بلومبرغ
لدى الولايات المتحدة أقوى جيش في العالم وبعض أقوى أسلحته عالية التقنية، مثل الطائرات الشبحية والصواريخ دقيقة التوجيه، لكنها رغم ذلك تعتمد بشدة على التدابير الاقتصادية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، كما لم تعُد أهدافها مقتصرة على دول صغيرة نسبياً مثل كوبا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا.
قال دانيال دريزنر، أستاذ السياسة الدولية في جامعة تافتس: "لم تكُن أغلب الدول التي تستهدفها العقوبات الأميركية تسهم بشكل كبير في الاقتصاد العالمي، لكن يبدو واضحاً أن الأمر تغير إلى حد ما".
لم يقتصر رد إدارة بايدن على غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا على تقديم الأسلحة والمساعدات إلى كييف، بل امتد لإقناع الحلفاء بعقوبات على روسيا، كما استخدمت الولايات المتحدة مكانتها في قلب النظام المالي العالمي لعزل روسيا عن أسواق رأس المال الرئيسية وشبكات المعاملات المالية، مثل نظام "سويفت" للمدفوعات.
تراجع دور القوة العسكرية
كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً على الصين من جبهات متعددة بالتزامن مع تصاعد التوتر بشأن تايوان، وشهدنا هذا الشهر أحدث التحركات التي تستهدف ثاني أكبر اقتصاد في العالم، عندما فرضت قيوداً جديدة على إتاحة تقنية أشباه الموصلات للصين، كما عدلت بعض القوانين لتزيد صعوبة التعاون مع بعض الشركات الأجنبية، وهددت بطرد الشركات الصينية من البورصات الأميركية بسبب مخاوف بشأن الإفصاح والالتزام بالقواعد المحاسبية، ما فتح باب المراجعات على مصراعيه على شركات مثل "بايت دانس" (ByteDance)، مالكة "تيك توك".
قالت جوليا فريدلاندر، المستشارة السابقة في وزارة الخزانة الأميركية، التي تدير الآن "أتلانتيك بروكيه" (Atlantik-Brücke)، المنظمة غير الربحية الهادفة لتعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وألمانيا: "ستنسحب محددات القوة المتعلقة بالمواجهة العسكرية خلال العقدين المقبلين، لتتركز أكثر على التنظيم والتكامل بين أسواق رأس المال وسلاسل التوريد التي ستتصدر الأهمية في العلاقات الدولية".
تُكمّل الترسانة الاقتصادية قوة الولايات المتحدة العسكرية الصارمة، التي جاءت نتائج استخدامها متباينة في العقود الأخيرة، فقد كانت الأسلحة التي زودت بها الولايات المتحدة أوكرانيا مفيدة في الهجوم المضاد الأخير، الذي قلب الموقف أكثر من تأثير العقوبات ضد روسيا.
معركة الرقائق
لكن تُذكًر مستنقعات أفغانستان والعراق وقبلهما فيتنام بمحدودية العمل العسكري واستنزافه للموارد والدعم الشعبي، كما زادت تلك الحروب من جاذبية استخدام طرق أخرى لاستخدام القوة.
قال الرئيس الأميركي جو بايدن في 12 أكتوبر في وثيقة تتضمن استراتيجيته للأمن القومي: "نحن في خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي"، كما قالت إدارته إنها ستعطي أولوية "للحفاظ على ميزة تنافسية دائمة" على الصين، و"تقييد روسيا التي ما تزال شديدة الخطورة". مجلس الشيوخ يصوّت على مشروع قانون دعم صناعة أشباه الموصلات البالغ 52 مليار دولار
تزداد شدة المعركة خاصة على رقائق الكمبيوتر، حيث تهدف القيود الجديدة التي فرضتها إدارة بايدن للحد من جهود بكين لتطوير صناعتها الخاصة وتعزيز قدراتها العسكرية. رغم ريادة الولايات المتحدة في تطوير الرقائق واعتماد جزء كبير من الصناعة على الملكية الفكرية الأميركية، لكنها تخلت منذ فترة طويلة عن ريادتها التصنيعية لصالح الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وأماكن أخرى، وتحاول الآن استعادة قوتها عبر إقرار منح إعانات بعشرات المليارات من الدولارات لمساعدة الشركات على تصنيع الرقائق في الولايات المتحدة، والهدف الأهم هنا منع تلك الشركات بعد ذلك من تصنيع أصغر أنواع أشباه الموصلات وأكثرها تقدماً في الصين.
الصناعة الوطنية
تعتمد القُدرة على استخدام تلك الأسلحة على دور الولايات المتحدة البارز في التجارة العالمية، وتحكمها في العملة الأولى بالاحتياطيات النقدية عالمياً، كما تتمتع بالاكتفاء الذاتي والمستقل اقتصادياً أكثر من معظم أقرانها حول العالم.
توسعت أدوات الإدارة الاقتصادية للدولة في الولايات المتحدة لتشمل ضوابط التصدير، ومراجعات الاستثمار الأجنبي وقيود الملكية الفكرية والحرمان من بلوغ الشبكات المالية الرئيسية، كما استخدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة سياسة التصنيع المحلي والتعريفات الجمركية والصفقات التجارية وتخفيف الديون.
قالت فريدلاندر: "أنت في بيئة أصبح فيها هدفك معقداً للغاية أو شديد الأهمية ليُحسم عسكرياً، خاصة مع رفض الرأي العام في البلاد لذلك، ما جعلنا نشهد تطور أدوات تنظيمية أعقد من أي وقت مضى".
مخاطر الحرب الاقتصادية
كما أن الحرب الاقتصادية محفوفة بالمخاطر، فالولايات المتحدة ليست اقتصاداً يدار عبر الأوامر، لذا يتعين أن تعتمد الحكومة على مجموعة من الجزرات والعصي لتوجه المؤسسات التجارية الفاعلة لتفعل ما تريده، ومثل تلك الإجراءات لا تخلو من تكلفة، كما أن محاصرة المنافسين قد تُقوض السلام والاستقرار في نهاية المطاف.
قال ديل كوبلاند، الأستاذ في جامعة فيرجينيا الذي درس الربط بين الاقتصاد والحرب، إنه عندما تكون توقعات بلد ما للفرص التجارية المستقبلية إيجابية، فإنها تميل للتعاون مع الآخرين بشكل جيد، لكن عندما تتحول تلك التوقعات إلى سلبية يزداد خطر الصراع. يشير إلى مثال من التاريخ متعلق بالأوضاع في اليابان قبل الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تخضع لحصار قبل أن تهاجم الولايات المتحدة في بيرل هاربور في 1941.
قوة صينية
يختلف بالتأكيد دور الصين في الاقتصاد العالمي عن دور روسيا إلى حد كبير. قالت فريدلاندر: "لم نتمكن من أن نفعل حيال الصين نصف ما فعلناه مع روسيا لأننا مرتبطون بشدة بالاقتصاد الصيني فالتبعية متبادلة، لذلك سيفوق الأمر من جوانب كثيرة طلقة في الصدر في حال تطبيق أية إجراءات صارمة كالتي اتخذناها ضد روسيا".
كما أن ضرب الاقتصاد الصيني بشدة قد يأتي بنتائج عكسية عبر زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي ككل أو دفع البلدان نحو الحرب بدلاً من تفاديها.
قال دريزنر من جامعة تافتس: "لم يفكر معظم خبراء العقوبات بالتداعيات لأننا لم نتحدث أبداً عن فرض عقوبات على بلد له آثار شاملة على الاقتصاد العالمي".