بلومبرغ
يبدو الزمن الذي تصدّرت فيه الأزمة المالية الكبرى الصفحات الأولى بعيداً جداً عنكم، إذ لم يمر سوى 15 عاماً منذ انهار اثنان من صناديق التحوط التابعة لشركة "بير ستيرنز" (Bear Stearns) في أزمة الرهون العقارية عالية المخاطر. ازدادت قائمة الضحايا لتشمل "ميريل لينش" وبنك "وتشوفيا" (Wachovia) ومؤسستي الرهن العقاري "فاني ماي" (Fannie Mae) و"فريدي ماك" (Freddie Mac)، وكان أشهرها بنك "ليمان برذرز" (Lehman Brothers)، فلم يعد أي منها مُدرجاً بين الشركات الكبيرة في البورصة. ساهمت جهود مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقوة في احتواء أضرار النظام المالي، فيما فقد الملايين وظائفهم ومنازلهم في الاقتصاد الحقيقي.
لم تكن تلك أول مرة يعطي فيها الاحتياطي الفيدرالي الأولوية لـ"وول ستريت" على حساب الأطراف الأضعف؛ فقد تعامل البنك المركزي الأميركي منذ ثمانينيات القرن الماضي استباقياً لضبط التضخم، وهو ما أضر بذوي الارتباط الضعيف بسوق العمل. كان الاعتقاد السائد هو أنَّه إذا استقر الاقتصاد في ظل وجود معدل بطالة منخفض للغاية؛ فإنَّ محاولة الحصول على الكفاءات النادرة سترفع الأجور. بعدها يجب تحميل تكاليف العمالة المتزايدة للمستهلكين الذين سيحتاجون بعد ذلك- باعتبارهم من العمال- لزيادات في الأجور كي يواكبوا ارتفاع الأسعار. صمم رئيس الاحتياطي السابق بول فولكر هذا العلاج المؤلم للتخلص من مثل هذه الدوامة، ثم ركز الاحتياطي الفيدرالي على إبقاء التضخم منخفضاً منذ ذلك.
تسبّب هذا بتخلف كثير من الموظفين عن الركب، فغالباً ما كان يُسحب البساط من تحت أقدام من لم يحصلوا على عمل منتظم حتى وقت متأخر من الدورة الاقتصادية بمجرد أن يبدأُوا بصعود الدرج الاقتصادي. لذا بدا الاحتياطي الفيدرالي للكثيرين متحيزاً لجانب وول ستريت، وليس للفئات الضعيفة.
مؤسسة للشعب
أعاد الاحتياطي الفيدرالي بقيادة جيروم باول إخراج نفسه رداً على مثل هذه الانتقادات ليكون مؤسسة للشعب، وبذل جهوداً كبيرة لجعل موظفيه أكثر تنوعاً، ولجعل أهداف سياسته أكثر شمولية، والأهم من ذلك كان السماح بأن يفرط الاقتصاد نشاطاً عبر إطالة دورته ليتمكّن المزيد من الناس من الحصول على وظائف.
ثم أتى التضخم، وتغيّرت الحسابات كافة، فتضررت أضعف الفئات اقتصادياً بعد أكبر زيادات في الأسعار منذ أربعة عقود. بدأ الاحتياطي الفيدرالي بالاستجابة، إذ باشر حملته الأقوى لرفع الفائدة منذ جيل.
تضررت "وول ستريت" أيضاً بسبب ذلك. تراجعت الأسهم عند هبوط الأسواق، وشهدت سندات الخزانة الأميركية أسوأ عام في تاريخها، لكن لم يتراجع الفيدرالي عن قراره حتى بعدما أظهر أحدث تقرير لمؤشر أسعار المستهلك أنَّ التضخم بلغ 8.6%. كان في ذلك سخرية؛ فقد كان الاحتياطي الفيدرالي بصدد مراجعة كبيرة لإطار سياسته النقدية متوجهاً من المؤتمر الصحفي الذي جرى في 27 أغسطس 2020 حين انتشر الوباء العالمي، وأعلن فيه باول أنَّه ينتقل إلى نظام مصمم خصيصاً لضمان أنَّ التضخم ليس منخفضاً للغاية!
لدينا الآن مشكلة معاكسة، وما شهدناه مع التضخم هو بمثابة ضريبة أثّرت بشدة في أفقر الفئات وأقلها دخلاً.
قد يضطر الاحتياطي الفيدرالي للاستمرار برفع الفائدة للقضاء على التضخم، فيتسبّب بمعاناة في "وول ستريت" ولدى الفئات الضعيفة.
تضخم متعدد الأسباب
ظهر في البداية أنَّ التضخم سببه سلاسل التوريد التي تعثّرت بسبب إغلاقات الوباء، ثم غزت روسيا أوكرانيا، مما زاد الضغط التصاعدي على أسعار النفط والغذاء. ارتفعت أسعار الأنشطة الترفيهية والبنزين لأنَّ الناس باتوا قادرين على السفر البري مع تراجع القيود لأول مرة بعد ثلاثة أصياف. بدأ التضخم مع مرور الوقت بالتسرب إلى مجالات أخرى من الاقتصاد، فارتفعت الإيجارات بسرعة، وهي أكبر جهة إنفاق للأسر التي لا تملك المنازل.
قال الاحتياطي الفيدرالي إنَّه ما يزال ملتزماً بجعل الاقتصاد أكثر استيعاباً، وهو يعتبر التضخم تهديداً مباشراً لهذا الهدف. بدأ باول مؤتمره الصحفي بعد اجتماع سياسة في مايو مخاطباً الشعب الأميركي مباشرة. قال: "التضخم مرتفع للغاية، كما أنَّنا نتفهم المصاعب التي يسببها، ونتحرك بسرعة ليعود للانخفاض".
شهدنا حتى الآن رفع سعر الفائدة المستهدف من بنك الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 0.75 نقطة مئوية إلى نطاق يتراوح بين 0.75% و1%. لكنَّ الفيدرالي قد يكون على استعداد لرفع أسعار الفائدة 1.5 نقطة مئوية خلال الشهرين المقبلين وحدهما. يعتقد بعض الاقتصاديين أنَّ البنك سيرفع الأسعار بأكثر من ثلاث نقاط مئوية مما هي عليه الآن قبل أن يتوقف.
ماذا لو لم يَكفِ ذلك لكبح جماح التضخم؟
لا يمكن للسياسة النقدية أن تفعل شيئاً حيال صدمات الإمداد، ولا يمكنها إنتاج المزيد من رقائق الكمبيوتر، ولا تنشيط الموانئ، ولا ضخ المزيد من النفط. لكن يمكنها تقليل الطلب عبر رفع الفائدة، وجعل الرهون العقارية واقتراض الشركات أكثر تكلفة. يضمن ذلك عملياً طرد بعض الأشخاص من عملهم.
هل لدى الفيدرالي أي خيار آخر؟ بعد انتظاره صدمات التضخم في 2021؛ أصبح البنك اليوم في وضع غير مريح على الإطلاق.
إنَّ السيناريو الأفضل هو ما يسميه الاحتياطي الفيدرالي الآن هبوط الاقتصاد بهدوء، إذ يتباطأ النمو والتضخم سوية، فضلاً عن بعض التأثير في الأسر ذات الدخل المنخفض التي تدعمها بقايا مدخرات الجائحة، واستمرار ارتفاع الوظائف والأجور.
يمكن للأميركيين أن يأملوا، لكنْ ربما لم يعد وقف التضخم ممكناً دون أن يأمل الجميع.