بلومبرغ
بقلم: Lulu Yilun Chen
تخيّلوا للحظة الحياة بلا هواتف ذكية. تصبح بعض المهام البسيطة مثل طلب الطعام من الخارج أو التواصل مع الآخرين مسائل صعبة ومزعجة، ناهيك عن التعامل مع حالات الطوارئ. هكذا سيكون الحال في الصين بغياب تطبيق "وي تشات". برغم اسم يوحي بأن التطبيق أشبه بخدمة تراسل، إلا أنه يهيمن تقريباً على كافة جوانب النشاط الإلكتروني للأفراد في الصين بما يشمل الخدمات المصرفية والمواعيد الغرامية والألعاب والموسيقى والتسوق والتواصل الاجتماعي. يُعدّ التطبيق أحد أكبر منصات التواصل الاجتماعي، ويتجاوز عدد مستخدميه مجموع من لدى "تويتر" و"سناب شات".
"تينسنت" تفتح "وي تشات" أمام روابط المنافسين تحت ضغط حملة الصين
أنا أعيش في هونغ كونغ وغالباً ما أستخدم "وي تشات" للتواصل مع أشخاص على البرّ الرئيسي. تراسلت مع أصدقائي في إحدى الأمسيات العادية قبل الوباء لنتفق على ملتقى للعشاء، فأرسلوا لي موقع المطعم. طلبت سيارة أجرة واستمعت إلى أغاني تايلر سويفت وحجزت تذاكر لفيلم "سبايدر مان"، ثمّ دفعت لسائق سيارة الأجرة. في المطعم، مسحت رمز الاستجابة السريعة لأطلع على قائمة الطعام. طلبنا أطباقنا وأكلنا وشربنا ودفعنا الحساب وبالكاد تعاطينا مع النادل. في طريق العودة، حجزت تذكرة سفر وإقامة فندقية لرحلتي المقبلة، وقرأت آخر الأخبار وأخبار المشاهير. كلّ ذلك ضمن "وي تشات" وحده.
بالتوازي مع تنامي تأثير "وي تشات"، سجلت شركته الأم "تينسنت" (Tencent) صعوداً صاروخياً سواء لناحية القيمة أو النفوذ على امتداد العقد الماضي، ووصلت في أوج ازدهارها لتكون الخامسة عالمياً لناحية القيمة. استحصلت "تينسنت" على أسهم في "تسلا" و"ريديت" و"سناب" و"سبوتفاي"، إلى جانب حصص في مجموعة واسعة من العلامات التجارية الترفيهية العالمية. كما تقف الشركة خلف صانعي لعبتيّ "فورتنايت" (Fortnite) و"ليغ أوف ليجيندز" (League of Legends)، وتصل عبرهما لشاشات مليارات الأشخاص حول العالم.
تهديد وجودي
لكن فجأة باتت هذه الإنجازات تشكل تهديداً وجودياً لـ"تينسنت" داخل الصين. إذ امتد التطهير الشيوعي النابع عن حملة الرئيس شي جين بينغ الهادفة "للحدّ من التوسع غير المنضبط لرأس المال" ليطال أكبر شركات التقنية. تجد طبقة عمالقة التقنية فاحشي الثراء، الذين كان يمثلهم المؤسس الشريك لـ" تينسنت" بوني ما هواتينغ، نفسها في ورطة اليوم.
يبدو "وي تشات" مصدراً للطمأنينة لدى شي في حين ومصدر للقلق في حين آخر. يجعل انتشاره الواسع منه أداة قوية للمراقبة والسيطرة، حتى أن أحد أعضاء حزبه أساء استخدامه من أجل التجسس على بعض زملائه، على حد قول أشخاص مطلعين على الأمر. كما منح التطبيق المواطنين في ذات الوقت منصة للتعبير عن سخطهم الجماعي، مثلما حصل في الربيع الماضي مع تداعيات استجابة البلاد لفيروس كورونا. واجه ما خيارين: إما أن يعيد تقديم شركته ونفسه انسجاماً مع الصورة التي يطرحها شي للصين الجديدة أو أن يخاطر بخسارة كلّ شيء.
“تنسينت" تقود موجة تخارج بحجم 60 مليار دولار مع تنامي مخاوف التشديد
ولد ما في 1971 خلال الثورة الثقافية في الصين، في حقبة من الاضطرابات العنيفة التي دفعت جيلاً كاملاً للتعامل مع السياسة بحذر. كان قد بلغ من العمر 13 عاماً حين حصل والده، العضو في الحزب الشيوعي الصيني، على وظيفة في شركة موانئ تملكها الدولة في شنجن. كان ما تلميذاً هادئاً حسن السلوك ولم يكن يلفت كثيراً من الانتباه في المدرسة، حسب أساتذته. وكان بارعاً في الرياضيات ومهووساً بالتلسكوبات.
حصل ما على معدل 739 من 900 في امتحان الدخول إلى الجامعة، وهو معدل كاف ليلتحق بجامعة تسينغهوا أو جامعة بكين في العاصمة وهما من أرقى المؤسسات التعليمية الصينية. لكن حصل أمر قبل عام من التحاق ما بالجامعة في 1989، حين نزل آلاف الطلاب إلى شوارع بكين واحتلوا ساحة تيانانمين مطالبين بالديمقراطية. بعد أن اجتاحت الدبابات الساحة وانتشرت صورة الرجل الذي وقف في وجه رتل من الدبابات، قرر والدا ما إبقاءه على مقربة منهما، فالتحق بجامعة شنجن، التي كانت في حينها جامعة جديدة وسط المزارع. بما أن الجامعة لم تكن توفر اختصاص علوم الفضاء، اختار التخصص بعلوم الكمبيوتر.
التأسيس
أسس ما شركته "تينسنت" في 1998 بواسطة أموال كان قد حققها من مشروع سابق، بتكلفة 500 ألف يوان (60 ألف دولار)، أي ما يوازي متوسط أجر 62 عاماً في الصين حينها. في غضون ذلك كان ما وشركاؤه المؤسسين للشركة يعملون في وظائف أخرى. كانت سجلات الشركة تدرج والدة ما كمالكة لـ"تينسنت" ورئيسة لمجلس إدارتها في عامها الأول، وكانت برامج الدردشة محورية لدى الشركة منذ بداياتها تقريباً. حتى أن منتجها الأول "كيو كيو" (QQ) استند إلى برنامج "أي سي كيو" (ICQ) الذي كان رائجاً في نهاية التسعينيات.
بحلول نهاية 2010، كان برنامج "كيو كيو" يحتل مساحة واسعة من وسائل التواصل الاجتماعي والمراسلة على أجهزة الكمبيوتر الصينية، لكن لم يكن له أي وجود على الإنترنت عبر الهواتف المحمولة. كان ما قد بلغ مرتبة الملياردير في ذلك الوقت، وبات أحد الشخصيات الشهيرة في الصين، مع ذلك بقي قلقاً تجاه هشاشة إمبراطوريته. سعت ثلاثة فرق في "تينسنت" لإيجاد حلول للمراسلة عبر الهواتف المحمولة. إحدى تلك الفرق كانت بقيادة ألين تشانغ، الذي اتصل بما في وقت متأخر جداً في إحدى الليالي وطلب منه الإذن لتطوير شبكة تواصل اجتماعي مصممة للهواتف الذكية. منحه ما، الذي غالباً ما يبقى مستيقظاً حتى الرابعة فجراً، موافقته. طُرح "وي تشات" للمرّة الأولى في يناير 2011. قال ما حينها: "كان الأمر مسألة حياة أو موت... حددت السرعة ما إذا يمكن لشركتنا أن تستمر".
مبيعات عملاق التكنولوجيا الصينية "تينسنت" تنمو بأبطأ وتيرة منذ 17 عاماً
لم يكن "وي تشات" ذا منفعة في البداية. فلم يكن مطورو أجهزة الهواتف الذكية قد توصلوا بعد لطريقة جيدة لعرض لوحة مفاتيح صينية على شاشة صغيرة، لذا ببساطة لم يكن أحد يكتب الرسائل النصية. بحث ما وتشانغ عن مصدر إلهام، فدرسا تطبيق "توك بوكس" (TalkBox) الذي كان يكتسب زخماً متنامياً. بدل الطباعة، كان مستخدمو "توك بوكس" يسجلون رسائل صوتية قصيرة.
قال هيثيرم هوانغ الذي ساعد في صنع "توك بوكس" بعد فترة قصيرة من تخرجه من الجامعة حين كان في عامه الـ21 إن "إدخال اللغة الصينية كان أصعب بكثير من الإنجليزية... لهذا كانت خاصية التحدث بضغط زرّ واسعة الشعبية في آسيا". لقد فوجئ حين وجد أن ما وتشانغ كانا بين أوائل مستخدمي هذا التطبيق، لكن توضح الأمر بعد بضعة أشهر حين طُرح "وي تشات" مع خاصية رسائل صوتية تحاكي تلك الموجودة في "توك بوكس". تباطأ نموّ "توك بوكس" منذئذ فيما انطلق "وي تشات".
من شركة إلى ضرورة
اتخذ ما قراراً حاسماً حينها بفتح منصات برامج "تينسنت" أمام مطوّرين خارجيين واقترح أن تتحول "تينسنت" إلى ما يشبه مرفقاً عاماً وجزءاً من البنية التحتية للإنترنت. لذا اختار الاستثمار في الشركات الناشئة بدل التنافس معها، فاستثمر في 800 شركة بالإجمال. سلّمت "تينسنت" محركها البحثي إلى الشركة المنافسة "سوغو" (Sogou) مقابل حصة فيها. وخلال العقد التالي، تحوّل "وي تشات" إلى الموازي الرقمي لخدمات الكهرباء أو المياه.
في موقع "وي تشات" في مدينة غوانجو الجنوبية، يتعرش اللبلاب أكواخاً من الآجر تحت ظلال أشجار الكافور المـتألقة ويخرق صرير الجنادب سكون مجمّع المكاتب الذي تنتشر فيه متاجر بلا صناديق للدفع ومقاهي راقية. يضيف المبرمجون هناك على المنتج الذي ينسج الحياة العصرية في الصين في مساحات مفتوحة كانت في الماضي معامل قطن ماوية.
الصين تطلق حملة لحذف أي محتوى على الإنترنت يضر باقتصادها
لكن "وي تشات" يمدّ الحكومة الصينية بأداة مهمة. إذ يخضع التطبيق لرقابة مشددة ومتابعة حثيثة بتوجيه من المسؤولين في بكين. لكن في ظلّ تقلبات الحياة السياسية في الصين، فإن "تينسنت" قد توقع نفسها في المخاطر حتى حين تتبع الأوامر. في إحدى القضايا البارزة، طلب نائب الوزير السابق للأمن العام صن ليجون من "تينسنت" أن تمدّه بمعلومات حول عدد من زملائه السياسيين، بحسب أشخاص مطلعين على القضية طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم خشية الانتقام.
غضب بكين
طُرد صن من الحزب الشيوعي في سبتمبر واتهمته وحدة مكافحة الفساد في البلاد بـ"بناء نفوذ شخصي وإنشاء مجموعة مصالح". رغم أن الحكومة لم تكشف علناً عن مساعي صن للقيام بأعمال مراقبة، إلا أن هذه المعلومات ظهرت خلال التحقيق بالفساد وأثارت ردّة فعل غاضبة من بكين ضد "تينسنت"، بحسب أشخاص مطلعين على التحقيق. أقرّ متحدث باسم "تينسنت" أن موظفاً سابقاً يخضع للتحقيق على خلفية "مزاعم فساد شخصية"، لكنه نفى أي علاقة لـ"وي تشات" أو نسخة التطبيق المحلية "ويكسين" (Weixin). لم نتمكن من الحصول على تعليق من الموظف السابق المتهم بمساعدة صن بالحصول على معلومات خاصة.
وقعت "تينسنت" في ورطة مرّة أخرى لدى اكتشاف بكين مشروعاً داخل الشركة مصمم للتنبؤ بالخلافة السياسية، حسب أشخاص مطلعين على المشروع. فقد سعت الشركة لاستخدام علم البيانات لتقدير الأشخاص الذين سينضمون إلى اللجنة الدائمة للمكتب السياسي. إلا أن نظام التنبؤ الذي طلب تصميمه الموظف نفسه المتهم بالتجسس لصالح صن لم يكتمل، حسب شخص مطلع على المشروع. بينما قال هذا الشخص المطلع أن ما لم ينخرط بالمشروع، رفضت "تينسنت" التعليق.
"تينسنت" تسجل أبطأ نمو في مبيعاتها منذ عامين بسبب الحملة الصينية
فيما توالت هذه الأحداث في 2019 و2020، توقف ما عن الظهور في الفعاليات العامة. فلم يحضر شخصياً مؤتمراً رفيع المستوى متخصصاً بالذكاء الصناعي في شنغهاي، وغاب عن اجتماع مجلس الشعب الصيني وحفل "تينسنت" السنوي. أُبلغ الموظفون أن ما اضطر للبقاء في المنزل بسبب ألم مزمن في الظهر (هو يعاني من انزلاق غضروف). لكن ما لم يدركه كثيرون أن فضيحتيّ المراقبة وبرنامج التنبؤ بعضوية اللجنة الدائمة في المكتب السياسي دقتا جرس الإنذار في أوساط أعلى مستويات الحزب الشيوعي، حسب أشخاص مطلعين على التداعيات. إذ سلّط ما جرى الضوء على النفوذ الذي يملكه ما، واتخذت بكين قرارها: لا بدّ من كبح "تينسنت".
قوة المنصة
ظهر الاستعراض العلني الأكبر لقوة "تينسنت" في وقت سابق هذا العام. فيما تفشت سلالة أميكرون المتحورة في شنغهاي، تحوّل "وي تشات" إلى أداة لتقييد حركة السكان. فقد خصص رموزاً لونية للمواطنين استناداً إلى مدى تهديدهم الصحي وتاريخ أسفارهم يتعين عليهم تقديمها لدى خروجهم للأماكن العامة. احتجزت الحكومة ملايين الناس في منازلهم وأطلقت حملة اختبارات على نطاق لم يسبق لها مثيل منذ أول تفشٍّ للوباء في 2020. أصبح "وي تشات" أيضاً المنصة التي أتاحت للمواطنين الغاضبين التعبير عن سخطهم في تحرك تحوّل إلى ما يشبه مظاهرات افتراضية.
وجّهت الحكومة أوامر إلى منصات الإنترنت بحذف المنشورات التي تصنّفها سلبية ومنتقدة للسياسات المتبعة لتستعيد سيطرتها على ما يطرح، ما اضطر "وي تشات" لتفعيل المراقبة بأضعاف مضاعفة. زاد ذلك من استياء سكان شنغهاي، وبلغ غضبهم ذروته في أبريل في ظلّ موجة سخط عامة غير مسبوقة.
أكياس النوم تملأ مكاتب التداول وسط إغلاق شنغهاي
لو كان هناك ما يشبه "رجل دبابة" في تلك اللحظة فهو "أصوات أبريل"، وهو عنوان مقطع مصوّر من ستّ دقائق بدأ تداوله على تطبيق "وي تشات" ومنصات أخرى خلال الإغلاق الناجم عن تفشي أوميكرون. مزج المقطع تسجيلات أصوات أطفال يبكون بعد فصلهم عن ذويهم الخاضعين للحجر وسكان يطالبون بالطعام وتوسلات ابن يبحث عن مساعدة طبية لوالده الذي يعاني من وضع خطر. صُنّف المقطع سريعاً على أنه محتوى محظور وحُذف لكن أتى ذلك بعدما شاهده ملايين الناس في شنغهاي وعلى امتداد البلاد. وجد الناس طرقًا إبداعية للتحايل على الرقابة، فقد نشر بعضهم المقطع مقلوباً، وأضاف بعض آخر تركيبات لكلمات أو صور، وأدخل البعض مقاطع إضافية لخداع أنظمة الرقابة الآلية.
ليلة الجمعة 22 أبريل، كانت منتقيات الأخبار على حسابي على "وي تشات" أشبه بشلال من الصور والنصوص التي تنقل المشاعر الحقيقية لوطن. كانت لحظة نادرة سلّطت فيها خدمة "تينسنت" عدسة مكبرة على ألم جماعي. كان ذلك كلّ ما أراد الجميع الحديث عنه، حتى أصدقائي الأشد حذراً على الصعيد السياسي أدانوا الاستجابة الحكومية وقال أحد معارفي: "أشعر وكأنني أشهد حدثاً تاريخياً".
نجوم التقنية
لا دليل على أن "تينسنت" دعمت التظاهرة الإلكترونية لكنها تستمر بالتعرض لعواقب الازدهار الذي حققته. إذ تقوم الشركة بتقليص حجمها من خلال تصفية استثماراتها أو بيع حصصها في أصول التجارة الإلكترونية أو الألعاب الإلكترونية، فيما أمرت الحكومة "تينسنت" بإصلاحات شاملة في أنشطتها المالية. انخفض سعر سهم الشركة إلى نصف ما كان عليه في العام الماضي.
حتى الآن تمكّن ما من تجنّب مصير عديد من نظرائه. فقد تخلى جاك ما، مؤسس مجموعة "علي بابا القابضة" عن مهامه في الشركة في 2019 ويبدو أنه مختبئ. تبعه في ذلك رئيسا " بيندودو " (Pinduoduo) و"جي دي. كوم" (JD.com)، أكبر شركتي تسوق إلكتروني في الصين بعد "علي بابا". كما كان الرئيس التنفيذي لكلّ من الشركة الأم لتطبيق "تيك توك" والشركة الرئيسية المنافسة لها قد تخليا عن منصبيهما العام الماضي. فقد ولى عصر نجوم التقنية.
ألقى بوني ما خطاباً في اجتماع ختام 2021 في الشركة يمكن أن يُستشفّ منه كيف يعتزم الصمود. بدت نبرته متواضعة بل خاضعة. قال للموظفين: "(تينسنت) ليست شركة خدمات بنية تحتية يمكن استبدالها في أي لحظة"، حسب الوسيلة الإعلامية المحلية الإخبارية "لايت بوست". أضاف أن مهمة الشركة يجب أن تكون خدمة البلاد والمجتمع والحرص على أنها "لا تقوم بتجاوزات... يجب أن أكون مساعداً جيداً".