بلومبرغ
أنقذت الأسر الأميركية الاقتصاد العالمي عندما احتاج إلى مستهلك الملاذ الأخير؛ لعدة عقود، إلا أن موجة الإنفاق الأخيرة في أميركا جاءت بنهاية إشكالية. ولكونهم عالقين في المنزل وسط الجائحة، اشترى الناس في جميع أنحاء العالم المزيد من السلع (أجهزة التلفزيون، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، ودراجات التمرين، على سبيل المثال لا الحصر) على حساب الخدمات مثل الإقامة الفنادق وعضوية الصالة الرياضية.
كان التحول أكبر بكثير في الولايات المتحدة منه في البلدان الغنية الأخرى.كما تفاقم هذا الواقع بفعل شركات تجارة التجزئة، مثل "تارغت" و"ول مارت"، التي راكمت في مخزوناتها سلعاً أكثر مما أراد الأميركيون شراءه. ونظراً لأن هذه السلع تُتداول عالمياً -مع تقييد الإمدادات بسبب كوفيد-19- فقد أدى الطلب الأميركي إلى ارتفاع الأسعار في البلدان الأخرى أيضاً.في الواقع، كانت الولايات المتحدة تُصدّر التضخم أثناء انتعاشها من الجائحة.
هذا يؤكد حدوث تغيير عميق في الاقتصاد العالمي. ففي عالم ما قبل كوفيد، كانت البضائع وفيرة وكان التحدي هو العثور على مشترين. وغالباً ما يُلقى اللوم على بلدان مثل ألمانيا والصين، اللتين تتمتعان بفوائض تجارية كبيرة، بالاستفادة المجانية من الطلب الناتج في أماكن أخرى، وعدم المساهمة بما يكفي من طلبها الخاص. وعلى النقيض من ذلك، كان يُنظر إلى العجز التجاري الأميركي على أنه نعمة للاقتصادات الأخرى.
أما في عصر الندرة الجديد، فقد انقلبت تلك القصة رأساً على عقب. حيث يقول جيسون فورمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد: "كل شيء عكس ذلك الآن؛ كان هناك طلب ضئيل للغاية، والآن هناك القليل من العرض. وفي عالم يتّسم بقلة العرض، فإن الدولة التي تبذل قصارى جهدها لتوليد الطلب، وهي الولايات المتحدة، تُصدِّر مشكلتها، وهي التضخم".
قلق مختلف
تظهر الآن دلائل على أن المستهلكين الأميركيين يُقلّلون من الطلب مع قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لتهدئة الاقتصاد ومكافحة التضخم. أما بالنسبة لبقية العالم، فقد يخلق ذلك مصدر قلق مختلف حيث تتحول الولايات المتحدة إلى تصدير التضخم من خلال قناة أخرى: الدولار القوي للغاية. يُذكر أنه مع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة بشكل أسرع بكثير مما هو عليه في منطقة اليورو واليابان، يرتفع الدولار؛ ففي الأسبوع الماضي تكافأ سعر اليورو مع الدولار للمرة الأولى منذ عقدين. وهذا يجعل البضائع المستوردة من الولايات المتحدة -وجميع أنواع السلع التي تُسعَّر عادة بالدولار، ولا سيما النفط- أكثر تكلفة بالنسبة للبلدان الأخرى.
الفيدرالي لم يقع في فخ السوق الناشئة.. ولم يقترب منه
"سينخفض الطلب الأميركي إلا أنَّ الآلية التي سيحدث بها ذلك ستكون مسؤولة أيضاً عن دولار أقوى؛ لذا فإن هذا لن يحلّ بالضرورة مشكلة التضخم الذي تُصدِّره الولايات المتحدة إلى البلدان الأخرى"، وفق توقعات فورمان. ما من شكٍ في أن طلب المستهلكين هو سبب واحد فقط لارتفاع التضخم في جميع أنحاء العالم؛ ويمكن القول إنّه ليس السبب الرئيسي حتى في الولايات المتحدة، حيث كان التحفيز المرتبط بجائحة كوفيد أكبر. وفي أوروبا وأماكن أخرى، تؤدي تكاليف الطاقة والغذاء إلى ارتفاع التضخم حيث أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تفاقم الانهيارات الناجمة عن الجائحة في سلاسل التوريد.
ومع ذلك، فإن بعض التضخم في أوروبا على الأقل يُستورد عبر المحيط الأطلسي، بحسب هولجر شميدنغ، كبير الاقتصاديين في "بيرنبرغ بنك" (Berenberg Bank) في لندن.حيث يقول: "ليس بشكل مباشر بمعنى أننا اشترينا أشياء باهظة الثمن من الولايات المتحدة؛ ولكن بمعنى أن الولايات المتحدة والطلب الكبير فيها بعد ضوابط التحفيز، ساهما في اختناقات العرض حول العالم؛ وفي ارتفاع الأسعار".
منذ أن بدأ التضخم المرتبط بالجائحة العام الماضي، كان التضخم لدى الولايات المتحدة أكثر منه في أوروبا. وقد ضاقت الفجوة مؤخراً، لكن هذا لا يروي القصة كاملة. في الحقيقة، قد يكون للاقتصادين معدلات تضخم متشابهة، لكن لهما أنواعاً مختلفة، مع تداعيات كبيرة على كيفية معالجة البنوك المركزية لهذه المشكلة. حيث يتلخّص جزء كبير من التمييز في حجم ضغوط الأسعار المحلية.
ضغوط على أوروبا
في الولايات المتحدة، لعب الطلب المتزايد من قبل الأسر؛ـ خاصة على السلع ـ دوراً أكبر. "هذا هو نوع التضخم الذي لا يختفي من تلقاء نفسه"، وفقاً لآنا لويس أندرادي من "بلومبرغ إيكونوميكس". وهذا أحد أسباب توقع قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة بأكثر مما سيرفعه البنك المركزي الأوروبي.
المخاوف تهيمن على المستثمرين بشأن وتيرة رفع الفائدة لدى "المركزي الأوروبي"
ولكن إذا كان إنفاق المستهلكين الأميركيين يقود التضخم في الولايات المتحدة، فهذا على الأقل شيء يمكن للاحتياطي الفيدرالي إصلاحه. علاوةً على ذلك، فإن السياسة النقدية هي أداة فظة تتحكم في الأسعار عن طريق خفض الطلب المحلي. وعندما يأتي التضخم من الخارج، كما يحدث في جميع أنحاء أوروبا تقريباً، فهناك خطر يتمثّل في أن الفائدة المرتفعة لدى البنك المركزي الأوروبي ستؤدي فقط إلى إبطاء الاقتصاد دون معالجة أسباب ارتفاع الأسعار.
في هذا الصدد، يقول لوكا فورنارو من كلية برشلونة للاقتصاد، وهو مؤلف مشارك لبحث حديث يتعلق بالروابط بين الإسراف في شراء السلع خلال جائحة كوفيد، والتوازنات التجارية، والتضخم العالمي: "إنه يجعل مهمة البنك المركزي أكثر صعوبة في أوروبا". ويقول: "من الواضح جداً أنَّه يجب على الاحتياطي الفيدرالي أن يرفع أسعار الفائدة، ما سيؤدي إلى تباطؤ في النشاط. ولكن طالما بدأ من مستوى عالٍ، فلا ينبغي أن يؤذي ذلك كثيراً. وفي منطقة اليورو لدينا وضعان سيئان هما: تضخم مرتفع بما يكفي ويتطلب تشديداً نقدياً، واقتصاد بالكاد قوي بما يكفي ليحتاج إلى تهدئة.
من جانبها جادلت عضوة المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي إيزابيل شنابل بأن المسؤولين لا يستطيعون تحمل تبعات عدم القيام بأي شيء لأنهم بحاجة إلى ضمان عدم خروج توقعات التضخم عن السيطرة.
قوة الدولار
ومع تراجع الطلب في الولايات المتحدة، سينخفض الضغط على سلاسل التوريد، ما يمنح أوروبا بعض الراحة، بحسب رأي شميدنغ من "بيرنبرغ بنك": "معظم التضخم لدينا ناتج عن الطاقة والسلع والغذاء، لكنه (تراجع الطلب الأميركي) سيساعد قليلاً. حيث قد يحدّ من التضخم بمقدار نصف نقطة مئوية على مدى 12 إلى 18 شهراً القادمة".
يُشار إلى أن القوة التي تدفع في الاتجاه الآخر هي ارتفاع الدولار. فالعملات مثل اليورو والين الياباني عند أدنى مستوياتها على مدى عقود مقابل الدولار. وهذا يعني واردات أرخص، وبالتالي انخفاض التضخم في الولايات المتحدة، والعكس في أي مكان آخر.
مخاطر الدولار القوي تهدد بتزايد التدفقات الخارجة من الأسهم الآسيوية
ويُشبِّه فورنارو الوضع بـ"حرب العملة العكسية". فبدلاً من السعي إلى خفض قيمة العملة لتعزيز الصادرات، كما فعل الكثيرون قبل الجائحة، فإن "ما يرغب كل بلد في فعله هو رفع قيمة عملته وإحداث عجز تجاري، ما يساعد على احتواء التضخم محلياً".
من الواضح أن الولايات المتحدة تفوز في تلك المسابقة. أما آسيا، التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة الخارجية مثل أوروبا (الصين هي أكبر مشترٍ للنفط في العالم)، معرّضة للخطر. وقد حذّر رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ الأسبوع الماضي من أنّ المسؤولين الصينيين يجب أن ينتبهوا إلى "منع التضخم المستورد". فضلاً عن ذلك، كانت البنوك المركزية الآسيوية مقيدة في رفع أسعار الفائدة مقارنة بالاحتياطي الفيدرالي. وقد يؤدي ذلك إلى تضخيم التأثير التضخمي لقوة الدولار، وفقاً لروب سوبارامان، رئيس أبحاث الأسواق العالمية في شركة "نومورا هولدينغز"؛ حيث يقول إن الخطر يكمن في أن اتساع الفجوة في الأسعار "يُغذّي هروب رأس المال ويُؤدّي إلى انخفاض حاد في قيمة العملة مقابل الدولار الأميركي، ما يضيف المزيد من ضغوط التضخم".