بلومبرغ
بدأ كريستوفر بوغس يدخّن الحشيشة في سنّ المراهقة ثم انتقل إلى الكوكايين، لكنَّه استقر أخيراً على المواد الأفيونية فتمكن من اجتياز اختبار المخدرات الذي يجريه مصنع السيارات حيث كان يعمل. بدا الرجل أشبه بصيدلي متمرّس فيما راح يشرح عن برنامج المخدرات الذي أعدّه لنفسه، فيستذكر كيف كان يتعاطى "أي نوع من المواد الأفيونية يمكنه الحصول عليها، من الأوكسيكودون والهيدرومورفين إلى الأوكس مورفون ولصقات الفنتانيل... كلّ شيء. فقد كانت رخيصة الثمن ومتوفرة وجاهزة".
أمضى الرجل الذي بلغ أوسط العقد الخامس من عمره كلّ حياته في مدينة دايتون التي تحولت فيها الجرعات الزائدة من المخدرات إلى وباء، وأضحت واجهة لأزمة الأفيون في الولايات المتحدة. خضع بوغس لإعادة التأهيل وكان قد تخلّص من إدمانه في 2020 حين اجتاح وباء كورونا العالم، فخسر وظيفته ثمّ اضطر للاعتناء بأحد أقاربه المرضى.
رفع الرجل يده إلى رأسه المحلوق ليدلكه، قائلاً: "لست أدري... لقد انتكست مجدداً".
نصحه أحد أصدقائه بمنشأة علاجية جديدة في المدينة تحمل اسم "ون فيفتين" التي وعدت بتبني نهج ذي توجه مستقبلي في علاج الإدمان. خلال الفترة التي قضاها في المركز، كان بوغس يستيقظ كلّ يوم في سرير من طابقين، ويتجه إلى الدور السفلي عند الثامنة صباحاً لحضور اجتماع مع أفراد الطاقم والحديث عن الأهداف التي يرغب في تحقيقها خلال اليوم. كما كان يشارك بعد الظهر في لقاء جماعي للتحدث عن "المهارات الحياتية اليومية" حيث كان يُطرح على الجميع السؤال نفسه: "أي مهارات من التأقلم استخدمتها اليوم؟" كان بوغس يستمتع بذلك.
أخبرهم عن كلّ شيء، من الحبوب التي كان يتناولها إلى حقن المخدرات التي تعاطها، وحتى سجلاته الطبية. ومن هناك، حُوّلت المعلومات إلى قاعدة بيانات تستخدمها شركة "فيريلي لايف ساينسز" (Verily Life Sciences) التابعة لشركة "ألفابيت" مالكة "غوغل".
أسست "فيريلي" منشأة "ون فيفتين" في 2019 لتقدم ما تصفه بنهج "ممكَّن تقنياً" لمعالجة الإدمان على المخدرات، ممهدة لأكبر تدخلات وادي السيليكون في الوباء الأفيوني الأميركي. تجمع "فيرلي" معلومات إضافية تقوم بإدخالها إلى برنامجها الالكتروني المتطور كلما قدّمت خدماتها لمريض جديد لتبني ما يفترض أن تشكّل استراتيجيات علاجية جديدة، وهي مصممّة لتتناسب مع كلّ فرد. تأمل الشركة أن تسهم في إحداث ثورة في طريقة علاج الإدمان على المخدرات.
مشروع طموح
"فيريلي"؛ هي إحدى المشاريع الطموحة طويلة الأمد التي أطلقتها "غوغل" مع كثير من الضجة، وتهدف لتطوير تقنيات تحدث تحوّلات في المجتمع ولإنشاء أنشطة أعمال تقدّر قيمتها بمئات مليارات الدولارات. لكن مثل غيرها من المشاريع الطموحة التي أطلقتها الشركة، لم يتضح بعد ما إذا بإمكان "فيريلي" أن تحقق النجاح سواء على الصعيد التقني أو التجاري. إذ سبق أن تعرّض المشروع لانتقادات بسبب قفزاته من برنامج رعاية صحية رائج إلى آخر، وتضخيمه لقدراته العلمية السحرية، في حين ما تزال نتائجه محدودة. أعلنت "فيريلي" في 9 سبتمبر أنَّها ستحصل على مبلغ مليار دولار إضافي من شركتها الأم، فيما استبدلت رئيسها التنفيذي الخبير الجيني أندي كونراد، بمدير المشاريع ستيفن جيليت، المسؤول صاحب الخبرة بالأمن السيبراني في "بيست باي" (Best Buy) و"ستاربكس".
أصبحت الولايات المتحدة بحاجة ماسة لتبني فكر ثوري لمعالجة وباء المخدرات المتفشي فيها. فقد استلهمت "ون فيفتين" نفسها اسمها من إحصائية محبطة مفادها أنَّه في كلّ يوم من 2016 توفي وسطياً 115 أميركياً نتيجة تعاطي جرعة زائدة من المخدرات. ارتفع الرقم منذ ذلك إلى 300 في اليوم. أعلن "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" أنَّ أكثر من 107 آلاف أميركي قضوا بجرعة زائدة من الأفيون في 2021، بارتفاع 15% عن السنة السابقة. تقدر شركة "ميليمان" (Milliman) الاستشارية في مجال الرعاية الصحية الخسارة الاقتصادية التي تكبّدها الاقتصاد الأميركي بسبب الإدمان على المواد الأفيونية بنحو 631 مليار دولار بين 2015 و2018. كان أقل من 7% فقط من الأميركيين الذي يعانون من الإدمان، المقدّر عددهم بعشرين مليون حتى 2020 قد سعوا للحصول على علاج في العام الذي سبق، بحسب استطلاعات صحية على المستوى الوطني. كما أنَّ واحداً من كل 5 أميركيين شُخصت إصابتهم باضطراب تعاطي المواد الأفيونية يتناولون أدوية معالجة إدمان مرخصة من إدارة الغذاء والدواء.
ويشار إلى أنَّ هذه الأدوية تخضع لإجراءات ناظمة مشددة، وقد يصعب الحصول عليها. كما أنَّ الإنفاق على الجزء المتبقي من الإجراءات العلاجية، بما فيه رعاية نزلاء المستشفيات، ما يزال بعيداً كلّ البعد عن المرجو. لقد اتسعت هذه الفجوة أكثر في فترة الوباء.
قالت مارتي تايلر، رئيسة "ون فيفتين" وكبيرة تنفيذييها، إنَّه كان يصعب تاريخياً الحصول على تمويل لمعالجة الأمراض النفسية، بما في ذلك علاج الإدمان، مضيفة أنَّ "الصحة النفسية أشبه بالفرد المنبوذ في العائلة".
قدّمت "ون فيفتين" في السنوات الأولى خدمات علاجية لحوالي 5200 مريض، وهي تتفاخر بنسب الرضا التي نالتها وبنسب التزام المرضى بإتمام العلاج أو الدواء بما يتجاوز بأشواط النسب السائدة في القطاع. تصف "فيريلي" العيادة بالمشروع طويل المدى وتقول إنَّها ستساعد دايتون، فيما تقدّم نموذجاً يمكن محاكاته في أماكن أخرى.
تأمل نان وهالي، عمدة دايتون السابقة ومرشحة الحزب الديمقراطي الحالية لمنصب حاكمة أوهايو أن تتحول المنشأة إلى نظير لـ"كليفلاند كلينيك" في مجال علاج الإدمان على المواد الأفيونية. لدى سؤالها عمّا تظن أنَّ "فيريلي" تسعى للحصول عليه في المقابل، عكست إجابتها الجريئة فهمها الواضح لطريقة عمل مشاريع "غوغل"، إذ قالت: "يريدون الاطلاع على البيانات".
عاصمة الجرعات الزائدة
تقع دايتون على مسافة 112 كيلومتراً غرب كولومبوس عاصمة الولاية، وتعدّ واحدة من المدن التقليدية متوسطة الحجم في الغرب الأوسط الأميركي. كانت المدينة تضمّ في الماضي صناعة سيارات مزدهرة، إلا أنَّ القطاع انهار في منتصف التسعينيات، تاركاً مجموعة من عمال الطبقة الكادحة دون أن يجدوا إلا قلّة قليلة من الوظائف، في وقت كانت مسكنات الألم التي تصرف بوصفة طبية تجتاح ولايات الوسط الأميركي.
لاحظ الرائد في شرطة مدينة دايتون براين جونز بدء التغيير في المدينة في حوالي عام 2014، حين كان يقوم بدورية في الناحية الشرقية في ظلّ تصاعد حاد بجرائم السطو على السيارات والسرقة. مرّ جونز الذي يخدم في شرطة المدينة منذ 1992 قرب عشرات السكان الذين كانوا يترنحون في الشارع ذهاباً وإياباً منتشين أو متحرقين للحصول على المخدرات. قال: "لم يسبق لي أن رأيت مثل ذلك المشهد في حياتي".
في البداية، حصل العديد من السكان على الحبوب من أطباء مشبوهين. بعدما أغلقت السلطات العيادات المشبوهة، دخلت عصابات المخدرات على الخط، فأغرقت دايتون بالهروين والفينتانيل، وهي مادة أفيونية صناعية ذات تأثير أكبر من المورفين. كان الكوكايين وغيره من المخدرات في كثير من الأحيان ممزوجاً بالفينتانيل ذي التأثير الإدماني الهائل والذي يطلق عليه بعض السكان المحليين تسمية "النار".
سجلت دايتون، التي تضمّ 141 ألف نسمة، 378 حالة وفاة بجرعات زائدة من المخدرات في الأشهر الستة الأولى من 2017. كانت المستشفيات تفرغ من الأدوية في معظم الأيام بحلول التاسعة صباحاً، وكانت المدينة تضطر للاستعانة بسيارات إسعاف من البلدة المجاورة، وبعدما تستنزفها جميعاً، وكانت تستعين بسيارات إسعاف من البلدة التالية. بدأ المسعفون بحمل الرذاذ الأنفي "ناركان" المستخدم في علاج الجرعات الزائدة من المخدرات معهم، وقد وضعته عناصر الشرطة على عتبات المنازل، فيما ركّب مسؤولو المدينة جعب رذاذ "ناركان" على جدران داخل المطاعم والفنادق.
تدير جان ليبور- جينتلسون المنظمة غير الربحية المحلية "إيست أند لخدمات المجتمع" (East End Community Services) التي تركز جلّ اهتمامها على الحدّ من وباء الإدمان وتداعياته. تتذكر كيف وقف الأطفال في سنّ الحضانة خلف سياج ملعبهم في أحد الأيام يشاهدون أكياس الجثث تُنقل من منزل في الجهة المقابلة من الشارع. قالت: "كان الناس يموتون من حولنا، كان ذلك أسوأ وقت مرّ علينا".
بحلول 2017، نالت دايتون لقباً مأساوياً، ألا وهو عاصمة الجرعات الزائدة في الولايات المتحدة، ومعه بدأت المدينة تجذب الاهتمام وتدفقت إليها الأموال.
نشأت عشرات عيادات إعادة التأهيل والمنازل الانتقالية للأشخاص الذين يتعالجون من الإدمان بين ليلة وضحاها، وذلك بدعم من توسيع أوهايو لبرنامج التأمين الصحي (ميديكايد). بدأت المستشفيات تعير الأمر مزيداً من الاهتمام، وكذلك فعلت الفرق الإخبارية الوطنية إلى جانب فريق إعداد وثائقيات بقيادة الممثل بيتر سارسغارد، وأخيراً أتت "فيريلي".
تذكر ليبور- جينتلسون كيف راح الناس يتساءلون: "غوغل حقاً؟ ما الذي يجري هنا؟"
ترحيب المسؤولين
سعت "فيريلي" في بداياتها، في حوالي عام 2014، لإطلاق مشاريع طموحة مثل عدسات لاصقة لمراقبة الغلوكوز مخصصة للمصابين بداء السكري، فضلاً عن مشروع لتعديل البعوض من أجل التصدي لانتشار الملاريا، إلى جانب دراسة شاملة للصحة الشخصية تسعى للحدّ من مخاطر الإصابة بالسكري وأمراض القلب.
تقول جسيكا ماغا، كبيرة المسؤولين الطبيين والعلميين في "فيريلي" إنَّ الشركة سرعان ما أدركت أنَّها كي تحقق هدفها في معالجة التحديات الصحية العصيّة كان عليها مواجهة الوباء الأفيوني. أضافت: "يكاد يستحيل تجاهله".
قامت الخطة الأولية على إنشاء إطار للرعاية الصحية يرتكز إلى تقديم رعاية شاملة تستهدف مرضاً واحداً محدداً، على أن يكون هذا الإطار متجذراً في تحليلات البيانات العميقة. بعدما أعلنت العمدة وهالي حالة طوارئ صحة عامة في دايتون، وأنشأت برنامجاً لاستبدال المحاقن، أقنعها المسؤولون التنفيذيون في "فيريلي" بفكرة "ون فيفتين". أبلغوها أنَّ العيادة ستكون متطورة، وستتمكّن في نهاية المطاف من توقُّع متى قد ينتكس متعاطو المواد الأفيونية بطريقة مشابهة لما تقوم به أنظمة تعلم الآلة التي تعتمدها الشركة لكشف اعتلال الشبكية بالسكري وغيره من الأمراض. كان هذا النوع من العلوم في مجال معالجة الإدمان على المخدرات ما يزال محصوراً بالدوريات العلمية والمنشآت البحثية الضخمة.
لم يكن إقناع وهالي صعباً، فقد أسست "فيريلي" منشأة "ون فيفتين" كمؤسسة لا تسعى نحو الربح، وحصلت على دعم مالي من المستشفيين المحليين "برميير هيلث" (Premier Health) و"كيتيرينغ هيلث" (Kettering Health)، ثمّ وظفت تايلر التي كانت تدير مركز "ويكسنير" الطبي التابع لجامعة أوهايو، الذي يعدّ من أضخم شبكات المشافي في البلاد. كان السياسيون في أوهايو متلهفين للإلقاء بمزيد من المسؤوليات عليها وعلى خوارزميات "غوغل". قال عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري روب بورتمان، في احتفال قص الشريط، إنَّ المنشأة "ستكون بالغة الأهمية للمجتمع"، مضيفاً أنَّها ستقدم أيضاً "نموذجاً وطريقة لجمع البيانات والقيام بالتحليلات، وما يُسمّى بابتكار الخوارزميات لتحقيق تعافٍ أفضل".
افتتحت تايلر منشأة "ون فيفتين" جنوب غرب وسط مدينة دايتون، على مساحة هكتارين من الأراضي الشاغرة التي كانت تضمّ في الماضي مصنعاً للمعدات والقوالب قبل ستة أسابيع من بدء فرض الحظر لكبح وباء كورونا. تحوّل المكان اليوم إلى منشأة سكنية تكسوها الألواح الخشبية، وتنتشر فيها "الكنبات" الأنيقة، وغرف مشاهدة التلفزيون، والمواقد الصناعية، ويقيم فيها مرضى مثل بوغس، وتتسع إلى 58 مريضاً. تقع في جوارها وحدة الأزمات التي تضمّ 32 سريراً، إذ يعمل فريق تمريض على مدار الساعة. يحيط بالمباني مرج عشبي تتخلله بعض الشجيرات. ليس المكان منشأة فاخرة للتخلص من السموم في الجسم، لكنَّه مريح بالمقارنة مع المنشآت العلاجية الأخرى. قالت تايلر في حين بدأت باستعراض غرفة رعاية الأطفال الفسيحة: "الكثير من تلك المنشآت الأخرى تقع في قبو كنيسة أو ما إلى ذلك".
فنّ أكثر من علم
يتعين على كلّ مريض جديد في "ون فيفتين" أن يملأ استبياناً عيادياً، ويقدم تقريراً يومياً عن مزاجه وشهواته.
تستخدم المنشأة "تدخلات مستندة إلى أدلة" تتضمن إرشاداً سلوكياً وأدوية. فقد وصفت العيادة دواءين حاصلين على ترخيص إدارة الغذاء والدواء، "بوبرينورفين" و"نالتريكسون" لمعالجة الإدمان على الأفيونيات، كما اعتمدت بعض الأدوية المرخصة لعلاج أمراض أخرى، واستخدمتها في معالجة الإدمان على الميثامفيتامين الذي يتزايد الإدمان عليه في دايتون. تقول "فيريلي" إنَّها لا تعمل مع مصنّعي هذه الأدوية.
كانت "ون فيفتين" واحدة من أولى العيادات في دايتون التي قدّمت رعاية "قليلة التشدد" للعناية بالمدمنين، وهي استراتيجية مكلفة تتضمن تأمين مساكن مؤقتة للمرضى دون إخضاعهم لمراقبة مشددة، والعمل على تأمين وظائف لهم ومساكن دائمة. تتبع المنشأة نهجاً متحرراً، حيث يُسمح للمرضى بالتجول كل اليوم، على عكس المنشآت الأخرى، إذ إنَّ حركة المرضى مقيّدة أكثر. يضمّ طاقم العمل "داعمين من الأقران"؛ وهم مرشدون في طور التعافي. تضمّ "فيريلي" أكثر من 40 موظفاً يعملون على مشروع "ون فيفتين"، بينهم تايلور إلى جانب نتالي ليستر، الطبيبة النفسية التي تشغل منصب كبيرة المسؤولين الطبيين في العيادة. يركز معظم عمل "فيريلي" على تطوير تطبيق للمرضى الخارجيين وخدمات تقنية لبقية أفراد طاقم العيادة الذين يُوظفون عبر منظمة صحية غير ربحية.
جاء عدد المرضى أقل من المتوقَّع في السنة الأولى، مما عرقل مساعي "فيريلي" لجمع ما يكفي من البيانات لإجراء التحليلات التي تشكل أساس استراتيجيتها. لكن في نهاية المطاف، مع رفع الحظر الناجم عن الوباء؛ بدأ المرضى يصلون إلى العيادة. ما يزال يتعين على "ون فيفتين" أن تطبق نماذج تعلّم الآلة التي تتبناها بهدف توقُّع الانتكاسات وتحليل الظروف، وهو ما كانت تهدف إليه "فيريلي" في الأساس. لكنَّ العيادة لم تستقبل ما يكفي من المرضى لتحقيق ذلك.
وافقت إدارة الغذاء والدواء أخيراً على علاجات طبية عبر الانترنت، أو ما يعرف بـ"العلاجات الرقمية"، بينها تطبيق الهاتف النقال (ReSET-O) الذي طرحته شركة "بير ثيرابوتيك" (Pear Therapeutics)، وهو يستهدف المرضى الخاضعين للعلاج من الإدمان على المواد الأفيونية. تدرس الشركة أيضاً احتمال تطوير جهاز يمكن ارتداؤه كما يستطيع اكتشاف اشتداد الحاجة للمخدرات بهدوء. لكنَّها تقول إنَّها لا تخطط لطرح مثل هذا الجهاز حالياً. وحين سأل مراسل أحد أفراد طاقم العيادة من "الداعمين الأقران" عن الإشارات التي تدلّ على أنَّ المريض قد يصاب بانتكاسة، قالوا إنَّها تتضمن إصابته بصعوبات في النوم وعودته لمصاحبة أصدقائه القدامى، أو تصرفه بـ"تكبر" حيال حاجته للتعافي. تقول ليستر إنَّه يصعب تحديد ما إذا كان شخص ما يشعر برغبة ملحة للتعاطي. أضافت: "حالياً، الطريقة الفضلى أمامنا هي أن نسأل المريض إنْ كان سعيداً"، واصفة طبّ الإدمان على أنَّه "فنّ أكثر من كونه علماً".
برغم أنَّ العاملين في مجال الرعاية الصحية يتوقون لمزيد من الجدية والموارد في علاج الإدمان، لكنَّهم يبدون قلقهم حيال الأساليب التي تستخدمها شركات التقنية، والتي تهدف إلى تحقيق مصالحها الخاصة. قال جي. كاليب الكسندر، خبير الأوبئة في كلية "جون هوبكينز بلومبرغ للصحة العامة" المتخصص بالأدوية التي تصرف بوصفة طبية: "لا يمكنك التخلص من وباء من خلال البرمجة، لا يوجد ما يكفي من التقنيات القادرة على أن تحلّ مكان العلاقات البشرية".
تقنية غير مبهرة
في آخر مرّة حاولت "فيريلي" معالجة أزمة صحية كبرى، لم تبلغ مرحلة شكّل فيها الابتكار التقني عاملاً مهماً. أربك الرئيس دونالد ترمب الأميركيين وشركة "غوغل" نفسها في مارس 2020 حين وعد بتوفير اختبارات كورونا على امتداد البلاد عبر "غوغل". على الأرجح كان يعني "فيريلي"، برغم أنَّ ذلك لم يتضح تماماً. على كلّ حال، سارعت "فيريلي" لإنشاء مراكز لإجراء اختبارات، وأنفقت كاليفورنيا 62.5 مليون دولار على التعاقد معها لإدارة مواقع اختبارات في 28 مقاطعة، بالأخص لاستهداف المجتمعات الفقيرة. لكن بعد سبعة أشهر، تخلّت مقاطعتان من الأكثر اكتظاظاً عن علاقتهما مع "فيريلي"، وقد بررتا ذلك بمخاوف حيال الخصوصية، بعدما طُلب من الخاضعين لاختبارات أن يسجلوا دخولهم عبر حسابات "جي ميل". فسخت الولاية العقد برمته في غضون سنة.
أصرّت ميغا، كبيرة المسؤولين الطبيين في "فيريلي" على اعتبار البرنامج ناجحاً، وعزت ذلك في المقام الأول إلى تمكن "فيريلي" من مشاركة "المعارف والرؤى" التي استخلصتها من أجل إرشاد الجهات الأخرى التي تجري اختبارات، مشيرة إلى أنَّ "ون فيفتين" ستقوم بالأمر نفسه على صعيد معالجة الإدمان. لدى سؤال ميغا عن نماذج من العمل الذي قاموا به في سياق كورونا، قالت إنَّ "فيريلي" طوّرت إرشادات فعّالة لتبليغ المسؤولين العامين بالنتائج، وطبعت لافتات كي يقرأها الناس في مواقع الاختبارات.
لا تبدو التقنية التي تستخدمها "ون فيفتين" مبهرة حتى الآن، إذ ينصب جلّ تركيزها على تحديث أنظمة لحفظ السجلات وإدارة المرضى. يصرّ المديرون التنفيذيون في مجال الرعاية الصحية على أنَّ سوء التواصل بين قواعد البيانات ما يزال المشكلة الأكثر إزعاجاً في القطاع، وأنَّ معالجتها، ولو بدت أمراً بسيطاً، تمثل خطوة كبيرة إلى الأمام. قالت لايني دين، المسؤولة التنفيذية في شبكة مستشفيات "برميير هيلث"، والعضوة في مجلس إدارة "ون فيفتين" إنَّ "المشكلة في البيانات". فيما رأت دانيال شلوسير، المسؤولة التنفيذية السابقة في "فيريلي" التي عملت في "ون فيفتين" قبل أن تترك الشركة في 2021 أنَّ مجرد تعويد طاقم العيادة على استخدام الأجهزة اللوحية وتسيير العمل عبر الانترنت كان بحد ذاته صعباً بشكل غير متوقَّع. أضافت: "بالنسبة لهم، كان ذلك يوازي (غوغل أكس) في مجال الرعاية الصحية النفسية".
قالت "فيريلي" إنَّ برنامجها وتطبيقها للرعاية الصحية عن بعد حققا نجاحاً برغم إقرارها بأنَّ أكثر من ربع المرضى لم يستخدموا قط تقدمتها التقنية. فالاستخدام الشائع لتقنيتها هو التبليغ عن المستجدات فيما يتعلق بالعمل والمسكن وتعاطي المخدرات عبر تطبيق الهاتف النقال.
في حين فقدت "فيريلي" الاتصال مع بوغس؛ فإنَّ مرضى آخرين يعربون عن تقديرهم للخدمات التي تقدّمها عن بعد. كانديس كراوش، سيدة من دايتون بلغ عمرها 28 عاماً، التحقت بعيادة "ون فيفتين" بعد أن حملت بطفلها وهي مدمنة على "الفينتانيل". تابعت كراوش البرنامج افتراضياً عبر الإنترنت، وكانت تلتقي بالمستشارين مرتين في الأسبوع عبر اتصالات الفيديو، وقالت: "بصراحة، أنقذ هذا الأمر حياتي".
نقص الأموال
وضعت "ون فيفتين" أجهزة كمبيوتر لوحية متصلة بنظام الرعاية الافتراضي التابع لها في أربع غرف طوارئ في أرجاء دايتون، وتخطط للوجود في عشر منشآت أخرى على الأقل على امتداد أوهايو بحلول نهاية العام.
تفتقر معظم المراكز الطبية في الولاية للموارد اللازمة من أجل معالجة الإدمان بالشكل الملائم، ناهيك عن تقديم الرعاية الصحية عن بعد. في حين رفضت "فيريلي" الكشف عن التفاصيل المالية الخاصة بـ"ون فيفتين"، تظهر التقارير العامة المقدمة في أوهايو أنَّ "فيريلي" تعهدت في 2020 بتخصيص 12 مليون دولار للعيادة على امتداد أربع سنوات، استناداً إلى معايير غير محددة.
يصطدم النقاش حول الإدمان في دايتون بمسألة أساسية، وهي المال إذ لا يوجد ما يكفي منه، فتضطر العيادات دائماً لمناشدة الجهات المانحة، فيما تتوسل المدينة بسلطات الولاية للحصول على التمويل. كما أنَّ المستشفيات لا تستثمر ما يكفي في العلاجات. التقت دين مع تيري برنز، المسؤول التنفيذي في "كيتيرينغ هيلث" وعضو مجلس إدارة "ون فيفتين" على مأدبة عشاء، وحمّلا في حديثهما مسؤولية النقص في التمويل لشركات التأمين التي لا تقدم إلا تغطية هزيلة لعلاج الإدمان. قال برنز: "هذا ما يغطّونه إذا كنت مصاباً بمرض نفسي أو بمرض متعلق بالمخدرات"- وضع بنساً واحداً على الطاولة-، كما أضاف: "إذا كنت مصاباً بمرض عادي يعطونك هذا"- واضعاً ربع دولار على الطاولة-، وقد أعرب بورنز ودين عن أملهما في أن تسهم "فيريلي" من خلال حجمها وتأثيرها في إقناع شركات التأمين بتخفيف عبء فاتورة معالجة الإدمان عن كاهل المستشفيات التي يتقاطر المدمنون إلى أبوابها.
بيّنت تايلر أنَّ استراتيجية "فيريلي" تقوم على تكوين لمحة أوضح وأشمل لتكاليف التعافي، أي المبالغ التي يمكن توفيرها من خلال تجنيب الناس غرف الطوارئ وقاعات المحاكم. لدى السؤال عن أدلة على النجاح؛ تشير "ون فيفتين" إلى تراجع في عدد الوفيات بجرعات زائدة في مقاطعة مونتغمري من الذروة التي بلغتها في 2017. لكنْ هذه الأرقام كانت أصلاً قد بدأت في الانخفاض، ونالت استجابة المدينة ثناء مقيّمي الرعاية الصحية حتى قبل إنشاء "ون فيفتين".
الأفيون مشكلة البيض
برغم أنَّ التقنية التي تعتمدها "فيريلي" ما تزال غير مثبتة بالإجمال، لكنَّ الشركة حصدت تأييداً في دايتون عبر توظيف أشخاص يتمتّعون بالمصداقية محلياً. إلى جانب تايلر التي تحظى بمكانة مرموقة في الدوائر السياسية في الولاية، عيّنت "ون فيفتين" باربرا مارش، المديرة المخضرمة لمكتب الصحة العامة في المقاطعة في منصب مديرة العمليات. تلقي مارش التحية على الجميع في دايتون من عناصر الشرطة إلى موظفي المحكمة وتعانقهم أيضاً.
افتتحت "ون فيفتين" مقرّها في حي كاريلون ذي الغالبية من السود من أبناء الطبقة الكادحة الذين شككوا في البداية بغايات العيادة. قال السكان لتايلر إنَّ الإدمان على المواد الأفيونية هو مشكلة البيض بشكل رئيسي. فقد تعامل السياسيون والشرطة مع وباء الكوكايين في الثمانينيات بشكل مختلف تماماً، ولطالما كانت البرامج الاجتماعية التي نفذت في الحي مخيبة للآمال. قالت غويندولين بوشانان، رئيسة المجلس المدني في كاريلون: "يأتي الناس ويطلبون المنح ويحصلون على المال ثمّ يغادرون".
لكنَّ "ون فيفتين" تبدو مختلفة حتى الآن. انضمت بوشانان إلى مجلس إدارتها وأصبحت من أشد مناصريها. قالت: "أثق بمارتي وبارب، لقد قامتا بكلّ ما وعدتا به".
غالباً ما تحيل ماري كاثرين هوفمان، قاضية محكمة المقاطعة في وسط مدينة دايتون، كل دعاوى الأشخاص إلى عيادة "ون فيفتين" للخضوع إلى العلاج، وهي تثني على العيادة لتقديمها البديل عن مراكز إعادة التأهيل الصغيرة والمنازل الانتقالية والسجون.
لكنَّ السؤال الملحّ الذي يحوم حول هذه العيادة هو ما إذا كان المشروع سيتمكّن فعلاً من المحافظة على الاهتمام الذي يناله من "فيريلي" في حال لم يتحوّل إلى ما هو أقرب إلى الشركة التقنية. هل أثبتت "فيريلي" ببساطة أنَّه عند التعامل مع مشكلة صحية مهملة، يكفي تأمين التمويل الملائم لمنشأة ما حتى يحدث الفرق؟ قالت كايتلين شرويدر، المراسلة السابقة المتخصصة بتغطية مسائل الرعاية الصحية لصالح جريدة "دايتون ديلي نيوز"، إنَّ الإجابة عن هذا السؤال صعبة، وأضافت: "ليس واضحاً ما إذا كانوا جيدين، أو هم أثرياء فقط".