بلومبرغ
حين يفتك فيروس تنفسيّ بنحو 15 مليون إنسان في عامين تكون تلك لطمة للبشرية، وهذا ما فعله كورونا، وفقاً لأرقام تقديرية شملت الوَفَيَات غير المباشرة أعلنتها منظمة الصحة العالمية في 5 مايو. لقد أدى ميكروب واحد إلى زعزعة النظم الصحية وزلزل الاقتصادات وأربك قادة الحكومات حول العالم.
بينما يتأقلم العالم مع أزمة كورونا تُفاجِئنا الطبيعة بمزيد تحديات، مثل تفشي جدري القردة النادر، والانتشار الغامض لالتهاب الكبد لدى الأطفال. إننا نعيش لحظة تجعل العقلاء يتواضعون بعدما اعتدنا أننا من يستحق أشكال الحياة الأخرى، بدل أن نتلقى ضرباتها.
34 متطوعاً اختاروا الإصابة بفيروس كوفيد بشكل متعمد.. إليك ما تعلّمه الباحثون من ذلك
لكن ما سبب تعثرنا الهائل هذا؟ باختصار، نادراً ما كنّا بارعين في التعامل مع الأمراض المعدية التي تتفشى على نطاق واسع، فإذا عدنا إلى تاريخ الأمراض المعدية على امتداد آلاف السنين وباختلاف حقب التقنية، لوجدنا أن المجتمعات كافة كانت تستجيب بطرق انهزامية مشابهة.
إنّ الإنسان في طبيعته مصمّم للاستجابة إلى المخاطر التي يستطيع رؤيتها والإحساس بها في الزمن الحاضر، وليس مع الأحداث الحيوية غير المرئية ومتغيرة الأشكال التي تطرأ بين حين وآخر. قد تؤدي الاستراتيجيات التي طوّرها الإنسان إلى تفادي المرض على الصعيد الفردي لدوامات واسعة من الاضطرابات على صعيد المجتمع.
تفرقنا الأوبئة وتدفعنا للبحث عن طرق للعثور على كبش فداء من الخارج وتحميله المسؤولية، كما تجعلنا أكثر عرضة لتصديق نظريات حول مؤامرات لا أساس لها، لنبرر أفعالنا أو لنستخفّ بالمخاطر. وتظهر البحوث المستندة إلى "نظرية الألعاب" أنه كلّما طالت الأزمة الصحية قلّ احتمال أن يُقدِم الناس على التضحيات المشتركة اللازمة للحفاظ على الصحة العامة.
فوضى عظمى
قال المؤرخ العسكري القديم ثيوسيديدس في كتابه "تاريخ الحرب البيلوبونيسية" إن طاعون أثينا الذي يُعتقد أنه قضى على ربع سكان المدينة في القرن الخامس قبل الميلاد قد "شكّل بداية الانحدار نحو الفوضى العظمى".
هزّ عدوّ فيروسي الولايات المتحدة بعد 25 قرناً، فسجلت ارتفاعاً في جرائم القتل والكراهية. كما طرح الوباء والتشكيك باللقاح تحديات لمسؤولي الصحة العامة، رغم وفاة أكثر من مليون أمريكي. قال أنتوني فاوتشي، كبير مسؤولي الأمراض المعدية ومدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، في نهاية 2020: "نواجه وباءً تاريخياً فعلياً، لكن الناس يشعرون بأنه غير حقيقي".
هل "كوفيد" وراء ارتفاع إصابات الأطفال بالتهاب الكبد؟
ينبغي التصدّي لمسببات الأمراض التي تنتشر بصمت في الطبيعة أو التي تحملها الحيوانات البرية أو الماشية قبل أن تنتقل إلى المجتمعات البشرية، كي نستطيع التعامل مع تفشي فيروسات أو بكتيريا في المستقبل. يتطلب ذلك استثمارات مستدامة طويلة الأمد في أنظمة المراقبة الحيوية التي تترصد المخاطر الميكروبية على مستوى الجزئيات. لا بدّ من فهم أفضل بكثير لسلوكيات هذه الكائنات المجهرية والمخاطر التي تشكلها.
معظم الميكروبات غير مؤذٍ، حتى إنها مفيدة من حيث التعايش. لكن يمكن لفيروس عابر للأجناس مصدره الطيور أن يودي نظرياً بحياة مئات ملايين البشر. حين يصل مسبب المرض إلى المراكز الحضرية، غالباً ما لا تتجاوز نافذة الاستجابة له بضعة أسابيع. فإذا انتظر القادة لفترة طويلة فقد يضطرون إلى الاختيار بين ضدين، فإما إنقاذ الأرواح وإما إنقاذ الاقتصاد. تسببت الإغلاقات في الصين مثلاً في حدوث موجات من الصدمة في اقتصادها وصلت ارتداداتها إلى سلاسل الإمداد العالمية.
عقلية بائدة
لا شكّ أن حكومات الدول الثرية تولي مخاطر الأوبئة كثير اهتمام، إلا أن التمويل العلمي يركز على الأمراض والميكروبات المعروفة أكثر من مخاطر قد تأتي مستقبلاً. قال دينيس كارول، المدير السابق لوحدة الإنفلونزا الوبائية والتهديدات الناشئة الأخرى في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية: "نحن لا نزال عالقين في عقلية القرن العشرين القائمة على العثور على مسبب المرض لتطوير لقاح، ثم انتظار مسبب المرض التالي".
يرجح أن يكتسب التعرف على كيفية تبادل الميكروبات للمورثات وتعاونها ضمن شبكات عابرة للأجناس تسمى "ميكوروبيوم" اهتماماً خاصاً في العقود المقبلة. هذه الكائنات الحيوية بيولوجية متناهية الصغر انتعشت على مدى نحو أربعة مليارات سنة، وتمكنت من البقاء في ظروف بيئية قاسية تراوحت بين فوهات حرمائية حارقة في قاع المحيطات ومحطة الفضاء الدولية. لاكتشاف الأسرار الجينية للميكروبات منافع تتجاوز الوقاية من الأوبئة، فعلم الميكروبات أساسي لمواجهة كل التحديات الكبرى التي تتهدد الحضارة البشرية، من الأمن الغذائي إلى الأسلحة الجرثومية وصحة المحيطات إلى التغير المناخي وكثير غيرها.
هل نطرح الكمامات بعد الاستغناء عنها في السفر جواً؟
تعيد بيئات الميكروبيوم في المحيطات والقطب الشمالي والأمازون تدوير الغازات الدفيئة، مثل ثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروس والميثان، إلا أن ارتفاع درجة حرارة الأرض قد يغير أيضاً هذه الميكروبات فيقوّض دورها. تُظهِر دراسات دلائل على زيادة انبعاثات الميثان من أنظمة تخزين الكربون الطبيعية، المسماة "مصرّفات" في مناطق الجليد الدائم الذي بدأ يذوب، وفي الغابات المطيرة الآخذة بالانحسار.
لم تتوفر لدى علماء الأحياء والمورثات حتى هذا القرن سوى أدوات تحقيقية قليلة تمكّنهم من استكشاف هذا العالم الغريب المجهري، لدرجة أن بعض العلماء وصفوا الميكروبات والحمض النووي الذي تحتويه بالمادة المظلمة. لكن التغيير أتى بفضل الاتساع السريع للرقمنة في مجال التقنية، إذ فتحت تقنيات دراسة التسلسلات المتطورة وتقنيات الحوسبة عالية الفاعلية والذكاء الصناعي وتحليلات البيانات الكبرى الباب أمام تحليل الجزئيات الأساسية حاملة المعلومات في عالم الميكروبات المتنوع والمكتظ. أسهمت الدقة العالية لتقنية "كريسبر" لتعديل الجينات، التي تستند إلى ما تعلمناه عن الطريقة التي تنسخ بها البكتيريا الحمض النووي للفيروسات المفترسة وتقطعه، في منحنا قدرة على معالجة الاضطرابات الوراثية وإطالة الأعمار الافتراضية وتعزيز الإنتاج الزراعي.
تطور هائل
شهد في هذا القرن قفزة هائلة في قدرتنا على قراءة وتعديل وإعادة تصميم شفرة المصدر الجيني للخلايا والأنظمة الحيوية. فإذا وضعت مقدار ملعقة صغيرة من الرمل أو مياه البحر في جهاز تسلسل، فستحصل على غيغابايت من المعلومات الجينية التي يمكن استخدام بعضها في تطبيقات جديدة في المجال الغذائي أو صنع مواد حيوية جديدة.
نشأ الإنسان المعاصر في عالم مشبّع ميكروبياً، إذ يوجد نحو 10 نونيليونات (10 يليها 30 صفراً) من الفيروسات الفردية، أي أكثر من عدد النجوم في الكون المرئي. ويوجد نحو خمسة ملايين تريليون تريليون بكتيريا.
قال كريستوفر ماسون، عالِم الوراثة وأستاذ علم وظائف الأعضاء والفيزياء الحيوية في كلية "وايل كورنيل" للطب في نيويورك، إنه لدى إجراء دراسة تسلسل لجزء من خريطة المورثات البشرية، غالباً ما يُعثَر على أجزاء مشتقة من الحمض النووي الميكروبي القديم. ألهم الانتشار الواسع للميكروبات مايسون على صنع خريطة جزئيات لها برصدها في بعض أكبر مراكز النقل في العالم.
لم تُصَب بعدوى كوفيد حتى الآن؟ قد تحمل سرّ القضاء على الفيروس
أمضى فريق مايسون ثلاث سنوات في جمع عينات مسحات ميكروبية ودراسة تسلسلاتها وتحليلها من أكثر من ستين محطة نقل عالمية، إذ يحتكّ مليارات الركاب مع تريليونات الميكروبات. وفي عام 2012 أعلن تكتله "ميتاجينومية وميتاديزان قطارات الأنفاق والمناطق الإحيائية الحضرية" (Metagenomics and Metadesign of the Subways and Urban Biomes (MetaSUB)) في 2012 عن اكتشاف أكثر من 10 آلاف نوع من الفيروسات والبكتيريا لم تكن معروفة. قال مايسون: "اعتقد الناس أن البحث عن مسببات الأمراض سيكون مجهداً جداً ومكلفاً جداً... يدفع الناس الضرائب لتمويل الجيش الذي يدافع عن أمن أمتنا، ومسببات الأمراض هي أعداؤنا بشكل من الأشكال".
قادت جونا مازيت، عالمة الأوبئة والمتخصصة بعلم البيئة المرضي في كلية ديفيس للطب البيطري في جامعة كاليفورنيا، مجموعة صمّمت برنامجاً لمراقبة الأمراض يحمل اسم "بريديكت" (Predict) وتمكنت أنظمته التشخيصية من تحديد فيروسات جديدة يُعتقد أنها تشكل خطراً مرتفعاً لاحتمال تفشي الأمراض المعدية. اكتشف الباحثون في "بريديكت" في 2018 أنواعاً جديدة تماماً من سلالة "إيبولا" الفيروسية تحمل اسم "بومبالي إيببولافيروس" ودرسوا تسلسلها الوراثي، كما وجدوا فيروس "ماربورغ" شديد الفتك في خفافيش في سيراليون بغرب أفريقيا.
تلاقي علمين
أثبت الذكاء الصناعي نفسه بوصفه أحد أنواع التقنية التحويلية في سباق التطور بيننا وبين الميكروبات. استخدم فريق بقيادة عالِم الأحياء التركيبية جيمس كولينز في معهد ماساتشوستس للتقنية في مطلع 2020 نظام ذكاء صناعي مصمماً استناداً إلى الشبكات العصبية في دماغ الإنسان لاكتشاف مضاد حيوي فريد من نوعه بنيوياً، فعّال ضد سلالات خطرة من بكتيريا الإشريكية القولونية والسلّ المقاوم للأدوية. أطلقوا على هذا المضاد الحيوي اسم "هاليسين" (halicin) تيمناً بكمبيوتر السفينة الفضائية "هال 9000" (HAL 9000) من فيلم "2001: A Space Odyssey". قال إيريك شميت، رئيس "غوغل" التنفيذي السابق والمستثمر في مجال علم الأحياء التركيبي، إنهم "أخذوا 100 مليون مركب كيميائي وأدخلوه إلى نظام ذكاء صناعي تمكّن من اكتشاف كيف تعمل البروتينات والكيمياء الجزيئية دون تلقينه ذلك... لقد اكتشف البرنامج ذلك فعلاً".
هذا ما يخبئه الوباء للعالم مستقبلاً
كما فكّت شركة "ديب مايند تكنولوجيز" (DeepMind Technologies)، ذراع الذكاء الصناعي لشركة "ألفابيت" مالكة "غوغل" ومقرّها لندن، شفرة واحد من التحديات الأكثر تحييراً في علم الأحياء، وهو توقّع الشكل الثلاثي الأبعاد لبروتين انطلاقاً من سلسلة الأحماض الأمينية الخاصة به. فقد طوّرت الشركة، التي أنشأها عبقري الشطرنج وعالِم الأعصاب ديميس هاسابيس، برنامج تعليم متعمق يُظهِر بدقة هندسة البروتينات، التي تُعَدّ اللبنات الأساسية للحياة. يمكن فهم كثير عن وظيفة البروتين من خلال فهم شكله. أتاحت "ديب مايند" ومختبر علم الأحياء الجزئية الأوروبي في منتصف 2021 قاعدة بينات البنية المتوقعة لنحو 20 ألف بروتين تظهر في الجينوم البشري وفي عشرين نموذجاً من الميكروبات وجعلتها مفتوحة المصدر.
استهداف البعوض
تعمل الهندسة الحيوية أيضاً على تعطيل نواقل الأمراض الحيوانية. أطلقت شركة بريطانية للتقنية الحيوية انبثقت عن جامعة أكسفورد تسمى "أوكسيتك" (Oxitec) بعوضاً معدلاً وراثياً في الهواء فوق فلوريدا كيز العام الماضي. طورت "أوكسيتك" طريقة لتقليل تعداد نوع من البعوض الغازي يسمى إيديس إيجيبتاي، وهو ينقل أمراض زيكا وحمى الضنك وينتشر بسرعة في أرجاء العالم مع ارتفاع درجات الحرارة.
تعمل هذه التقنية عبر إدخال تعديل جيني على ذكور الإيديس، بحيث حين تتناسل مع الإناث ترث ذريتها جيناً يتسبب بالإفراط في إنتاج نوع من البروتين، ما يؤدي إلى نفوق الإناث اللواتي يلسعن بحثاً عن الدم لبيوضها، فيما لا تتأثر الذرية من الذكور، إلا أنها تنقل الجين الذي يقصر أمد الحياة. انخفض تعداد هذا النوع من البعوض بنسبة 90% في الاختبارات التي أجرتها "أوكسيتيك".
العلماء مختلفون حول معنى كورونا "المستوطن"
كما يُعتبر تحسين جمع المعلومات أساسياً لتطوير اللقاحات، فالتحول الذي حصل خلال عام واحد بفضل لقاحات فيروس كورونا القائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال والناقل الفيروسي من صنع شركات مثل "فايزر" و"بيونتك"و"موديرنا" و"أسترازينيكا" كان إنجازاً مذهلاً.
حالفنا الحظّ قليلاً لأننا كنّا نعرف بعض الشيء عن فيروسات كورونا من الأوبئة السابقة مثل متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) والمتلازمة التنفسية الشرق أوسطية (ميرس)، إلا أن كثيراً من الأمور لا يزال مجهولاً. هناك 631 ألفاً إلى 827 ألف فيروس على امتداد 25 عائلة فيروسية في مضيفين من الثديات والطيور لها قدرة على الانتقال من جنس إلى آخر، حسب تقديرات عالِم الأوبئة كارول، وهو يترأس مشروع "فيروم" العالمي، الذي يبذل جهوداً طموحة لتحديد التهديدات الفيروسية الكبرى على الكوكب ودراسة تسلسلها الوراثي.
إصابة الأسود بكورونا تطلق تحذيراً حول سلالة متغيرة في جنوب أفريقيا
قد تصل تكلفة إنشاء نظام إنذار مبكر للكشف عن التهديدات الناشئة والاستثمارات المتصلة في الرعاية الصحية وتطوير الأدوية إلى نحو 430 مليار دولار خلال عقد، حسب توقعات شركة "ماكنزي". قد تبدو التكلفة مرتفعة، لكن لنتذكر أن صندوق النقد الدولي توقع أن يتكبد الاقتصاد العالمي خسارة تصل إلى 12.5 تريليون دولار حتى 2024 بسبب انخفاض النموّ.
سيستمر عالم الميكروبات بتوجيه إشارات حيوية إلينا مهما كانت خياراتنا. تعكس انتشارات "سارس" و"ميرس" وإنفلونزا الطيور والخنازير وعودة "إيبولا" و"زيكا" وإصابات جدري القردة الجديدة المحيرة ازدياد مخاطر انتقال الأمراض مع توسع قطاع الصناعة الغذائية وتعدي المدن الكبرى على المواطن الطبيعية.
أدى انتشار وابل من المضادات الحيوية والمضادات الفيروسية ومضادات الفطريات ومضادات الطفيليات في البيئية الحيوية على مرّ عقود إلى حالات من التكيف البيوكيميائي، ما يصعّب معالجة العدوى. توجد سلالات خارقة من السلّ باتت مقاومة لعديد من أنواع الأدوية. قال الطبيب قمران خان، مؤسس شركة "بلو دوت" (BlueDot) المتخصصة ببحوث البيانات والصحة الرقمية في تورونتو، إنّ "هذا النوع من الطوارئ التي لا تبلغ بالضرورة حجم كورونا يحصل كلّ بضع سنوات".
قد يكون من الحكمة أن نستمع إلى ما تقوله لنا الميكروبات، فمصائرنا متداخلة، كما أنها باقية على المدى البعيد، حتى إن لم نبقَ نحن.