بلومبرغ
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه غاري هارمون فيما كان مستلقياً في حوض استحمام تملؤه الأوراق النقدية محاطاً بنسوة بالكاد كاسيات، لكن تلك اللحظة التي التُقطت على هاتفه قد تكون من عوامل دماره. يعتبر المدعون العامون في الولايات المتحدة هذا دليل إثراء مفاجئ.
اتهم المدعون هارمون بارتكاب جريمة غريبة وهي سحب عملة "بتكوين" مُخزنة على جهاز الكمبيوتر عن بُعد بعدما صادرتها الحكومة في قضية أخرى ضد شقيقه الأكبر لاري. راقبت السلطات مكتوفة الأيدي هارمون ينقل الرموز الرقمية، حيث نقل 713 رمزاً رقمياً كانت قيمتها حينئذ 5 ملايين دولار من جهاز تخزين كانوا يحتفظون به في خزائن الأدلة.
أقسم لاري هارمون، الذي اعترف منذئذ بأنه ضالع بغسل 311 مليون دولار في تعاملات تشفير، مراراً أنه لم يكن له دور في اختفاء الرموز الرقمية كما اتهم الرجل الذي بلغ عمره 39 عاماً أخاه غاري، 30 عاماً، وساعد السلطات بالقبض عليه. ينتظر غاري محاكمته وهو الآن محجوز في السجن الفيدرالي في واشنطن العاصمة، بينما لاري طليق بكفالة قرب مدينة أكرون. تُظهر قضايا الأخوين هارمون كيف نجحت مصلحة الضرائب ومكتب التحقيقات الفيدرالي بجمع الأدلة ولكن السلطتين ما تزالان تواجهان تحديات على جبهة "بلوكتشين". كان على السلطات تتبع النقود الرقمية التي تتحرك عبر مجموعة متشابكة من الحسابات المجهولة للربط ما بينها وبين لاري. واجهت السلطات مشكلة عندما حاولت السيطرة على هذه الحسابات، فكيف يمكن السيطرة على "بتكوين"، وهو من الأصول سريعة التناقل كما الزئبق؟
كان اعتقال لاري في فبراير 2020 علامة فارقة لدى سلطات الإنفاذ المتخصصة بالتشفير. فضلاً عن المبالغ المالية الكبيرة المعنية، كانت هذه هي المرة الأولى التي يُتّهم فيها أي شخص بارتكاب جرائم تتعلق بـ"الخلط"، وهي ممارسة تصعّب بشدة تتبع التعاملات عبر خلط رموز مميزة من مالكين مختلفين. أنشأ لاري محرك بحث يُسمّى "غرامز" (Grams) في 2014 فساعد مستخدميه على تصفح "الإنترنت المظلم" بحثاً عن المخدرات والأسلحة وخدمات القرصنة. كما مكّنهم من الدفع عبر خدمة خلط يديرها تُسمّى "هيليكس" (Helix)، حيث يكسب لاري 2.5% من قيمة كل معاملة. قال مؤيدو "الخلط" في عالم التشفير إنه يعزز الخصوصية. وصف لاري، المُسمّى على الإنترنت "غرامز أدمين" (gramsadmin)، خدمة "هيليكس" بأنها وسيلة لمنع سلطات إنفاذ القانون من تتبع "بتكوين" مشبوهة المصدر.
تعاملات في الظلام
ازدهرت هذه الخدمة، وبدأ موقع "ألفا باي" (AlphaBay) في نهاية 2016 حين كان أكبر سوق على الإنترنت المظلم بتوجيه عملائه نحو خدمة "هيليكس". كانت السلطات الأميركية تراقب الأمر، فنقل عميل سري في مكتب التحقيقات الفيدرالي "بتكوين" من "ألفا باي" إلى "هيليكس" وأنشأ رابطاً بينهما. أغلقت الولايات المتحدة موقع "ألفا باي" في يوليو 2017، واصفة إياه بأنه مصدر رئيسي للهيروين والفنتانيل. لم تكن السلطات قد توصلت بعد لمن يدير خدمة "هيليكس". أغلق لاري خدمة الخلط بعد ذلك بأشهر بعدما أجرى 356,000 معاملة "بتكوين". طوّر لاري تطبيق "دروب بيت" (Dropbit) بشكل علني، وهو تطبيق روّج له باعتباره مشابهاً لتطبيق "فينمو" (Venmo) يتخصص بالتشفير لإجراء تحويلات بين المستخدمين. كان لاري دؤوباً في ترويجه لـ"بتكوين" ولشركته "كوين نينجا" (Coin Ninja). عرض لاري في مقطع فيديو على "تويتر" في 2019 قبعة وقميص وجوارب "بتكوين" الخاصة به.
حددت الولايات المتحدة عملية للتعرف على مُشغّل خدمة "هيليكس" عندما انضم عملاء جنائيون من مصلحة الضرائب الأميركية إلى القضية. تُنفّذ معاملات "بتكوين" على "بلوكتشين"، وهي قاعدة بيانات على الإنترنت يمكن للعموم الاطلاع عليها. تنتقل العملات المعدنية بين حسابات بدون أسماء، وهي مجرد سلاسل طويلة من الأحرف والأرقام العشوائية. قد تبدو معاملات التشفير خالية من البصمات التعريفية لكن غالباً ما يمكن تعقبها حين يحاول أفراد تحويل العملات إلى نقود. هنا اقترف لاري بعض الأخطاء. درس العملاء آلاف معاملات خدمة "هيليكس" من خلال العمل مع شركة "تشيناليسيس" (Chainalysis)، وهي شركة تحليلات "بلوكتشين"، وطلبوا رسمياً رسائل البريد الإلكتروني ليجدوا في النهاية أن إحداها تضمّنت موقعاً إلكترونياً يتيح للمستخدمين شراء بطاقات الهدايا باستخدام "بلوكتشين". استُخدم بريد إلكتروني مرتبط بلاري لفتح الحساب، على حد قول شخص مطلع على الأمر لم يكن مخولاً لمناقشة القضية علناً.
تحرٍّ وتحقيق
رسم عملاء إنفاذ القانون تصوراً مفصلاً لتعاملات لاري المالية، ووجدوا صورة التقطتها "غوغل غلاس" (Google Glass) بعد مراجعة حساباته السحابية، لشاشة كمبيوتر تعرض الصفحة المسؤولة عن خدمة "هيليكس". أوقف العملاء لاري في مكتبه في مدينة أكرون في مطلع 2020، حيث وجدوا أيضاً جهاز تخزين تشفير "تريزور" (Trezor)، وهو ملحق صغير يوصل بالكمبيوتر ويشبه إلى حد ما مشغل ملفات الصوت (MP3).
كان غاري يسكن في شقة قبالة المكتب. تحدث إلى العملاء في ذلك الصباح وحضر جلسة استماع أقنع خلالها المدعون القاضي بأن هروب لاري مرجح وبضرورة أن يظل محتجزاً. نُقل لاري إلى سجن في واشنطن، لكن محاميه سعوا للإفراج عنه بكفالة بعد انتشار فيروس "كوفيد-19". كانت رسالة من غاري بين الرسائل الداعمة لطلبه، حيث استفاض شارحاً تأثير لاري الإيجابي على حياته، قائلاً إن شقيقه الأكبر قد منحه وظيفة وعلّمه البرمجة و"جعلني حقاً شخصاً أفضل".
قال مساعد المدعي العام الأميركي كريستوفر براون، في جلسة استماع طلب الكفالة في 13 مارس 2020 إن لاري لديه "عشرات الملايين من الدولارات" من الأصول المشفرة التي كانت عائدات غير قانونية. لم يتمكن العملاء من الوصول إليها من خلال جهاز التخزين الموجود في مكتبه، لأنه لم يكن لديهم عبارات المرور الصحيحة لفتحها. لكنهم تمكنوا من رؤية أن العناوين التي تتبعوها وتعود إلى لاري تتحكم في الأموال، وذلك من خلال البحث في "بلوكتشين" عبر الإنترنت.
تحتوي محافظ تشفير الأجهزة على المفاتيح الخاصة للتشفير، وهي سلاسل طويلة من الأرقام والحروف تسمح لأي شخص متصل بالإنترنت باستخدام عنوان "بلوكتشين" لإجراء معاملات. يمكن لمحافظ أجهزة "تريزور" إنشاء "عبارة أولية"، كنسخة احتياطية، وهي عبارة عن مجموعة مكوّنة من 24 كلمة يمكنها إعادة إنشاء هذه المفاتيح الخاصة على جهاز آخر. بإمكان أي شخص يعرف الكلمات السحرية ورقم التعريف الشخصي الإضافي التحكم في "بلوكتشين". لا يمثّل فصل جهاز المحفظة وإغلاقه فعلياً أي حماية. حذّر براون من أن لاري قد يأخذ عملة "بتكوين" عن بُعد وأن الحكومة ستكون عاجزة عن إيقافه. قال براون في المحكمة: "ستكون العملة متاحة له أو لأفراد عائلته للتحويل إلى أن نتمكن من تأمينها وتحويلها إلى محفظة حكومية". أطلقت قاضية المحكمة الجزئية الأميركية بيريل هاول سراح لاري بكفالة على أي حال.
غضب القاضية
اكتشف عملاء مصلحة الضرائب الأميركية أن "بتكوين" قد نُقلت من العناوين التي يعرفونها خلال ستة أيام في أبريل 2020. عاد المدعون إلى المحكمة حيث قالت هاول إنها كانت "متشككة للغاية" في أن الجريمة حدثت دون علم لاري وتوجيهه. سألته القاضية: "أتفهم ذلك؟" قال لاري: "نعم، أنا أعلم". صاحت به القاضية: "لا تحاول أن تتظاهر باللطف معي".
أمرت هاول لاري أن يسلم جميع كلمات المرور الخاصة به حتى يتمكن العملاء من تحويل 4164 "بتكوين" متبقية قيمتها 40 مليون دولار إلى محفظة آمنة. سلّم لاري كلمات المرور وتوقفت السرقات. لكنه واصل إنكار أي دور له في هذه المؤامرة، لكن إذا لم يكن لاري، فمن كان؟
أخبر لاري في غضون شهر المدعين العامين أن غاري هو الجاني، كما فعل المخبر. استغرق المدعون العامون 15 شهراً إضافياً لإقناع لاري بالاعتراف بالتهمة في جريمة غسل الأموال والموافقة على تقديم أدلة ضد غاري ومُشغّلي الإنترنت المظلم. يواجه لاري ما يصل إلى 20 عاماً في السجن، لكن تعاونه مع المدعين العامين قد يقلل من مدة عقوبته. كما فرضت عليه وزارة الخزانة الأميركية غرامة مدنية قدرها 60 مليون دولار.
بدأ العملاء الفيدراليون قضيتهم ضد غاري، وقد أبلغهم مُخبرٌ أن غاري كان قد طلب نصيحته بشأن خدمات المقامرة بـ"بتكوين"، كما تظهر السجلات. اعتقد المصدر أن غاري أراد استخدامها لخلط "بتكوين" التي أخذها من لاري، وقال المخبر إن غاري "ليس ذكياً ولم يفكر في العواقب على أخيه" قبل أن ينقل "بتكوين".
عثر العملاء في وقت لاحق على أربع رسائل بريد إلكتروني أُرسلت إلى حساب غاري على "جيميل" من no-reply@trezor.io ، ما يؤشر لإعادة إنشاء المحافظ على أجهزة أخرى. أنكر غاري أخذه "بتكوين". تساءل غاري في استجواب في يوليو 2020: "إن كنت قد أخذتها فلمَ لم آخذها كلها؟" قال محاميه أخيراً للمحكمة: "ليست مشكلة المدّعى عليه أن الحكومة لا تستطيع مواكبة التقنية الخاصة بها".
قالت الحكومة إن العملاء تعقّبوا 519 "بتكوين" مسروقة من خلال عمليتي خلط. برغم أن الاختلاط يخفي أين ذهبت الأموال، إلا أن المدعين يقولون إن المعاملات تتوافق مع "تحوّل جذري" في الشؤون المالية لغاري. أضاف المدعون أن غاري أودع 68 "بتكوين" في شركة "بلوك فاي" (BlockFi) المالية، التي تتيح للناس الاقتراض مقابل عملاتهم المعدنية. استخدم غاري معظم عملاته لاقتراض 1.2 مليون دولار. قال ممثلو الادعاء إن بعض هذه الأموال ذهبت لشراء شقة فاخرة في كليفلاند. ثم كانت هناك صورة على هاتفه، مدرجة في ملفات المحكمة الحكومية، لحوض الاستحمام الذي يحتوي على الأوراق النقدية.
قُبض على غاري في يوليو 2021 بتهمة غسل الأموال وجرائم أخرى وطلب الإفراج عنه بكفالة مثل أخيه. قال المدعون إنه يجب على غاري تسليم عبارات "بتكوين" الأولية للحصول على الإفراج بكفالة. قال محاميه إن هذا الشرط سيجبره على الاعتراف بجرائم، وهو ما ينتهك حقه وفق التعديل الخامس للدستور الذي يقي ضد تجريم الذات.
قال المدعي العام براون، في جلسة الاستماع في يوليو، إن غاري رفض عرضين لتخفيف التهمة مقابل التعاون وأن محاكمته ستكون في فبراير.