بلومبرغ
اعتلى أندريس مانويل لوبيز أوبرادور بعد أربعة أشهر من بدء ولايته الرئاسية منصة في القصر الوطني بالمكسيك، وأعلن النصر على جحافل اللصوص الذين كانوا يسرقون ملايين غالونات البنزين يومياً طيلة سنين مضت من خطوط الأنابيب التي تديرها الحكومة.
صرّح الرئيس الملقب أملو قبل ثلاث سنوات: "لقد تمكّنا عملياً من القضاء على سرقة الوقود". والتفت نحو رسم بياني خلفه، وبدأ بقراءة بعض الأرقام التي تؤكد قوله. بيّن أنَّ سرقة الوقود انخفضت 94% في عهده، كما تراجعت الكميات المسروقة من 15.5 مليون لتر يومياً في نوفمبر 2018، أي قبل شهر من تولي أملو منصبه، إلى حوالي 900 ألف في أبريل 2019، مما وفر على شركة "بيترولوس ميكسيكانوس" (Petroleos Mexicanos) أو "بيميكس" (Pemex) التي تملكها الدولة مليارات الدولارات.
قال يومها: "هذا دليل على أنَّ الفساد غير مسموح به".
المكسيك تطالب عملاقة البترول "بيميكس" بأن تسدد ديونها بنفسها
فاز أملو برئاسته بناء على وعد بأنَّه سيقضي على الكسب غير المشروع والجشع المنتشرين في المكسيك منذ عقود. كان محور معركته هو وضع حد لنهب وقود "بيميكس"، واتخذ إجراءات صارمة من بينها إغلاق مئات الأميال من خطوط أنابيب "بيميكس" لمنع السرقة، مما تسبب في نقص البنزين في جميع أنحاء البلاد في يناير 2019، ولم يعد فتحها إلا بعد إرسال الحرس الوطني وتفعيل المراقبة العسكرية، في جهد ما يزال مطبقاً حتى اليوم. كما أمر بإجراء تحقيقات في محطات البنزين المشتبه بارتكابها مخالفات محاسبية، وأغلق نقاط البيع بالتجزئة التي لم تتمكّن من تلبية المتطلبات التنظيمية.
يبدو تراجع سرقات البنزين في المكسيك من حيث المظهر على أنَّه أكبر انتصار منفرد لأملو حتى الآن في معركته ضد الجريمة. لكنَّ زيارة إلى شوارع مجموعة بلديات تسود فيها الجرائم وسط المكسيك تُعرف باسم المثلث الأحمر تظهر حدود نجاح أملو.
يجلس سارق وقود يسمي نفسه إل غوردو، وهو رجل ضخم يرتدي سروال الجينز الممزق وقميصاً مبللاً بالعرق، في شارع هادئ في تيكاماتشالكو في بويبلا مبتسماً، وهو يحسب أرباح اليوم على هاتفه المحمول. اعتاد إل غوردو على جني الكثير من المال من سرقة البنزين لبيعه. لكن حين قطعت "بيميكس" تدفق البنزين إلى المثلث الأحمر، بدأ سرقة غاز البترول المسال الذي يعتمد عليه رزق بائعي الطعام في المكسيك، وهو أيضاً وقود التدفئة لمعظم منازل البلاد.
توصيل للمنازل
لم يكن الأمر صعباً، ففي حين تحرس القوات الفيدرالية خطوط أنابيب البنزين والديزل؛ فإنَّ أنابيب غاز البترول المسال التي تمتد بطول 1,600 كيلومتر في المكسيك لا رقابة عليها تقريباً. تبدأ الخطة برشوة عامل من "بيميكس" لإبلاغ لصوص مثل إل غوردو بموعد تدفق الغاز النفطي المسال عبر خط الأنابيب وبمكان فتح الصمامات. ثم يأتي الجزء الخطير وهو استجرار الغاز، علماً أنَّه لا يمكن تفريغه في دلو بعكس البنزين. يجب عليهم توصيل خرطوم بالأنبوب بعناية لحقن الغاز المسال في اسطوانات. ونظراً للطبيعة المتفجرة لهذا الوقود؛ فإنَّ اللصوص يقدمون عادة خدمة التوصيل إلى المنازل.
برغم ذلك، هنالك زيادة في حوادث انفجار أسطوانات الغاز في المنازل لأنَّ موزعي السوق السوداء لا يتبعون إجراءات السلامة، كما أشار إلى ذلك كارلوس سيرانو مدير مجموعة تجارة الغاز النفطي المسال المكسيكية المعروفة باسم "أميكسغاز" (Amexgas)، إذ قال: "إنَّ مشكلة الحوادث ضخمة، وتشكل خطراً جسيماً على سلامة الناس دون تنظيم مناسب".
"بيميكس" المكسيكية تبني مصفاة نفط بمنطقة بيئية رغم تعهدها بحمايتها
برغم انخفاض سرقات البنزين في المكسيك مقارنة بما كانت عليه قبل أربع سنوات؛ إلا أنَّ عدد صنابير الغاز النفطي المسال غير القانونية ارتفع بأكثر من عشرة أضعاف بين 2018 و2021. بلغ عدد الصنابير التي اكتشفتها شركة "بيميكس" العام الماضي 2,402، ارتفاعاً من 215 في 2018، وفقاً لبيانات الشركة التي جمعتها جمعيات الغاز النفطي المسال في المكسيك. ما تزال هذه السوق أصغر من سوق البنزين غير القانونية في أي وقت مضى، لكنَّها تنمو بشكل كبير. تخسر "بيميكس" الآن حوالي مليار دولار سنوياً من سرقات الغاز النفطي المسال، أي حوالي ثلث ما كانت تخسره من البنزين المسروق قبل إعلان أملو الحرب على لصوص الوقود، وفقاً للمجموعات التجارية.
زارت "بلومبرغ بيزنس ويك" خمس بلديات في ولايتي بويبلا وهيدالغو اللتين اشتهرتا بسرقة البنزين لتوثيق آثار حملة أملو. يروي الناس هناك قصتين مألوفتين: إحداهما عن الفقر والقمع اللذين يدفعان الشباب في الغالب لعالم السرقة؛ والأخرى عن أعمال القتل والعنف التي انتشرت في جميع أنحاء المنطقة منذ حرب أملو ضد ما يسمى "واتشيكول"، التي قلصت سوق الوقود غير القانونية، وعززت السلطة في أيدي قلة من النشطاء على نطاق واسع بقيادة العصابات المنخرطة الآن في حروب دموية على النفوذ. إنَّهم يقولون إنَّ هذا ما يحدث عندما تعالج العرض وليس المرض.
رتق وفتق
قال سيرانو، مدير المجموعة التجارية المكسيكية للغاز النفطي المسال المعروفة باسم "أميكسغاز": "تمثل جهود أملو تقدماً جيداً، ويجب أن نعترف بذلك. لكن حدث العكس مع أنابيب غاز البترول المسال".
أقرّ أملو خلال حملته أنَّ السبب الرئيسي لسرقة البنزين هو الفقر، ووعد بمكافحته بمبلغ 3.86 مليار بيزو (188 مليون دولار) للبرامج الاجتماعية، كما ضاعف التزاماته بعد انفجار خط أنابيب بنزين استخدمه اللصوص في تلاويلبان في هيدالغو، في يناير 2019 عندما قتل 137 شخصاً. قال حينها: "سنوفر خيارات وبدائل ليحصل الناس بطريقة قانونية وصادقة لكسب دخلهم وتلبية احتياجاتهم".
المكسيك تكتشف حقل بترول بطاقة إنتاجية محتملة هي مليار برميل
قالت وزارة الرعاية الاجتماعية المكسيكية في بيان حينها إنَّ إدارة أملو قدّمت مساعدة مالية لأكثر من 300 شخص ممن تضرروا من المأساة، منها منح دراسية ودعم رعاية الأطفال وتغطية نفقات الجنائز والنفقات القانونية. قالت الوزارة إنَّ أكثر من 80 مليار بيزو استُثمرت في مشاريع البناء وإيجاد فرص عمل وتحسين بنية المنطقة التحتية.
لم يثبت ذلك أنَّه يكفي لردع إل غوردو وآخرين من أمثاله. حاول لفترة من الوقت أن يكسب عيشاً نزيهاً لإعالة زوجته وأطفاله من خلال بدء مشروع نجارة، لكنَّه تعثر في تغطية نفقاته. طلب منه بعض لصوص البنزين الانضمام إليهم في 2014، وقالوا له إنَّ دخله من سرقة الوقود سيفوق ما قد يجنيه كنجار، وكان ذلك صحيحاً. إنَّه يبيع حوالي 80 أسطوانة غاز مسروق مقابل 350 إلى 400 بيزو في اليوم الجيد، أي أقل بنسبة 20% إلى 30% عن سعر السوق، ويحتفظ بنصف الإيراد. جعل هذا أرباحه أعلى 40 مرة من متوسط الدخل في تيكاماتشالكو، وأعلى بحوالي 70 مرة من الحد الأدنى للأجور في المكسيك، حيث يعيش أكثر من 40% من المواطنين تحت خط الفقر.
هدايا ورصاص
استخدم الثروة غير المتوقَّعة لشراء ملابس جميلة ومجوهرات باهظة الثمن وهدايا لعائلته. قال إل غوردو، الذي طلب عدم الكشف عن هويته خوفاً من أن يستهدفه المسؤولون الحكوميون: "اشتريت عدّة قطع من الأراضي بأرباح مبيعات الغاز. يمكنني الحصول على مزيد من الإجازات مع عائلتي". لكنَّه عانى أيضاً من عواقب. رفع قميصه ليشير إلى إصابته برصاصتين في بطنه. يقول إنَّ التعرض لإطلاق الرصاص من مخاطر المهنة. لقد شاهد مقتل زملاء له في هذا العمل، وقد زاد هذا الآن أكثر مما مضى.
قال أحد رجال الإطفاء في تيكاماتشالكو، وقد طلب عدم كشف هويته خوفاً من تعرضه للانتقام: "يتزايد اختفاء الأشخاص بشكل كبير. عثرنا على جثتين أو ثلاث في غضون شهر. لكن هناك أكثر من ذلك في حال افترضنا أنَّ أقسام مكافحة الحرائق الأخرى تجد العدد نفسه". هو يعزو الزيادة في القتل لاشتداد حروب النفوذ بين حلقات سرقة الوقود التي تتخلص من جثث الضحايا فيما يسمى بوزو، وهي ثقوب عميقة وجافة كانت تُستخدم سابقاً لتخزين المياه في المزارع.
قرصنة خط الأنابيب الأمريكي تربك تجارة الوقود في الولايات المتحدة
ولم يرد متحدث باسم أملو على طلبات للتعليق على تصاعد العنف في المنطقة. زادت جرائم القتل في ولاية هيدالغو 24% في الأشهر الخمسة الأولى من العام، ليصل عددها إلى 124 جريمة. في بويبلا، ارتفعت الجرائم 26% لتصل إلى 398 جريمة. هاجم لصوص الوقود المعروفين باسم واتشيكوليروس حراس الأمن التابعين لشركة "بيميكس"، وأحرقوا سيارات الوقود، بل شنقوا عملاء من مكتب المحامي العام. تميل الجماعات الإجرامية التي تتورط في سرقة البنزين والغاز في بويبلا للتورط في الخطف وتجارة المخدرات والسطو على السيارات، كما تقول الشرطة المحلية.
نشأت علاقات معقدة بين واتشيكوليروس والمجتمعات التي يعملون فيها، فأصبح السكان المحليون يعتمدون عليهم، وفي بعض الحالات يحتفون بهم للحصول على الوقود الذي يبيعونه بأسعار معقولة. لكنَّهم يرفضونهم ويلومونهم على تصاعد العنف في شوارعهم.
كرم اللصوص
تقدم إحدى حانات ولاية هيدالغو مشروباً يحمل اسم واتشيكوليروس في وعاء صغير من القصدير على شكل حافظة البنزين. يبيع اللصوص هناك البنزين بنصف سعر بيعه بالتجزئة، مما يوفر تخفيفاً للتضخم المتفشي وارتفاع تكاليف الطاقة. كما أنَّهم يقومون بملء الفراغ الذي يتركه نظام الرعاية الاجتماعية الحكومي، والذي غالباً ما يكون قاصراً.
أثناء القيادة في شوارع سان بارتولو أوزوكالبان المرصوفة بالحصى في هيدالغو؛ يتذكر الرجل الذي يستخدم اسم تشابا حياته الماضية حين كان يجري مع مجموعة رجال عندما كانوا يستجرون البنزين من خطوط أنابيب "بيميكس" في ساعات الليل. يعمل تشابا الآن في بيع الفخار، لكنَّه يتحدث عن اللصوص المحليين بشغف. عندما دخلت زوجة تشابا المستشفى لعدة أشهر في 2019، كان لصوص الوقود من المقيمين في هيدالغو هم من أعطوه البنزين مجاناً ليتمكّن من زيارتها.
المكسيك توقف دعم البنزين لمواجهة استنزاف الأميركيين للإمدادات عبر حدودها
قال السكان الذين أجرت "بيزنس ويك" مقابلات معهم في بويبلا وهيدالغو إنَّهم لم يروا أياً من المساعدات التي وعدت بها الحكومة، ولم يكونوا على علم بالبرامج الاجتماعية المتاحة لهم. ما تزال سرقات الوقود شائعة في المنطقتين. في موقع عسكري في هيدالغو، يقف جندي بلا مبالاة وهو يثير الغبار بحذائه. أُرسل هذا الجندي لحماية خط أنابيب تولا سالامانكا من وضع الصنابير غير القانونية، مع ذلك؛ فقد أبلغ عن وجود اثنين في ذلك الصباح فقط. بقدر ما يرغب أملو في أن يكون كل شبر من النظام تحت المراقبة؛ إلا أنَّ الجيش لا يملك الموارد اللازمة لمراقبة خط طوله 223 كيلومتراً بالكامل، خاصة في الأماكن التي يعبر فيها التضاريس الوعرة التي لا تستطيع السيارات الوصول إليها، على حد قوله.
يركز الجيش في بويبلا بشكل كبير على خطوط أنابيب البنزين والديزل لدرجة أنَّ شبكات الغاز المسال فيها تحولت لشبكة مجانية للجميع، كما يقول لويس لانديروس، رئيس اتحاد موزعي غاز البترول المسال: "توجهت الجريمة المنظمة نحو غاز البترول المسال. نقدر أنَّ ما بين 15% و20% من السوق في وسط البلاد يشيع فيها هذا المنتج غير القانوني".
يبدو أنَّ أملو بدأ يعترف أنَّ سرقة الوقود ما تزال مشكلة في المكسيك، وأشار في العديد من المؤتمرات الصحفية في مايو إلى أنَّ عدد صنابير البنزين ارتفع عن العام السابق، كما أشار إلى سرقة الغاز النفطي المسال.
قال خلال أحد هذه المؤتمرات إنَّ اللصوص "مخطئون إن اعتقدوا أنَّهم يستطيعون الإفلات من العقاب في الحكومة التي أقودها، وكذلك الحال في بويبلا، لا أحد يفلت من العقاب، لا أحد''.