بلومبرغ
جاء إعلان وفاة ملكة بريطانيا وفق التقاليد فاتشح مذيع أخبار "بي بي سي" بالسواد حداداً لدى تلاوته البيان كما أُبلغ ركاب طائرات الخطوط الجوية البريطانية حول العالم بالخبر المحزن.
كانت أنباء مرض أطول ملوك بريطانيا حكماً وتجمع عائلتها إلى جانبها في قلعة بالمورال، المقر الملكي الكائن بمرتفعات إسكتلندا، قد تسربت خلال ذلك اليوم. لم تكن وفاة الملكة إليزابيث الثانية الخميس الماضي عن نحو 96 عاماً غير متوقعة، لكن قلة توقعوا أن تأتي في مثل هذه اللحظة المحورية للبلاد ولرئيسة وزرائها الجديدة، ليز ترَس، على حد سواء.
عندما تجمعت الحشود خارج قصر باكنغهام في لندن لتأبين إليزابيث الثانية، بدأ إدراك أن وفاة الملكة تزيل إحدى الركائز القليلة المتبقية للاستقرار في المملكة المتحدة يلوح في الأفق. الأمر الذي يجعل ترَس تضطلع بقيادة حكومة أمة في مهب الريح كونها تعاني من الاستقطاب السياسي والتقزم الاقتصادي، وما تزال تحاول تحديد ما تريد تحقيقه من الحياة خارج الاتحاد الأوروبي.
تحديات تتعاظم
ليس الأمر كما لو أن التحديات التي تواجهها خليفة بوريس جونسون وإدارته الفوضوية لم تكن مخيفة بما يكفي، حيث تؤشر الأيام الأولى لترَس في 10 داونينغ ستريت إلى أن بدايتها كرأس للحكومة البريطانية ستكون عصيبة. لقد تهاوى الجنيه الإسترليني، الذي تملّكه الذعر بشأن حجم المشاكل الاقتصادية في البلاد بعد مرور 24 ساعة تقريباً من أدائها اليمين الدستورية كرئيسة للوزراء في 6 سبتمبر أمام الملكة بقلعة بالمورال، محققاً أدنى مستوى له مقابل الدولار الأمريكي منذ 1985 إبان ولاية مارغريت تاتشر، مثل ترَس الأعلى.
تولت ترَس التي بلغ عمرها 47 عاماً مهام منصبها متعهدةً بتجنب ما كان يطلق عليه أسوأ أزمة تكلفة معيشة منذ زمن بعيد، تحديداً في السبعينيات، حينما كانت بريطانيا ترزح تحت وطأة تراجع الصناعة وموجة الاضطرابات العمالية التي أدت لتراكم أكوام القمامة في الشوارع وتكرار انقطاعات التيار الكهربائي. لكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو ما إذا كانت تدخلاتها السياسية ستكفي لإبقاء الأنوار مضاءة هذا الشتاء.
لم تخف ترَس كثيراً ازدرائها للعقيدة "الاقتصادية التقليدية"، على حد وصفها، مجادلةً بأن جموع المشتغلين بالاقتصاد مهووسون إلى حدّ بعيد بالعجز والديون، وليس بالنمو بالشكل الكافي. كما وصفت مسؤولي وزارة الخزانة بأنهم مجرد "محاسبين" أثناء حملتها لقيادة حزب المحافظين، وأعربت عن أسفها بشأن "اقتصاديات الأفق الضيق". كانت إقالة توم سكولار، أكبر موظفي في وزارة الخزانة، من بين أول قراراتها كرئيسة للوزراء في رسالة واضحة مفادها أنها تريد إنجاز الأمور بشكل مختلف في عهدها.
يعد تشككها في الاقتصاديات السائدة أمراً غريزياً، حيث كان قرارها بتغيير الطريقة التي تقيّم بها الحكومة تأثير الصفقات التجارية في أعقاب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بصفتها وزيرة التجارة الدولية، أحد أبرز الأمثلة في هذا الصدد. لقد كرهت ترَس النماذج "الثابتة" القائمة التي افترضت تعميق العلاقات مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمرور الوقت، ولم تُظهر فائدة تذكر للمملكة المتحدة من أي صفقة فردية. لذا أتت بفريقها الخاص لإصلاح تلك النماذج، فكانت النتيجة غير المفاجئة أن الحسابات الجديدة أظهرت استفادة أكبر بكثير.
منهج خيالي
بينما يعد الأمر بالنسبة لترَس محض مسألة إيمانية بأن التخفيضات الضريبية يمكنها تغطية تكاليفها ذاتياً، إلا أن النقاد يسخرون من أيديولوجيتها باعتبارها "منهج اقتصادي خيالي". لكنها لا تعبأ بذلك، فقد وعدت بـ30 مليار جنيه إسترليني (34.8 مليار دولار) من تخفيضات الرواتب وضرائب الشركات، واستهدفت نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بواقع 2.5%، وهو مستوى لم يتحقق على نحو مستدام منذ ما قبل الأزمة المالية. يعد ذلك طموحاً، لكنه طموح واضح مع برنامج ينطوي على إلغاء الضوابط التنظيمية وزيادة حوافز العمل، والذي يتوقع أن يساعد في تحقيق تطلعات ترَس.
أيضاً، لدى ترَس اعتقاد راسخ بأن المملكة المتحدة انجرفت من رأسمالية السوق الحرة إلى ديمقراطية اجتماعية عالية الإنفاق ومرتفعة الضرائب أشبه بالدول الإسكندنافية. لذا تريد كبح جماح ذلك التحول وإحياء الثقافة التاتشرية منخفضة الضرائب. لكنها، على عكس تاتشر، لا تخطط لخفض الإنفاق العام لمطابقة الإيصالات الضريبية. لن يكون هناك تقشف؛ بل بدلاً من ذلك، ستستهدف ترَس تحقيق وفورات الكفاءة من خلال تقليص قوة العمل في القطاع العام البالغ قوامها 5.5 مليون فرد، من بين إجراءات أخرى. كما تأمل رئيسة الوزراء البريطانية أن يغطي الاقتراض الفارق على المدى القصير وأن يلحق النمو بالركب في النهاية.
تعهدت ترَّس مراراً في خطاب فوزها برئاسة الوزراء بأن حكومتها "ستفي" بوعودها. تفتقر ترَس، على عكس جونسون الذي أكثر من الأقوال وقلل من الأفعال، إلى الكاريزما فيما يتعلق بالخطابات العلنية، لكنها تعوض عن ذلك بالعمل الجاد. لقد شكلت بالفعل الحكومة الأكثر تنوعاً في التاريخ بالنظر لكونها وزيرة سابقة للمساواة. كما أوفت بوعد حملتها الانتخابية بالتعامل مع التضخم وأزمة غلاء المعيشة بعد أيام قليلة من تقلدها منصب رئيسة الوزراء.
تخفيف عن الأُسر
ستعمل خطتها لتجميد فواتير الطاقة المنزلية لمدة عامين وحماية الشركات من أسعار الغاز التعجيزية، التي أُعلنت الخميس، على خفض التضخم تلقائياً بمقدار خمس نقاط مئوية. لن تكون الأسر ذات الدخل المنخفض بحال أسوأ مما مرت به في الشتاء الماضي، كما ستحظى الشركات بدعم من شأنه إنقاذ عديد منها. كما ستستعيد الأسر القدرة على تخطيط ميزانياتها. تقول "بلومبرغ إيكونوميكس" إن الخطة ستحول دون وقوع المملكة المتحدة في فخ الركود، لكن الأمر ينطوي على تكلفة، حيث قدر "معهد الدراسات المالية" تكلفة ذلك على دافعي الضرائب بنحو 100 مليار جنيه إسترليني.
قال جوليان جيسوب، وهو اقتصادي يدعم ترَس ويؤيد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: "إن الخطة تنحي الأخبار السيئة بعيداً، ومن الواضح أنه من الأفضل تحميل الحكومة عبء ارتفاع أسعار الطاقة بدلاً من فرادى الأسر"، مضيفاً أن الخطة "تعالج المشكلة. وهذا يسمح لترَس بالمضي قدماً في تنفيذ برنامجها الحقيقي"، وهو برنامج "مؤيد للنمو بلا تورية" يتمثل بتخفيضات ضريبية وإلغاء لضوابط التنظيمية.
تواجه ترَس قوتين ضابطتين، ألا وهما الأسواق المالية من جهة، والمشرعين من جهة أخرى. يُرجح أن يتجاوز الاقتراض لدفع تكاليف خطة إنقاذ قطاع الطاقة والتخفيضات الضريبية المخطط لها 100 مليار جنيه إسترليني. ولتعقيد الأمور أكثر، تخطط ترَس لمراجعة هدف بنك إنجلترا للتضخم البالغ، وهو ما يخشى الاقتصاديون أن يثير تساؤلات حول استقلالية البنك. كما لا يمكن لرئيسة الوزراء تخويف المستثمرين الأجانب، الذين ستحتاجهم لشراء أدوات الدين التي تصدرها الحكومة، في ظل بلوغ عجز الحساب الجاري مستويات قياسية.
رياح معاكسة
قال فيليب هاموند، وزير الخزانة السابق الذي عارض انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لتلفزيون "بلومبرغ": "الأسواق تدقق عن كثب في التصريحات السياسية، والمملكة المتحدة تواجه بعض الرياح المعاكسة الخطيرة"، فالحكومة "لا تستطيع الاستمرار في طباعة النقود لإنقاذ الشعب من هذه التحديات".
من جهةٍ أخرى، تحتاج ترَس لولاء نواب حزبها، فقد ورثت الأغلبية البرلمانية الضخمة التي حظي بها جونسون، غير أن نواب أكثر من حزب المحافظين صوتوا لصالح خصمها، ريشي سوناك، وزير الخزانة السابق. يذكر أن ترَس كانت قد أمنت قيادة الحزب عبر التودد لأعضاء الحزب على مستوى القاعدة الشعبية وهم لا يضطلعون بالتشريع.
غير أن سجلها في السلطة تشوبه بعض الأخطاء. لقد أدى قرارها، كوزيرة للخارجية، بمواجهة بروكسل بشأن جوانب صفقة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المتعلقة بأيرلندا الشمالية إلى توتر العلاقات مع عواصم الاتحاد الأوروبي، ودفع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتحذيرها من "التراجع" عن البروتوكول الخاص بأيرلندا الشمالية.
داخلياً، تظل المملكة المتحدة دولة أجنبية بالنسبة لبعض مواطنيها بعد تصويت الأغلبية على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في 2016، وهو القرار الذي يملي الآن السياسة ويحدد الولاءات السياسية إلى حدّ كبير بنفس الطريقة التي سيطرت بها الترمبوية على الحزب الجمهوري. لذا تعج وزارة ترَس بالموالين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تعد معارضة ترَس لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من المفارقات بعدما باتت أشد مؤيدي الانفصال الأكثر تطرفاً عن الشريك التجاري الأكبر للمملكة المتحدة. لقد تحدثت عن رحلتها السياسية، التي بدأت منذ فترة طويلة من حزب المحافظين كمراهقة ليبرالية ديمقراطية عارضت النظام الملكي. قد تكون هذه القدرة على التخلي عن المواقف السياسية والتحول تماشياً مع الرياح السائدة ميزة في هذه الأوقات المتقلبة. فبعد كل شيء أوصلتها تلك القدرة إلى منصبها الحالي. لكن ترَس تفتقر للوقت، حيث يفصلها عامين فقط عن إجراء انتخابات عامة مع تقدم حزب العمال المعارض الرئيسي في استطلاعات الرأي.
دخلت البلاد الآن فترة حداد رسمية على الملكة. فاختفت أخبار فواتير الغذاء والطاقة من الصفحات الأولى، وألغت النقابات العمالية الإضرابات المخطط لها. وصف زعيم حزب العمال كير ستارمر، في رسالة إلى الأمة الخميس، الملكة وتفانيها في أداء الواجب بأنهما "النقطة الثابتة في عالمنا المتحول". لكن ما من إجماع حول ما إذا كانت رئاسة ترَس للوزراء ستعيد أي من ذلك الهدوء أم أن البلاد ستغرق في محيط من الاضطرابات.