صحفي رياضي نهاراً وثوري سياسي ليلاً

استقطبت كتاباته اهتماماً كبيراً محلياً وخارجياً حين كان مجهول الهوية لكن تغيرت الحال كثيراً بعد ذلك

time reading iconدقائق القراءة - 21
بوبومورود عبد اللاييف - المصدر: بلومبرغ
بوبومورود عبد اللاييف - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كان بوبومورود عبد اللاييف صحفياً رياضياً متمكناً، لكنَّ مهارته الأكبر تمثلت في أنَّه مدون سياسي. هو ينتمي لأسرة طيبة السمعة، ويتقن عمله لدرجة أنَّه كان السبب في أنَّه عاش يخشى الاعتقال. أبقى عبد اللاييف عمله الثاني سراً حتى عن زوجته وأطفاله خلال معظم العقدين الماضيين. كتب مقالات مرحة حول مباريات كرة القدم، ونشر مقاطع فيديو على "يوتيوب" وهو يغني الأغاني الشعبية، لكن في موقع آخر هو عثمان حقنازاروف الذي هز أوزبكستان بإشهاره للتعديات.

ابنة رئيس أوزبكي سابق تحصل على فرصة تحرير 350 مليون دولار مجمدة

ينحدر عبد اللاييف من جمهورية سوفيتية سابقة لا تجاور أي بحر بجوار أفغانستان وكازاخستان، وتشتهر بإنتاج القطن والغاز الطبيعي وبالحكم الاستبدادي. استمر إسلام كريموف عضو المكتب السياسي السوفييتي ببساطة يإدارة البلاد بعد إعلان استقلالها عن الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود. تحولت المخابرات السوفيتية المحلية إلى المخابرات الأوزبكية، واستمر الرئيس كريموف بحكمه الوحشي لربع قرن آخر. أبعدت وعذبت وقتلت وكالاته الاستخباراتية أعداء حقيقيين وآخرين مفترضين، ومنعت وسائل الإعلام الأجنبية، ووضعت الصحافة المعتمدة من الدولة تحت رقابة وثيقة. برغم ذلك، كان هناك شخص واحد لم يكن إسكاته ممكناً، وهو حقنازاروف الغامض. كتب عبد اللاييف مستخدماً اسمه المستعار، الذي يعني "عين الله البصيرة"، نشرات مثيرة للغاية بتفاصيل دقيقة، وسمّى سياسيين رفيعي المستوى وشخصيات عامة أخرى قال إنَّها سرقت ملايين الدولارات من الأموال العامة. شملت هذه الشخصيات العامة مسؤولين في الاستخبارات وابنة الرئيس أيضاً.

بطل شعبي

ساعدت تقارير حقنازاروف لمدة أكثر من عقد على إطلاق تحقيقات دولية ومصادرة حوالي مليار دولار، إذ يقول مسؤولو إنفاذ القانون في أميركا إنَّها تمثل مكاسب غير مشروعة. ذكر صحفي أوزبكي بارز، اشترط عدم كشف عن هويته خوفاً من تعرضه للانتقام، أنَّ المستويات العليا في حكومة كريموف قرأت منذ البداية مدوناته بسخط.

برغم أنَّ حقنازاروف أصبح ما يشبه البطل الشعبي؛ لكنَّ عبد اللاييف أمضى لياليه خائفاً من اكتشاف هويته الحقيقية. قال: "كنت أخشى ذلك اليوم لفترة مديد.". لقد أخفى هويته عن بعض أقرب مصادره لتجنّب تعقبه، ولم ينشر كتاباته من بيته.

مكافحة الفساد بالصين تطيح بأكثر من 20 مسؤولاً في قطاع المال

نفد حظ عبد اللاييف في 2017، أي بعد عام من وفاة الرئيس، وتولى الرجل الذي كان لأمد طويل الثاني في هرم السلطة زمام الأمور. كان عبد اللاييف في طريقه ليستلم سيارته من مشغل ميكانيكي مجاور حين أمسك رجلان بذراعيه، وأجبراه على ركوب سيارتهما، فقد ألبسوا رأسه كيساً أسود اللون بعدما أجلسوه على مقعدها الخلفي. لقد اتُهم بالتحريض على الفتنة والتآمر لارتكاب الخيانة، وقال إنَّه تعرض لتعذيب في جهاز الاستخبارات الخاصة. قال إنَّهم ضربوه، وتركوه يتدلى معلقاً بالسقف وهو مقيد اليدين، كما هددوا باغتصابه بهراوة مطاطية. (قال القاضي الذي أوكل الفصل في قضيته خلال المحاكمة إنَّ الخبراء الطبيين لم يتمكّنوا من تأكيد تعرضه للتعذيب). برأت المحكمة عبد اللاييف لكنَّها حكمت عليه بدفع خُمس دخله للدولة لمدة ثلاث سنوات.

تفشي الفساد

ساعد الغضب الشعبي وموت كريموف بإبقاء عبد اللاييف على قيد الحياة وإطلاق سراحه بعد ستة أشهر تقريباً. لكن حتى بعد إطلاق سراحه، لم يقدم النظام سوى الوهم لضمان سلامته على المدى الطويل. ما يزال الفساد متفشياً في أوزبكستان، وما يزال تطبيق القانون يستخدم التعذيب بانتظام للتحقيق في الجرائم، وبرغم الإصلاحات الصحفية ما يزال الصحفيون الأجانب والمحليون يتعرضون لمضايقات الأجهزة الأمنية، وفقاً لمنظمة "فريدوم هاوس" (Freedom House) غير الحكومية.

ألا يعد منح 200 مليون دولار لمن أبلغ عن سلوك سيئ أمراً جنونياً؟

فرّ عبد اللاييف من البلاد في بدايات العام الماضي ليستقر في برلين، حيث كان يراقب الغزو الروسي لأوكرانيا، ويقول إنَّه قلق من احتمال أن تميل حكومته لمناصرة فلاديمير بوتين. يتحدث عبر قناة يوتيوب جديدة اسمها "فاكت فا فكر" (Fakt va Fikr) أي (الحقيقة والفكر) لصالح حرية التعبير وضد ما يسمى الدستور الجديد، وهو عبارة عن مجموعة تعديلات اقترحها النظام، وقال إنَّها ستركّز المزيد من السلطة في يد السلطة التنفيذية. قال عبد اللاييف: "أركز على المشاكل الشمولية في أوزبكستان. لن يتغير شيء حقاً إذا لم يتغير النظام والدستور".

تميل مقاطع الفيديو هذه على "يوتيوب" لنقد الجانبين، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لرجل قضى نصف حياته كعدو للدولة، إذ يقول بعض النقاد إنَّها تفسد إرث عبد اللاييف. بينما يقول آخرون إنَّه كان غارقاً في الوحل طوال الوقت، لأنَّ منشوراته على مدونته بصفته "حقنازاروف" كانت عرضة للمبالغة والخطأ في بعض الأحيان. قالت أوميدا نيازوفا الناشطة في المنتدى الأوزبكي لحقوق الإنسان: "إنَّ عمله يشوبه التأليف... هذا ليس جيداً لأوزبكستان".

تشويه للتمويه

لا ينكر عبد اللاييف أنَّه غالباً ما كان ينسب الاقتباسات المباشرة إلى أشخاص لم يتحدث معهم أبداً، وكتب كما لو أنَّه كان يعلم ما يدور في خلد الرئيس. قال: "أردت أن تعتقد أجهزة الاستخبارات أني شخص في دائرتهم المقربة"، وساعد هذا لفترة من الوقت على الأقل في إبعاد السلطات عن طريقه. كما يحاجج بأنَّه لو نجح بتخويف الحكومة وجعل تصرفاتها أقل سوءاً، فمن المؤكد أنَّ ما فعله سيكون كذبة بيضاء ناصعة. أما فيما يتعلق بانتقاد المعارضة والنظام على حد سواء، فيقول إنَّه يقول الحقيقة وحسب. مع ذلك؛ تمثل قضية عبد اللاييف مشكلة الحقيقة في عصر المعلومات المضللة؛ إذا لم نتمكن من تصديق المبلغين عن المخالفات حرفياً، فما المغزى منها؟

إذاعات ولدت في الحرب الباردة تستعيد مجدها الإعلامي خلال الحرب في أوكرانيا

ولد عبد اللاييف أثناء الحكم السوفييتي في 1973، وكان الأكبر بين أربعة أطفال حيث نشأ في الريف الغربي لأوزبكستان قرب حدودها مع تركمانستان. سمة التمرد تسري في عائلته، فهو يتذكر بوضوح والده الاقتصادي، الذي توفي عندما كان عبد اللاييف مراهقاً، وهو يسخر من ليونيد بريجنيف مع العائلة والأصدقاء. قال: "لم يكن والدي يخشى أبداً من قول الأشياء كما هي".

حمل استقلال أوزبكستان معه انتخابات وأملاً في إجراء إصلاحات ديمقراطية، لكن سرعان ما تلاشى هذا الأمل حين أحكم الرئيس كريموف سلطته. صُنّفت الدولة الجديدة باستمرار قرب أدنى مؤشر لحرية الصحافة الذي تتابعه منظمة "مراسلون بلا حدود"، وهرب محمد صالح زعيم المعارضة منذ فترة طويلة من البلاد بعدما اتهمه كريموف بالخيانة. ازداد استيلاء الدولة على الأراضي الخاصة طيلة التسعينيات حتى القرن الجديد، وأصبحت الرشوة وسيلة حاسمة للحصول على المناصب الحكومية، وعقود الدولة، والحماية من الملاحقة الجنائية، فضلاً عن الحصول على الخدمات العامة الأساسية، وفقاً لوزارة الخارجية الأمريكية. خلال فترة القمع المتزايد، درس عبد اللاييف فقه اللغة الروسية في جامعة طشقند، وفي عام 1996 عمل بترجمة الوثائق في البنك المركزي في البلاد. قال: "هذا هو المكان الذي تعلمت فيه كيف تضخم الدولة الأرقام وتزور السجلات".

قصص جامحة

بدأت صحوة عبد اللاييف السياسية مطلع 2003، وكان متزوجاً وله ثلاثة أطفال. التقى زعيم المعارضة أتانازار أوريبوف في يوم رأس السنة الجديدة في منزل أوريبوف في العاصمة طشقند. روى أوريبوف لعبد اللاييف بعض القصص الجامحة حول وزير الزراعة الأوزبكي الذي يتصرف كرئيس وزراء في الظل نوعاً ما. بعد أكثر من 24 ساعة بقليل؛ نشر عبد اللاييف أول منشور له على مدونته باسم حقنازاروف على موقع الأخبار المستقل "سينترازيا" (Centrasia)، وبدأ يكتسب مصادر داخل إدارة كريموف.

في السنوات الأولى التي قضاها عبداللاييف بصفته حقنازاروف، كتب عن مؤامرات على مستوى مجلس الوزراء، وعن كيفية تجميع الحكومة لقوائم سرية لأعدائها السياسيين الذين تصنفهم على مقياس من 5 درجات؛ يبدأ بمزعج وصولاً إلى 1 أي تهديد خطير. كتب عن كيفية شراء أي شيء في أوزبكستان الرسمية برشوة، سواء كان منصباً حكومياً أو شهادة جامعية. فقد بلغت تكلفة الإجازة الجامعية 1000 دولار كحد أقصى، كما يقول عبد اللاييف، في حين بلغ سعر الدكتوراه 10 آلاف دولار.

المملكة المتحدة تمنح خريجي الجامعات المرموقة تأشيرات عمل

غمرت التعليقات الغاضبة "سنترازيا"، وسرعان ما انتبه قادة المعارضة لمنشورات حقنازاروف. في الوقت نفسه، بدأت الأجهزة السرية استجواب الصحفيين، فقد اعتقدت أنَّ لديهم فكرة عن هوية هذا المدون، ومن بينهم عبد اللاييف نفسه. يتذكر شعوره بالبهجة لأنَّ عمله كان يقلق النظام، وإنْ تزامن ذلك مع ازدياد خوفه من اكتشافه. ثم شرع بخطوات إضافية لحماية هويته.

روايات الجاسوسية

قال عبد اللاييف إنَّه حصل على أفكار من روايات الجاسوسية، فقد كان يغطي نوافذ شقته بسجاد سميك ليصعب تتبع حركته أو سماع محادثاته فيما كان كان يكتب منشوراً أو يتلقى مكالمة، ثم كان يحفظ مقالاته على أقراص مرنة، ونشرها من مقاهي الإنترنت، ثم أحرق الأقراص المرنة. عندما لم يكن يدون كان يتجنّب بشدة الحديث عن حقنازاروف، وبذل قصارى جهده للعب دور الأحمق. بدت إجراءاته الأمنية ناجحة. يقول اثنان من أهم مصادره إنَّهما لسنوات عديدة لم يكن لديهما أي فكرة عن حقنازاروف. قالت زوجته كاتيا إنَّ زوجها حافظ على مظهر سعيد كما كان دائماً، فلم تلحظ أي شيء مريب. أخبرها عبد اللاييف أنَّ السجاد كان يحجب وهج ضوء الشارع المنعكس على شاشة كمبيوتره. قالت زوجته: "الشيء الغريب الوحيد الذي لاحظته خلال تلك السنوات؛ هو أنَّه كان ينام كثيراً أثناء النهار، وكنت أسأله: كيف ستعرف أي شيء عن العالم وأنت تنام هكذا؟".

كيف يمكن للولايات المتحدة استئصال جذور الفساد بأمريكا الوسطى؟

لم تحظَ قصص عبد اللاييف المبكرة بكثير من الاهتمام خارج أوزبكستان. وفّرت حكومة كريموف قاعدة جوية للمهمات الأمريكية في أفغانستان، وكانت حليفاً قيّماً لإدارة بوش، التي قللت من شأن فساد النظام. بدأ عبد اللاييف في 2010 بالكتابة بانتظام عن غولنارا كريموفا ابنة كريموف، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنَّها المرشحة الرئاسية العتيدة. أغلقت شركتها "زيروماكس" (Zeromax) فجأة، وهي شركة مساهمة كبيرة في الصناعات الغذائية والمنسوجات والوقود الأحفوري والترفيه في أوزبكستان، وقيل إنَّها خلفت وراءها ديوناً غير مدفوعة تبلغ مئات ملايين الدولارات.

غسلت الأموال

بدأت السلطات الأميركية والأوروبية في 2012 بالتحقيق فيما إذا كانت كريموفا قد استخدمت نفوذها في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية لتحصل على رشوة من شركات الاتصالات الأجنبية. صادرت وزارة العدل الأميركية 850 مليون دولار مرتبطة بها في 2017 بزعم أنَّها غسلت الأموال عبر النظام المالي الأميركي. بحلول ذلك الوقت كانت كريموفا قيد الإقامة الجبرية في طشقند، وحكمت عليها المحاكم الأوزبكية بالسجن لمدة 10 سنوات بتهم منها الابتزاز وغسيل الأموال والاختلاس. لكن سرعان ما تم تخفيف العقوبة خمس سنوات من الإقامة الجبرية، وفي عام 2019، في حين اتهمتها الولايات المتحدة بالتآمر لخرق قوانين الفساد الأجنبية؛ فإنَّ السلطات الأوزبكية سجنتها بزعم انتهاكها لشروط إقامتها الجبرية. حكمت عليها المحاكم الأوزبكية بالسجن 13 عاماً إضافياً في 2020، بعد وقت قصير من عرضها إعادة 686 مليون دولار إلى خزينة البلاد مقابل رفض قضيتها.

في سويسرا.. محاكمة درامية يخوضها بلاتيني وبلاتر حول شبهات فساد في الفيفا

قال عبد اللاييف: "كنت سعيداً بالقبض عليها... فقد أثبت ذلك كثيراً من عملي".

لكنَّ تقاريره عن هذه الفضيحة الضخمة شوّهت صورته أيضاً. كان عبد اللاييف حينها قد بدأ العمل مباشرة مع صالح، زعيم المعارضة المنفي، وبدأت دقة الاستقصاء في تقاريره تنحسر واستبدلها بحشو فارغ. كتب عن مشاهد متطرفة ليس بإمكانه دعمها بالأدلة مثل ضرب السياسيين بمنافض السجائر على وجوههم، وأنَّ الرئيس يبكي ويضحك بالتناوب بمفرده بجنون. في إحدى منشورات حقنازاروف في 2017 ادّعى المدون أنَّ رئيس أجهزة الأمن الأوزبكية كسر ساقيه في حادث، لكن رئيس الأمن ظهر على الهواء مباشرة في اليوم التالي وهو يسير على ما يرام.

قال عبد اللاييف إنَّ صالح كان مصدر تلك المعلومة. ينفي صالح ذلك، ويقول إنَّ كل ادعاءات عبد اللاييف عنه كاذبة. يقول عبد اللاييف إنَّه بالغ في بعض التفاصيل وغيّرها، لكنَّ جوهر القصص كان صحيحاً دائماً.

إصلاحات ديمقراطية

توفي كريموف في 2016، وتولى رئيس الورزاء شوكت ميرزيوييف الرئاسة، وأجرى بعض الإصلاحات الديمقراطية، وقلّص سلطة أجهزة الاستخبارات، لكنَّه مثّل أيضاً استمرارية لعهد كريموف. قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إنَّ الرئيس الجديد أمضى سنوات يشرف على العمل الإجباري، بما في ذلك عمالة الأطفال، في المنطقة المنتجة للقطن. بقيت أوزبكستان في أدنى مستويات مؤشر حرية الصحافة العالمي. اتصل صالح بعبد اللاييف في وقت مبكر من صباح أحد الأيام بعد عام من تولي ميرزيوييف للسلطة ليقول: "أنا قلق فالأجهزة الأمنية تعرف من أنت". قبضوا عليه بعدها بساعات قليلة.

لم يعد عبد اللاييف وصالح يتحدثان. قال لي عبد اللاييف في برلين وهو يحتسي الشاي بالنعناع: "أعتقد أنَّني تعرضت للخيانة". أطلقت الحكومة الأوزبكية سراح شقيق صالح، وهو سجين سياسي، في بداية 2017، ويقول عبد اللاييف إنَّه يعتقد أنَّ اعتقاله كان جزءاً من مقايضة. ينفي صالح ذلك بشدة، ولم أجد أي شخص يمكنه تأكيد ادعاءات عبد اللاييف هذه.

شيوعيّو روسيا.. مصدر الصداع القادم لـ"بوتين"

مهما كان السبب، ما يزال عبد اللاييف يحمل ندوباً نفسية بسبب اختطافه وسجنه. التقيت به خارج المبنى الذي يقطنه في حي كروزبرغ في برلين في وقت متأخر من صباح أحد أيام الخريف الماضي. إنَّه أقصر وأكثر بدانة مما يبدو عليه في صوره ووجهه غير الحليق، وهناك هالات سوداء تحت عينيه البنيتين. يبدو أنَّه متوتر ومضطرب ويتحدث الإنجليزية ببطء وبنطق جيد، لكنَّه انتقل إلى استعمال اللغة الروسية بمجرد وصول مترجمنا. اصطحبني إلى شقته الصغيرة ليخبرني عن أسوأ فترة في حياته.

قال إنَّ الكيس بقي يغطي رأسه لنحو 20 دقيقة فيما كان في سيارة الرجال الذين اختطفوه، لكنَّ الأمور ساءت بمجرد إزالة الكيس.

اقتادوه إلى قبو، وكبلوه وجروه إلى حجرة ضيقة حيث علقوه من يديه ليتدلى من حلقة حديدية كبيرة في السقف. ثم ولج رجلان جديدان الغرفة، وأشارا إلى زجاجة في الزاوية، وقالا له إنَّها ستكون مرحاضه. أمضى الليل متدلياً من السقف مثل كيس ملابس مبتلة غير متأكد ما إذا كان سيعيش أم سيموت. أحضر له رجل طبق البطاطا المهروسة في الصباح ثم اصطحبه إلى غرفة أخرى، وهناك طالبه اثنان من المحققين بالاعتراف بهويته المزدوجة، ثم ضرباه بأنبوب بلاستيكي وهراوة خشبية، وهددوا باغتصابه هو وابنته إنْ لم يتعاون معهما.

محاكمة ودماء

استمر التعذيب حوالي ستة أشهر، على حد قول عبد اللاييف، إلى حين بدأت محاكمته. خلال ذلك الوقت، كان ينام على ثلاثة مقاعد كان قد وضعها بجانب بعضها في زنزانته الفارغة. قال إنَّ رئيس المحققين حرمه من توكيل محامٍ، وقال له: "أنت تشرب دماءنا منذ 15 عاماً، والآن سنشرب من دمك".

نظراً إلى أنَّ عبد اللاييف لم يكن يخجل من نشر الحقيقة، سألته عن مقدار المبالغة في هذه القصة. فأصر على أنَّ كل هذا صحيح. لا يمكن إنكار أنَّ عبد اللاييف الذي مثل أمام المحكمة في 2018 أصيب بصدمة نفسية. أخبرني العديد من الشهود أنَّه بدا هزيلاً، ووصفت تقارير إخبارية حينها أوردة يديه بأنَّها تبدو منتفخة بشكل واضح من على بعد عدة أمتار.

دفاعاً عن "المعلومات المضللة"

اتُهم عبد اللاييف في المحكمة بالتحريض على الفتنة والتآمر لقلب حكومة أوزبكستان. بالإضافة لتبيان أنَّه حقنازاروف؛ زعمت الأجهزة الأمنية أنَّها عثرت على وثيقة رقمية تشير إلى أنَّه كان يخطط لانقلاب مع ثلاثة أشخاص. قال سيرغي ماغوروف، محامي عبد اللاييف للمحكمة، إنَّ الملف حُمّل على كمبيوتر الصحفي خلال احتجازه.

لحسن حظ عبد اللاييف، كان الرئيس ميرزيوييف يسعى للحصول على مساعدات خارجية لتمويل أجندته الاقتصادية، وجاءت المحاكمة كفرصة لإظهار ما حقّقته إصلاحاته الديمقراطية. برغم إدانة عبد اللاييف بكتابة مقالات مناهضة للحكومة بصفته حقنازاروف؛ أُسقطت قضية التحريض لغياب أدلة تربطه بالوثيقة، وأُفرج عنه في مايو 2018 بعد سبعة أشهر في السجن، ثم بدأ العمل في مصنع زجاج وكان عليه دفع 20% من راتبه للدولة كشرط للإفراج عنه.

جدوى محدودة

كان إطلاق سراح عبد اللاييف معجزة صغيرة بالمعايير الأوزبكية، فقد كان يمكن قتل معظم المتهمين بالتحريض على الفتنة أو في أفضل الحالات سجنهم لفترة طويلة جداً فيما مضى. قال عبد اللاييف إنَّ هذا لم يخفف عنه كثيراً فقد قهرته معاناة أسرته، وأقضت ذكريات عذابه مضجعه. لكنَّه شعر بالفخر حين بدأ بالعمل، وكان يأمل أن يلهم الآخرين كي يواصلوه. أُطلق سراح الصحفيين الأوزبكيين المسجونين الآخرين، وأصبحت المواقع الإخبارية التي حجبتها الحكومة قابلة للقراءة مرة أخرى، وبات بإمكان وسائل الإعلام الأجنبية التقدّم بطلب للحصول على موافقة للعمل.

ما زال هناك الكثير مما ينبغي فعله. وجدت لجنة تابعة للأمم المتحدة في 2019 في معرض استعراضها لسجل أوزبكستان في الحقوق المدنية والسياسية أنَّ التعذيب والانتهاكات ذات الصلة بسلطة الدولة ما تزال تُرتكب "بيد مسؤولين عموميين أو بموافقتهم أو بإذعانهم". هذا يعني أنَّ الأجهزة الأمنية ما تزال تتبع المدرسة القديمة، كما أنَّها تتبنى ضغائنها. في أغسطس 2020، بينما كان عبد اللاييف زميلاً في الجامعة الأميركية لآسيا الوسطى في بيشكيك بقرغيزستان، اتهمته الحكومة الأوزبكية مجدداً بالتحريض على الفتنة، مدعية أنَّه كان يكتب خطابات مناهضة للحكومة عبر "تيليغرام" و"فيسبوك" باسم "كورا ميرغان" الذي يعني القناص الأسود. اعتقلت الحكومة القرغيزية عبد اللاييف، وسلّمته إلى طشقند.

30 عاماً على التفكك.. لينين لا يزال حياً والاتحاد السوفييتي لم يمُت بعد

لكن في هذه المرة أقام الصحفي في عهدة الدولة ليومين فقط، لأنَّ كورا ميرغان استمر بالنشر أثناء حبسه. كاعتذار عن ذلك؛ منح ميرزيوييف الصحفي شقة من ثلاث غرف نوم في طشقند. وقد قبلها عبد اللاييف، كما أنَّه أشاد بكرم الرئيس مثيراً دهشة الجميع، لكنَّه لم يستمتع بها طويلاً. فقد قبل بعد بضعة أشهر زمالة مع منظمة "مراسلون بلا حدود" الساعية لحرية الصحافة، وانتقل إلى برلين تاركاً وراءه زوجته وأطفاله وأمه المسنّة.

قالت زوجته كاتيا إنَّ بقية أفراد الأسرة مروا بأوقات عصيبة في طشقند، حتى مع شقتهم الجديدة. تعيش ابنتاها معها هناك، بينما يدرس ابنهما الذي أصبح في سن الجامعة في تركيا. كلّفتهم الإقامة في الشقة كمقياس للتقارب مع ميرزيوييف خسارة أصدقاء وحلفاء قدامى، لكنَّهم لا يشعرون أنَّهم بعيدون عن أعين النظام أيضاً، ونادراً ما يزورهم الضيوف. كانوا يتوقَّعون بدء فصل جديد من حياتهم في أوروبا، لكنْ عبد اللاييف، الذي استكمل مهمته مع "مراسلون بلا حدود" أواخر العام الماضي، يقول الآن إنَّه يخطط للعودة إلى أوزبكستان بدلاً من ذلك، لكنَّه ليس متأكداً تماماً متى يكون ذلك.

وحيد في شقة

في برلين كان عبد اللاييف يعمل في الغالب على كتابة سيرته الذاتية، التي تحمل عنواناً مبدئياً، وهو: "سرٌ ضد الأسرار"، وكتاب يدعو لإصلاحات على الدستور الأوزبكي سمّاه "استيقظ". لا تبدو هذه كقائمة مهام رجل خاضع، لكن في ظهيرة اليوم الثاني الذي أمضيته معه، لاحظت كيف يبدو متعباً ومهزوماً. يقال إنَّه يصعب عليه أن يعيش بمفرده في شقة صغيرة في بلد لا يتكلم لغته.

تركز مقاطع فيديو قناة عبد اللاييف "فاكت فا فكر" على "يوتيوب" على الإصلاحات الدستورية، مع عناوين مثل "سبع طرق للتخلص من الفساد، توصيات للرئيس"، وعلى رأس تلك القائمة: التخلي عن بند الدستور الجديد حول تمديد أمد الولايات الرئاسية. لا يخجل عبد اللاييف من انتقاد قادة المعارضة الأوزبكية أيضاً لما وصفه بفشلهم بالدفاع عن الشعب الأوزبكي. أضاف أنَّ صالح ورفاقه لا يغامرون إلا قليلاً جداً لدعم الاحتجاجات الشعبية والتحديات الانتخابية، مما يجعل من السهل جداً على الديكتاتور الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها.

أصبح إرث عبد اللاييف الخاص نوعاً ما بمثابة اختبار رورشاخ للإصلاحيين في أوزبكستان. يجادل مؤيدوه الذين رأوا ذلك أن َّعمله يغيّر العقول، ويجلب قدراً من المساءلة للنخب، التي ظنت منذ فترة طويلة أنَّه لا يمكن المساس بها، وأنَّه فعل الكثير لتعزيز أجندة الديمقراطية في البلاد أكثر من العديد من السياسيين المعارضين. أما الذين لا يرتاحون لالتزامه الفضفاض أو من أغضبهم قبوله لشقة الاعتذار؛ فيقولون إنَّه أصبح أداة للنظام. قالت ناديجدا أتاييفا، رئيسة جمعية حقوق الإنسان في آسيا الوسطى: "لقد أصبح سلوكه ضاراً بالصحافة المستقلة في أوزبكستان، وقد فقدت ثقتي به".

يرفض عبد اللاييف بإصرار فكرة أنَّه جزء من أصول الحكومة، ويقول: "أنا لست في صف أحد". لكنَّ موقفه أكثر ضبابية مما كان عليه عندما كان مجهولاً، وبهذا ربما قد انتصر النظام. حين كان حقنازاروف كان بإمكان عبد اللاييف أن يكون كما يريده أي شخص، لكنْ بلا قناع عاد ليكون رجلاً فحسب.

تصنيفات

قصص قد تهمك