانتوتا، وظلّ المطار قليل الاستخدام لدرجة أن بعض الحركة التي شهدها المدرج كانت لطواويس تخترق نطاقه.
لم يكن أداء الميناء أفضل. قدّمت الصين قرضاً بقيمة 1.3 مليار دولار للمشروع الذي بنته شركات صينية كما المطار. قال دبلوماسي أجنبي عمل على مسائل البنى التحتية في كولومبو إنه واضح أن تكلفة المشروع مضخّمة جداً. مع ذلك، كانت حكومة راجاباكسا مسرورة بالمضي قدماً، مقتنعة "أن الصينيين بارعون في التنمية" كما بيّن الدبلوماسي، إلا أن النتيجة جاءت ميناءً ساكناً لم تجاوز إجمالي إيراداته في 2014 نحو 9 ملايين دولار.
صفقة "إيرباص"
تغلغل الفساد في كافة الأعمال الحكومية. بدأت شركة الطيران السريلانكية التي تسيطر عليها الدولة في 2010 تدرس خيارات استبدال طائراتها القديمة. بيّن تحقيق رسمي لاحق أن المديرين التنفيذيين اقترحوا في البداية عمليات شراء "متدرجة" من أجل التحكم بالتكلفة. لكن في العام التالي، عيّنت الحكومة رئيساً تنفيذياً جديداً هو كابيلا شاندراسينا الذي كان قد أدار سابقاً شركة طيران أصغر حجماً أنشأتها إدارة راجاباكسا، وقد انضم إلى رئيس مجلس الإدارة الجديد للشركة، وهو نيشانثا ويكراماسينغ، صهر ماهيندا راجاباكسا.
سرعان ما اعتمدت شركة طيران سريلانكا استراتيجية أكثر شراسة، مطالبة بإنفاق 2.3 مليار دولار لشراء ما لا يقل عن 11 طائرة "إيرباص" جديدة عريضة البدن. حسب الأوراق المقدمة أمام محكمة في المملكة المتحدة، حين فاوض طاقم "إيرباص" على الصفقة، أُبلغوا أن استشارية من طرف ثالث هي بريانكا نيومالي ويجيناياكي ستكون منخرطة بها. اكتشف المحققون البريطانيون لاحقاً أن ويجيناياكي لا تمتلك "أي خبرة في مجال الطائرات" لكنها متزوجة من شاندراسينا، رئيس شركة الطيران السريلانكية التنفيذي.
أبرمت "إيرباص" اتفاقاً مع ويجيناياكي في 2013 بحيث تحصل شركتها على مليون دولار من "إيرباص" لدى تسليم كل طائرة، إضافة إلى دفعة واحدة بقيمة خمسة ملايين دولار في حال امتنعت شركة الطيران السريلانكية عن شراء طائرات من منافستها "بوينغ"، ليصل إجمالي المبلغ الذي ستحصل عليه إلى نحو 17 مليون دولار. في نهاية المطاف، استلمت شركة الطيران سبع طائرات فقط من إجمالي الطائرات التي سعت في الأصل للحصول عليها، ولم تتلق شركة ويجيناياكي إلا مليوني دولار. تحولت الصفقة بعدها إلى أحد القضايا في تحقيق مشترك بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا حول استخدام "إيرباص" لوسطاء من أجل إبرام صفقات حول العالم. في إطار اتفاق التغاضي المشروط عن الدعوى الذي توصلت إليه "إيرباص" مع السلطات البريطانية في 2020، أقرّت الشركة بإبرام اتفاقية استشارية مع ويجيناياكي ودفع الأموال لها. أنكرت ويجيناياكي وزوجها ارتكابهما أي مخالفات.
خطر كشف الفساد
كانت جهود كشف الفساد في سريلانكا محفوفة بالمخاطر في بعض الأحيان. قاد لاسانثا ويكريماتونج، محرر صحيفة أسبوعية تحمل اسم "صنداي ليدر" (Sunday Leader) تحقيقاً حول صفقة أبرمتها القوات الجوية السريلانكية لشراء طائرات مقاتلة من أوكرانيا. أفادت الصحيفة أن الشركة التي كان يفترض أن تتلقى 15 مليون دولار لقاء الطائرات لا وجود لها في الواقع، وأشارت إلى احتمال تورط غوتابايا راجاباكسا في اختلاس بعض الأموال. نفى غوتابايا هذه المزاعم ورفع دعوى قضائية على الصحيفة بتهمة التشهير. لم يرتدع ويكريماتونج حتى بعد أن تلقى إكليل جنازة وصحيفة مغمسة بطلاء أحمر، جاء فيها "إن كتبت ستُقتل". بعد فترة قصيرة من ذلك، في يناير 2009، حاصرت مجموعة من الأشخاص يرتدون ملابس سوداء يقودون دراجات نارية سيارة ويكريماتونج عند تقاطع مزدحم، فحطموا نوافذها وضربوه على رأسه بواسطة أداة حادة ثقبت جمجمته فمات في اليوم نفسه.
لم يبد أن أي من هذه الأحداث أثرت على شعبية ماهيندا راجاباكسا، بالأخص في أوساط الغالبية السنهالية، فعائلته تتمتع بشرعية كبيرة نظراً لدورها في إنهاء الحرب الأهلية، فيما كانت الاستثمارات الصينية وقطاع السياحة المزدهر قد أسهما في طفرة اقتصادية عل امتداد البلاد. افتتحت فنادق فخمة جديدة أبوابها على شواطئ الرمال البيضاء على الساحلين الجنوبي والغربي، وتقاطر المشاهير إلى الجزيرة للاستمتاع بشهور عسل في فنادق خمس نجوم. وفي كولومبو، المدينة الهادئة تقليدياً ذات الممرات الضيقة والأكواخ المنخفضة، أعلن المطورون العقاريون الصينيون عن خطط لإنشاء مراكز تسوق وناطحات سحاب أشبه بتلك التي تحتضنها شنجن. نما الناتج الإجمالي المحلي بنحو 90% بين 2009 و2014.
نظراً لمكانة آل راجاباكسا، فوجئ المراقبون بفوز مرشح المعارضة مايثريبالا سيريسينا بفارق ضئيل في الانتخابات الرئاسية في 2015. تعهد سيريسينا خلال حملته الانتخابية بإعادة بناء العلاقات مع دول مثل الهند واليابان، وحذّر من أن اقتراض عائلة راجاباكسا الضخم من الصين وغيرها سيحوّل السريلانكيين إلى "عبيد".
مغادرة السلطة ثم العودة
كان على رأس أولويات حكومة سيريسينا استرجاع الأموال المنهوبة التي قدّر أحد كبار المسؤولين قيمتها بنحو 18 مليار دولار. لكن حسب أحد الأشخاص المضطلعين بجهود تتبع الأصول، فإن سريلانكا لا تملك أي قدرة على القيام بتحقيقات مالية معقدة فيما أن المؤسسات الحكومية ما تزال تعجّ بمؤيدي راجاباكسا. يتذكر أحد المسؤولين السابقين كيف حين وصل إلى مقر عمله الجديد في إحدى الأجهزة المالية المهمة، وجد أن غالبية مرؤوسيه موظفون منحدرون من مسقط رأس عائلة راجاباكسا في أقصى جنوب سريلانكا. حاول المسؤولون تدريب مختصين بمكافحة الفساد، وطلبوا المساعدة من الولايات المتحدة التي أرسلت محققين إلى كولومبو لجمع المعلومات. لكن حسب شخصين مطلعين على المسألة، فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي وغيره من الوكالات كانوا مترددين في مشاركة المعلومات مع الجانب السريلانكي خشية تسريبها إلى آل راجاباكسا. يُعتقد أن الجزء الأكبر من الأموال المستحصل عليها بطريقة غير مشروعة كانت في دبي. لكن بحسب أحد الأشخاص المطلعين على المسألة، فإن السلطات الإماراتية كانت بطيئة بتسليم السجلات المطلوبة، ولم تقدم أي شيء ذا قيمة في نهاية المطاف. قال مسؤول إماراتي لبلومبرغ بزنس ويك إن الجانب السريلانكي لم يقدم "المعلومات التي طلبتها السلطات الإماراتية لدراسة طلبها" وإن الإمارات "جاهزة للمساعدة" في تحقيقات مستقبلية.
في غضون ذلك، كان آل راجاباكسا على وشك العودة إلى السلطة. وسنحت لهم الفرصة في أحد عيد الفصح من عام 2019، حين شنّ انتحاريون هجمات منسقة على كنائس وفنادق في كولومبو. أدت التفجيرات التي شنّتها جماعة إسلامية لمقتل 269 شخصاً. مع توجّه الأنظار إلى الشأن الأمني، الذي يعطي آل راجاباكسا شرعية واسعة، أعلن غوتابايا عزمه الترشح إلى الرئاسة. (بما أن ماهيندا لا يستطيع الترشح بسبب القوانين حول مدة الولاية الرئاسية). حقق غوتابايا انتصاراً سهلاً في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر من ذاك العام، ثمّ عينّ ماهنيدا رئيساً للحكومة ووزيراً للمالية وسلّم أخاه الآخر شامال وزارة الاقتصاد. ثمّ عيّن نامال نجل ماهيندا وزيراً للرياضة والشباب، فيما خلف باسيل ماهيندا في وزارة المالية.
مجدداً، عادت حكومة سريلانكا لتصبح شركة عائلية.
مشاريع لم تحقق إيرادات
يمتد الطريق السريع الجنوبي قرب الساحل الغربي لسريلانكا في ضواحي كولومبو موازياً للشريط الساحلي نحو الجنوب على شكل ربع دائرة تقريباً. يختلف هذا الطريق المعبّد جيداً والمجهز بمحطات خدمة على الطراز الأميركي والمحصن عند أقصاه بسياج كهربائي لردع الفيلة الشاردة، أيما اختلاف عن الطرقات الضيقة والمتعرجة التي تربط ما بين معظم البلدات السريلانكية. هدف إنشاء هذا الطريق لإحداث تحوّل في مجال النقل في المنطقة، بما يسهّل حركة التنقل ويساعد المزارعين والمعامل على إيصال السلع إلى الشراة بسرعة أكبر.
خلال توجهنا في السيارة نحو أقصى الجنوب في منتصف أكتوبر، كان الطريق السريع شبه خال. فنظراً لشحّ الوقود وارتفاع تكلفة النقل، لم تعد الرحلات الطويلة بمتناول كثير من السائقين. ينتهي الطريق عند هامبانتوتا على مقربة من رافعات صينية الصنع في الميناء الجديد. تدير الميناء منذ عام 2017 شركة "تشاينا ميرشينت بورت القابضة" (China Merchants Port Holdings) وهي شركة بحرية تملكها الدولة ومقرّها في هونغ كونغ، كانت قد استأجرت الميناء من الحكومة الصينية بموجب عقد لمدة 99 سنة مقابل 1.12 مليار دولار. كان استراتيجيون عسكريون أميركيون قد أعربوا عن قلقهم من احتمال أن تمنح الصفقة موطئ قدم للبحرية الصينية، وقال شخص مطلع على المسألة إن الدبلوماسيين الأميركيين ضغطوا بشدة ضدّ الاتفاقية. لكن بما أن حكومة سيريسينا لم يكن أمامها خيارات كثيرة للحصول على الأموال بعد سنين آل راجاباسكا في الحكم، قررت المضي قدماً بالصفقة.
قال القادة السريلانكيون المتعاقبون إنهم لن يسمحوا بتحويل هامبانتوتا لقاعدة عسكرية لأي جيش أجنبي، وهي ما تزال حتى الآن ميناء تجارياً، ولو أنه ساكن لم يجلب بأي حال من الأحوال ازدهاراً إلى المنطقة.
قرب المستشفى المحلي، كانت ر.م. لاكمالي بيريرا تبيع أوراق اليانصيب والأقنعة الطبية في كوخ مبني من صفائح معدنية. قالت إن زوجها كان يجني في السابق دخلاً لا بأس به من عمله كسائق حافلة، إلا أن ساعات عمله قُلّصت بسبب شحّ الوقود، وبات دخل بيريرا البالغ 700 روبيه (1.91 دولاراً) في اليوم المدخول الرئيسي للعائلة. أردفت: "هذا لا يكفي أبداً". بات ثمن الطعام باهظاً جداً لدرجة ما عادت قادرة إلا على تقديم وجبتين لابنتيها المراهقتين في اليوم، وهي تكتفي بتناول وجبة واحدة من الطعام المتبقي. قالت: "أنا غاضبة جداً ولكن ماذا باستطاعتنا أن نفعل؟".
انهيار اقتصادي
بدأت سلسلة الأحداث التي أدت مباشرة إلى الضائقة المالية في سريلانكا مع تولي غوتابايا راجاباسكا سدّة الرئاسة في نهاية 2019. كانت أولى مبادراته حزمة تخفيضات ضريبية شاملة، بما فيها خفض الضرائب على المبيعات بنحو 50%. أدت هذه الخطوة التي صُوّرت على أنها تهدف للتحفيز الاقتصادي للقضاء على نحو ثلث إيرادات الحكومة. عوّضت سريلانكا هذه الفجوة من خلال اللجوء لمزيد من الاقتراض، الذي حاولت تمويله من خلال طبع المصرف المركزي للأموال.
أذهل هذا الخبراء الاقتصاديين. قال هارشا دي سيلفا، الخبير الاقتصادي والبرلماني المعارض إن آل راجاباسكا كانوا مقتنعين "بالتفسير الخاطئ للنظرية النقدية الحديثة"، وهي الفلسفة القائلة بأنه يمكن للحكومة أن تنفق بحرية بلا خوف بما أنها ستكون قادرة دائماً على استحداث مزيد من المال. لكن حتى مناصري هذه النظرية لا يدعون لتطبيقها خارج البلدان "ذات السيادة النقدية" مثل الولايات المتحدة التي يمكنها ببساطة الاقتراض بعملتها الرسمية. جاءت النتيجة في سريلانكا كما كان متوقعاً: تخفيضات متتالية لتصنيفها الائتماني لدى وكالات التصنيف، ما جعل الدين بالدولار الأميركي الذي تحتاجه البلاد لتمويل الاستيراد أغلى ثمناً. زاد الوباء البلة طيناً فقد دمّر أحد أهم مصادر العملة الأجنبية في البلاد، أي قطاع السياحة. فالقطاع الذي أسهم بإيرادات بمعدل 3.7 مليار دولار سنوياً بين 2015 و2019، انهارت إيراداته إلى أقل من 700 مليون دولار فقط في 2020.
أعلن غوتابايا في أبريل من العام التالي، عن تغيير صادم أكثر، فقد فرض حظراً فورياً على واردات الأسمدة الكيمائية، متذرعاً بتسريع التحول الوطني نحو الزراعة العضوية. لكن في الواقع كانت الضغوط المالية التي ترزح تحتها البلاد سبب قراره، فواردات الأسمدة كانت لتكلف سريلانكا ما يصل إلى 400 مليون دولار، ما يتطلب دولارات لم تكن تملكها.
كانت نتيجة القرار مدمرة، فانخفضت غلة محاصيل مزارع الشاي التي تمثّل صادراتها مصدراً رئيسياً آخر للعملة الأجنبية في سريلانكا. بيّن سينثيل ثوندامان، رئيس مؤتمر عمال سيلون الحزب السياسي الذي يمثّل عمال المزارع، إنه كان قد حذّر غوتابايا بأن القطاع لا يستطيع الانتقال نحو الزراعة العضوية بين ليلة وضحاها. قال: "أخبرته، أنا رجل عملي، أعرف ما هو ممكن وما هو غير ممكن... لم يأخذ الرئيس في عين الاعتبار أن القطاع قد ينهار".
تظاهرات مناهضة
في أبريل انضمّ دانيش علي، السريلانكي الذي تلقى تعليمه في أستراليا ويعمل استشارياً للطلاب الذي يقدمون طلبات للحصول على تأشيرات لدول أجنبية، إلى الحشود في حديقة غال فيس غرين مستطيلة الشكل في قلب كولومبو، حيث كان بعض المتظاهرين ينصبون الخيام استعداداً لاحتلالها لفترة طويلة. كانت الأوضاع الاقتصادية حينها قد تدهورت مع انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى 50 مليون دولار من 7.6 مليار دولار في نهاية 2019، ما أدى إلى استحالة استيراد أي شيء، من الأدوية إلى الفحم. كان التيار الكهربائي ينقطع لما يصل 12 ساعة في اليوم، فيما امتدت الطوابير على محطات الوقود لمسافات طويلة جداً لدرجة أن بعض الأشخاص توفوا فيما كانوا ينتظرون.
تلقى عمل علي ضربة أيضاً. فالدراسة في الخارج كانت أمراً شائعاً نسبياً في سريلانكا في سنوات الرخاء، لكن الأمر بات مستحيلاً اليوم لمعظم السريلانكيين باستثناء الميسورين منهم، ما أدى إلى تناقص شديد في عدد عملاء علي، كما بات صعباً عليه أن يقدم خدماته لمن لديه من عملاء. هو لا يملك مولد كهرباء، وحين ينقطع التيار الكهربائي، ما كان باستطاعته إلا الدعاء بأن يبقى في هاتفه وكمبيوتره ما يكفي من الطاقة حتى نهاية الدوام.
احتشد المتظاهرون في غال فيس رافعين مطلباً بسيطاً عبّر عنه وسم عبر أنستغرام: "اذهب إلى منزلك يا غوتا" (#GotaGoHome). قال علي إن المحتجين أرادوا التعبير عن غضبهم تجاه النظام السياسي "المصمم لتشجيع الفساد وليكسب السياسيون والأشخاص الذين يعملون لصالحهم المال". كانت الأجواء احتفالية في البداية، لكن بعد شهر اقتحم متظاهرون مؤيدون للحكومة المخيم متسلحين بسكاكين وعصي، وقال شهود إن الشرطة وقفت جانباً وسمحت لهم بالعبور. قال علي: "لقد هاجمونا، وكانت استجابة الناس حقيقية". ردّ المحتجون على الهجوم، فاشتبكوا مع الشرطة وأضرموا النار في المنازل التي يملكها آل راجاباكسا وحلفاؤهم، ما أدى إلى مقتل تسعة أشخاص. تلا ذلك موجة غضب عارمة لم تستطع حتى العائلة الحاكمة في سريلانكا احتواءها. استقال ماهيندا من منصبه في رئاسة الحكومة على الفور، فيما صمد غوتابايا في سدّة الرئاسة حتى يوليو، حين اقتحمت الحشود بوابات مقرّ إقامته الرسمي. فيما تناقلت وسائل الإعلام حول العالم صور المحتجين وهم يسبحون في مسبح القصر الرئاسي، أعلن الرئيس عزمه الاستقالة.
مفاوضات مع صندوق النقد
يقود حكومة سريلانكا اليوم الرئيس رانيل ويكريمسينغه وهو سياسي مخضرم يُعرف بكفاءته كتكنوقراطي بعيد عن الاصطفاف السياسي. تواجه إدارته تحديات ضخمة، فقد توقفت سريلانكا عن سداد الديون الخارجية في أبريل، ما أدى إلى أول تخلف عن سداد الديون السيادية في تاريخها. هي حالياً بصدد التفاوض على إعادة هيكلة ديونها مع المقرضين، الذين يضمّون مجموعة حكومات أجنبية، منها الصينية والهندية واليابانية، إلى جانب المستثمرين الذين يملكون سندات سيادية. لعل التحدي الأكبر يكمن بالتوصل لاتفاق عادل مع الصين التي تستحوذ على 52% من ديونها الثنائية. قال محافظ المصرف المركزي السريلانكي ناندالال ويراسينغ: "ثمة مؤشرات على أن الصين مستعدة لدعم سريلانكا". لكن في محادثات إعادة هيكلة الدين مع المقرضين، كانت الصين مترددة جداً بقبول تخفيض إجمالي المبلغ الذي يتعين تسديده، مفضلة تقديم حلول لإعادة التمويل أو تمديد مهل السداد، في حين لن يقبل مقرضو سريلانكا الآخرون، سواءً كانوا مستثمرين من القطاع الخاص أو من الحكومات بشروط سداد أقل يسراً من تلك المتفق عليها مع الصين.
اقتصاد سريلانكا ينكمش تحت وطأة التخلف عن سداد الديون
لا بدّ من التوصل إلى قرار يوضح الوضع المالي لسريلانكا من أجل الإفراج عن خطة الإنقاذ من جانب صندوق النقد الدولي، التي تُعدّ المرحلة التالية في إعادة الاستقرار. كانت سريلانكا والصندوق قد اتفقتا مبدئياً على شروط الخطة التي تتضمن قرضاً بقيمة 2.9 مليار دولار. يبقى على مجلس صندوق النقد الدولي أن يوافق على الاتفاق، وهو ما يتوقع أن يحصل في العام المقبل. يتيح هذا التصريح من صندوق النقد لسريلانكا العودة للاستدانة من مقرضين دوليين آخرين.
سريلانكا تتوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي لاقتراض 2.9 مليار دولار
يشدد صانعو السياسات أن خطة الإنقاذ ما هي إلا خطوة أولى، فلمعالجة الأزمة الحالية وتجنب أزمات لاحقة، على سريلانكا أن تجري تغييرات جذرية منها خفض الإنفاق وزيادة الضرائب ومكافحة الفساد. على صعيد مكافحة الفساد، لا تبدو الأمور مشجعة حتى الآن. وجّه راناواكا، النائب الذي يترأس لجنة الاستقرار الاقتصادي رسالة أخيراً إلى مكتب الرئيس ويكريمسينغه سلّط فيها الضوء على توجّه لافت. فقد اتضح أنه عند إبرام اتفاقيات لشراء البنزين والديزل في بداية 2022، دفعت حكومة راجاباكسا فرقاً بين سعر الجملة لأي منتج نفطي والسعر النهائي الذي يتم تقاضيه مبلغاً يتراوح بين 3 و6 دولار للبرميل. لكن في شحنات يوليو وأغسطس، ارتفع هذا المبلغ إلى 25 دولار أو أكثر للبرميل، ولم يتضح سبب ارتفاع السعر والطرف المستفيد منه.
آل راجاباكسا يسعون للعودة
في غضون ذلك، آل راجاباكسا ليسوا بعيدين عن الساحة. فمنذ رحيل غوتابايا، أصبح نامال، نجل ماهيندا وقد بلغ عمره 36 عاماً الوجه الإعلامي للعائلة، وهو يتميز بأسلوبه غير الرسمي ونشاطه على موقع "تويتر". يمكن مقارنة ذلك مع عائلة ماركوس في الفلبين. فرّ الديكتاتور فرديناند ماركوس من البلاد في 1986 بعد انتفاضة شعبية ضد الفساد والانفلات من العقاب اللذين سادا إبان حكمه. إلا أن من خلفوا ماركوس أخفقوا بتحقيق تغيير حقيقي، وبات الناخبون ينظرون إلى الزعيم السابق سيئ السمعة بشكل إيجابي أكثر ثم انتخبوا ابنه بونغ بونغ رئيساً للبلاد هذا العام.
على مشارف 2023، يواجه السريلانكيون الرازحون تحت وطأة اقتصاد منهار مشكلات ترتبط عادة بأفقر دول العالم. قال أنوشكا ويجيسينها، الرئيس التنفيذي لمركز المستقبل الذكي، وهي مؤسسة بحثية في كولومبو: "لدينا حالة طوارئ جديدة تتعلق بالأمن الغذائي وسوء التغذية سيكون لها آثار طويلة المدى على إنتاجية قوانا العاملة... سيكون هناك تبعات على صعيد التعليم وسوء التغذية لفترة طويلة". قد يتسبب ذلك أيضاً بتظاهرات شعبية جديدة، بالأخص في حال كان وقع زيادة الضرائب وخفض الإنفاق أشدّ على الطبقة الفقيرة. قال ويجيسينها إنه فيما قاد الحركة المناهضة لغوتابايا أشخاص ميسورون نسبياً ممن تلقوا "ضربة مباشرة لأسلوب حياتهم"، فإن موجة التظاهرات التالية قد يقودها الفقراء المعدمون.
يصعب تخيّل كيف ستسوء أحوال كثيرين منهم. يزرع م. ج. ساغارا الأرز والخضروات في قطعة أرض يملكها بمساحة 0.6 هكتار قرب الطريق التي تربط كولومبو بكاندي. قال ساغارا "كنّا مرتاحين جداً" قبل حظر الأسمدة في عام 2010، فقد كان يزرع ما يكفي من المحاصيل لتأمين الطعام لزوجته وأولادهما الثلاثة في منزلهم المسقوف بالصفيح على مشارف بستان الخضار الذي يملكه. كان يجني المال من بيع فائض المحصول. رغم أن حكومة غوتابايا خففت حظر الأسمدة الكيمائية بعد بضعة أشهر من بدء تنفيذه، إلا أن كميات قليلة تدخل البلاد، وأسعاره مرتفعة جداً تفوق قدرة صغار المزارعين. قال ساغارا إن نباتات الأرز التي يزرعها يبلغ ارتفاعها في العادة ثلاثة أمتار، إلا أن ارتفاع سيقان النباتات الهزيلة لم يتجاوز قدماً اليوم. لقد انتقل لبيع الحطب الذي يجمعه بيديه من الأدغال المجاورة، وقال: "لا أملك الخبرة لأقوم بأي عمل آخر، يجب أن أعيش".
إنفوغراف.. مؤشر البؤس في سريلانكا يصل أعلى مستوياته
اضطر ساغارا وزوجته للاكتفاء بغذاء نباتي تماماً، وتوقفا عن شراء الحليب المجفف ولا يتناولان إلا وجبتين فقط في اليوم. إلا أن أكثر ما يزعجه هو تأثير الأزمة على تعليم أطفاله. جلس إلى جواره ابنه الأوسط الوسيم البالغ عمره 12 عاماً لا يكسوه إلا سروال قصير قماشه على شكل مربعات. كان يتحضر لامتحان قد يمكّنه من الحصول على منحة دراسية، لكن عائلته ما عادت قادرة على تحمّل تكلفة الدروس الخصوصية. بدا على ساغارا التأثر حين قال إن ابنه اقترح أن يلتحق بدير كي يرفع عن والديه القلق بشأن إطعامه.
شدد ساغارا على أنه لا يرغب بتوجيه انتقاد لأي زعيم بعينه، لكنه كان يدرك على من تقع لائمة ما حلّ به وبعائلته: "الساسة هم من فعل هذا ببلدنا".