بلومبرغ
أعلن رئيس "كوين بيس" التنفيذي براين أرمسترونغ قواعد جديدة حول السياسة في مكان العمل في سبتمبر 2020 في خضم هبّة بين الموظفين لدعم حركة "حياة السود مهمة". حظر حينها أن يكون الموظفون ناشطين خلال مباشرة العمل وطلب امتناعهم عن التعبير عن تأييدهم لقضايا سياسية واجتماعية داخل مكاتب الشركة، مبيناً أنَّ من يعارض هذه القواعد سيُطالب بالاستقالة. كان الشأن السياسي الوحيد المقبول هو المتعلق بـمهمة الشركة، وهي: "بناء منتجات مالية أكثر موثوقية وأسهل استخداماً تسمح للناس بالمشاركة في اقتصاد التشفير." قال حينئذ إنَّ ذلك "سيجلب للعالم مزيداً من الحرية الاقتصادية".
تسبّبت رسالة أرمسترونغ بعدد من الاستقالات، واستقطبت تغطية إعلامية واسعة قبيل إدراج أسهم "كوين بيس" في البورصة. اعتبر رئيس "تويتر" السابق جاك دورسي أنَّ معنى "الحرية الاقتصادية" لدى الشركة مشوش، فيما أثنى المؤيدون ومنهم مستثمرون يمينيون ووسائل إعلام محافظة على ما وصفوه بمقاومة أرمستروغ البطولية ضد ضغوط الناشطين اليساريين. غرّد مستثمر الرأسمال المغامر ديفيد ساكس قائلاً إنَّ الإعلان "يظهر أنَّ الغوغائيين لا يملكون أي نفوذ على مؤسسي الشركات المصممين على القيام بالأمور بطريقتهم"، وذلك بعد أن قيّم الإدراج المباشر الشركة بحوالي 85 مليار دولار في أبريل 2021.
توسع الإدراجات
إلا أنَّ الجدل صرف الانتباه عمّا يمكن اعتباره التحوّل الأكبر في أعمال "كوين بيس". فبعد فترة قصيرة من طرح الشركة للاكتتاب؛ أعلن أرمسترونغ أنَّ "كوين بيس" ستوسّع عدد العملات المدرجة ضمن خدماتها لتواكب طلب المستثمرين". ذكر أرمسترونغ خلال اتصال هاتفي لمناقشة الأرباح الفصلية في مايو 2021 "دوج كوين"، العملة المشفرة الدعابة، التي كان يروّج لها في ذلك الوقت مستثمرو أسهم الميم (وإيلون ماسك أيضاً لسبب ما). أضافت الشركة أكثر من 100 رمز جديد خلال العام الذي جاء بعد ذلك.
بالطبع، لم يستخدم أرمسترونغ مصطلح "عملات الهراء" لوصف هذه الأدوات الاستثمارية الرقمية ضعيفة التداول والمتقلبة للغاية، التي يشار إليها أحياناً بتسمية أكثر لطفاً هي "العملات البديلة". قال إنَّ الشركة "ستسرّع من إضافة الأصول لأنَّنا سنعيش سريعاً في عالم سيكون فيه الكثير منها لدرجة أنَّنا لن نتمكّن من مواكبتها".
بدا الأمر منطقياً لحدّ ما. فحتى ذلك الحين، كانت "كوين بيس" أحرص من منافساتها لأنَّها كانت تُدرج فقط "بتكوين" و"إيثر"، فضلاً عن عدد قليل من الرموز الأخرى التي تمكّنت من ترسيخ نفسها. أسهمت هذه القيود في حماية عملائها من الوقوع ضحية أعمال الاحتيال والقرصنة وسحب البساط وحيل "الضخ والتفريغ"، وهي كلّها شوائب خيّمت على قطاع العملات المشفَّرة طوال سنوات. إلا أنَّ القيود التي كانت تفرضها " كوين بيس" أتاحت فرصة للمنافسين، بالأخص "بينانس" التي عرضت مئات الرموز لتفوز بحصة من السوق. ربما أُنشئت عملة "دوج كوين" كدعابة، إلا أنَّ المضاربات ورسوم التداول التي تلتها كانت حقيقية بما يكفي، وأسهمت في رفع قيمتها السوقية إلى حوالي 90 مليار دولار، قبيل إعلان أرمسترونغ عزمه إدراجها.
اعتقال وتحقيق
بدا أنَّ التحوّل إلى "العملات الهراء" في البداية قد نفع "كوين بيس" التي ارتفع سعر سهمها في الأشهر التي تلت ذلك مع اقتراب المضاربة في الأصول الرقمية إلى ذورتها. لكن الآن بالنظر إلى كلّ ما حصل؛ يُغفر لمن اعتبر أنَّ تلك الخطوة كانت متهورة. اعتقل ممثلو الادعاء الفيدراليون الشهر الماضي، إيشان واهي، أحد مسؤولي المنتجات السابقين في "كوين بيس"، واتهموه بالتداول من الداخل. يرفع إدراج رمز جديد على منصة تداول كبرى مثل "كوين بيس" سعره بعد إعلان ذلك عادةً. قالت جهة الادّعاء إنَّ واهي أبلغ أخاه وصديقاً له عن الإدراجات الجديدة في يونيو، فتمكّنا من تحقيق أرباح بلغت 1.5 مليون دولار عبر شراء عملات رقمية ضعيفة التداول قبيل الإدراجات الجديدة. قاضت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأشخاص الثلاثة، مشيرة في دعواها إلى أنَّها تعتبر بعض العملات المتداولة على "كوين بيس" أوراقاً مالية غير مسجلة. إلا أنَّ هيئة الأوراق المالية والبورصات ووزارة العدل لم تشمل "كوين بيس" في الدعوى. نقلت "بلومبرغ نيوز" في 25 يونيو أنَّ الهيئة كانت تحقق مع الشركة على خلفية إدراجاتها حتى قبل الكشف عن المخطط المزعوم.
قد يكون التغافل عن الأمر مغرياً، وأن نعتبره حادثاً مؤسفاً منعزلاً، وهذه بالتأكيد الرواية التي تروّج لها "كوين بيس"، فقد أعلنت في تدوينة أنَّها تعاونت مع التحقيق الجنائي، موضحة أنَّها تعارض توصيف لجنة الأوراق المالية والبورصات. قالت: "تعتمد (كوين بيس) إجراءات مشددة في تحليل كلّ أصل رقمي ومراجعته قبل إتاحته على منصتنا... أغلب الأصول التي نراجعها لا تبلغ مرحلة الإدراج على (كوين بيس)."
إلا أنَّ الحادث لا يدل على عزم لدى "كوين بيس"، إذ يبدو أنَّ أول من رصد هذا التداول من الداخل كان المؤثر في مجال العملات المشفَّرة جوردان فيش، الذي ينشر تغريداته تحت الاسم المستعار "كوبي"، اختصاراً لـ"Crypto Cobain"، والذي قال إنَّه يشتكي علناً منذ أشهر من التداول من الداخل في "كوين بيس". يُحتسب للشركة أنَّها حققت بالمعلومة التي أفشى بها فيش عبر "تويتر"، لكنَّ كوبي قال: "بالتأكيد كان على (كوين بيس) أن تكتشف الأمر قبل أشخاص عشوائيين على (تويتر)".
أداء ضعيف
لندع التداول من التداخل جانباً؛ إذ إنَّ قرار "كوين بيس" بفتح منصتها أمام عدد أكبر من الرموز يثير كمّاً من الشكوك، على الأقل فيما يخصّ حماية المستثمرين الذين يتداولون على منصتها. أتى مثلاً الإعلان حول "دوج كوين" في الوقت نفسه تقريباً الذي ارتفعت فيه العملة إلى ذورتها، لكنَّها خسرت منذ ذلك أكثر من 90% من قيمتها. كان أداء معظم الرموز الجديدة التي أدرجتها "كوين بيس" ضعيفاً على المدى الطويل.
لاحظ منتقدون مثل محلل "بتكوين" سام كالاهان نمطاً، حيث تروّج "كوين بيس" لعملات متقلّبة بشكل متزايد للعملاء الذين يشترون العملات، وما تلبث استثماراتهم أن تنهار حين يتخارج مبتكرو هذه الرموز. قال كالاهان إنَّ الشركة روّجت للعبة الفيديو المتعثرة بالعملات المشفَّرة "أكسي إنفينيتي" (Axie Infinity)، تماماً قبل أن تتعرّض شركتها الأم للقرصنة وانهيار رمزها. كان حساب على "تويتر" يتبع لـ"كوين بيس" في فبراير يروّج لعملة "لونا"، مشروع "العملة المستقرّة" التي تبيّن لاحقاً أنَّها غير مستقلة بتاتاً حين تبخرت مليارات الدولارات من رأسمال المستثمرين.
قد يظنّ المرء أنَّ اعتقال أحد موظفي الشركة بتهمة التعامل من الداخل قد يدفعها نحو نوع من اليقظة الأخلاقية، ما لم تكن تلك اليقظة تشكل انتهاكاً ظاهرياً للسياسة الجديدة للشركة. لكن استجابت "كوين بيس" للتهم بعد أن أعادت التأكيد على موقفها بأنَّ عملاتها ليست أوراقاً ماليةً، بالتالي؛ لا يجب أن تخضع لتنظيم هيئة الأوراق المالية والبورصات. يسهل تبيان ما يدفع "كوينباس" لإنفاق الملايين للضغط على المسؤولين للسماح باستمرار العملات المشفَّرة كنظام مال مواز غير خاضع لقيود ناظمة بالإجمال. لكن يصعب فهم كيف أنَّ دفع مستثمرين غير متمرسين نحو ما يمكن اعتباره المكافئ الرقمي للأسهم الرخيصة عالية المخاطر يمثل التزاماً بالحرية الاقتصادية.