بلومبرغ
تخلّت أغنى شركات التقنية العملاقة ومموليها في الصين عن إحدى أكثر موجات التجزئة عبر الإنترنت إثارة، وهي الشراء الجماعي، حيث يجمع الجيرانٌ مواردهم لشراء حاجياتهم جملةً بأسعار منخفضة اتصالاً لممارسة تقليدية سهلتها شركات التقنية.
أفلست مئات الشركات الناشئة نتيجة ذلك، وقد يخسر مستثمرون مليارات الدولارات ليخطوا بذلك سطور حكاية تحذيرية جديدة حول سرعة انهيار صناعة مزدهرة حين تحول بكين موقفها.
كان الشراء الجماعي في البداية ظاهرة ريفية، حيث يتجمّع المزارعون ليقتصدوا عبر شراء إمدادات بكميات كبيرة، وامتدت هذه الظاهرة لتنتشر في المناطق الحضرية خلال السنوات الأخيرة بتسهيل من الهواتف الذكية، وباتت تُستخدم لشراء البقالة بدلاً من البذور والأسمدة. بدأت مئات آلاف الأحياء تستخدم منصات مثل "جيه دي دوت كوم" (JD.com) و"ميتوان" (Meituan) و"بيندودو" (Pinduoduo) فيما بدا كثورة في التجارة الإلكترونية.
لكن الطلب لم يواكب شدة التنافس، كما حاصرت حملة الرئيس شي جين بينغ الشاملة ضد عمالقة الإنترنت في الصين هذه الصناعة، وفرضت الحكومة غرامات على عديد من منصات الشراء الجماعي العام الماضي بسبب الإنفاق المفرط على العروض الترويجية سعياً لكسب العملاء.
اضطرابات الإمداد
كان يُفترض أن توفر إغلاقات "كوفيد-19" في بكين وشنغهاي ومدن أخرى فرصة لتحقيق مكاسب غير متوقعة، لكن الاضطراب في شبكات خدمات الإمداد شلَّ قدرة المنصات على تلبية الطلب، فغدا المُشغلون الأثرياء يقللون من أنشطتهم. قال شيري هي، العضو المنتدب لشركة "كيرني" (Kearney)، وهي شركة استشارية في شؤون الصين: "لقد دخل هذا القطاع في مد وجزر منذ بداية الوباء".
أوقفت "ميتوان" الشراء الجماعي في بكين في أخر أسابيع أبريل، وأغلقت مئات، إن لم تكن آلاف نقاط التسليم في أنحاء المدينة امتثالاً لقيود "كوفيد" مع زيادة الإصابات. رفض متحدث باسم الشركة التعليق أو تحديد موعد لإعادة فتح الخدمة.
خفضت شركة "جيه دي دوت كوم"، وهي ثاني أكبر مشغل للتجارة الإلكترونية في البلاد، القوة العاملة في وحدة الشراء الجماعي في وقت سابق من هذا العام، كما خفضت شركة "جينغشي" (Jingxi) العمالة بنسبة 10% إلى 15%، وفقاً لشخص مطلع على الأمر طلب عدم نشر اسمه لدى مناقشته معلومات تجارية خاصة.
تحمَّل قسم الشراء الجماعي التابع لشركة "ديدي غلوبال" (Didi Global) العملاقة لخدمات تأجير السيارات وطأة تخفيض عدد الموظفين على مستوى الشركة بنسبة 20% تقريباً. كما خفضت مجموعة "علي بابا" (Alibaba Group) العروض الترويجية والتكاليف. لم يستجب متحدثون رسميون في شركات "جيه دي دوت كوم" و"ديدي غلوبال" و"علي بابا" لطلبات التعليق.
توسع ثم انكماش
ازدادت حدة انكماش القطاع. بدت الشركات الناشئة في مجال الشراء الجماعي رهاناً رابحاً في بدايات الوباء، حيث تحول سكان المدن الصغيرة إلى الإنترنت لطلب حاجياتهم اليومية بالجملة. تبع المستثمرون ذلك، كما حدث عندما استثمرت شركة "جوي" (Joyy)، للبث الحي، 100 مليون دولار في شركة "تونغتشينغ لايف" (Tongcheng Life) الناشئة في مجال الشراء الجماعي، حيث أشاد ديفيد لي شولينغ، رئيس مجلس إدارة "جوي"، بالشركة الناشئة باعتبارها "مثالاً رائعاً" على قوة الإنترنت في جعل العالم أكثر كفاءة. نما رأس المال المتدفق إلى القطاع بنحو أكثر من ستة أضعاف في ثلاث سنوات إلى 57.7 مليار يوان (8.7 مليار دولار) في 2021، وفقاً لبيانات منصة بحث سجلات الشركات "كيشاشا" (Qichacha). بدأت نماذج أعمال مماثلة بالظهور في الهند وأماكن أخرى.
"علي بابا" تواجه تحديات أكبر من الحملة التنظيمية على قطاع التكنولوجيا
اتبعت شركات التقنية الكبرى في الصين قواعد لعبة مألوفة لتحفيز السوق مستهلكة المال لجذب عملاء جدد. انهارت مئات الشركات الإقليمية الأصغر حين لم تتمكن من المنافسة، قال وانغ شورين، مؤسس شركة "يوجينغ يوتيان" (Youjing Youtian) الناشئة للشراء الجماعي في مدينة جينغجو بمقاطعة خونان بوسط الصين، أن أكثر من 80% من نحو 1500 شركة كانت تعمل في هذا المجال في سبتمبر 202 أغلقت بعد ستة أشهر.
قال برونو لانيس، وهو شريك في البيع بالتجزئة والمنتجات الاستهلاكية لدى شركة "بين آند كو" (Bain & Co)، إن كبار اللاعبين استحوذوا أيضاً على معظم رأس المال الاستثماري، وضغطوا على العمليات الأصغر. أضاف قوله: "عانى عديد من اللاعبين من لوائح صارمة ونموذج أعمال غير مستدام واستُبعدوا في النهاية".
استرداد الاستثمارات
استفردت شركات التقنية الكبرى بالسوق بعد رحيل المنافسين الصغار لتبدأ باسترداد استثماراتها. لكن فرضت أكبر هيئة تنظيمية للسوق في الصين في مارس 2021 غرامات على كل من "نايس توان" (Nice Tuan) و"ميتوان" و"بيندودو" و"ديدي" لأنهم كانوا يغدقون هِبات مفرطة وخصومات تخلّ بالمنافسة. كما غرمت "نايس توان" مرة أخرى بعد شهرين بتهمة الإغراق بالمنتجال والاحتيال بالتسعير.
يصعب الحصول على بيانات موثوقة عن القطاع الناشئ، لكن كانت هناك بالفعل علامات على أن السوق قد بدأ بالانحسار في أواخر 2021. ارتفعت القيمة الإجمالية للسلع المباعة في مواقع الشراء الاجتماعي إلى 54.8 مليار يوان خلال الأشهر الثلاثة حتى يونيو الماضي، لكنها انخفضت بعدها 12% لتصل إلى 48.3 مليار يوان في الربع التالي، وفقاً لتقرير شركة "بين".
ظهر أول إفلاس كبير في القطاع في ذلك الصيف، حين انهارت "تونغتشينغ لايف"، التي جمعت أكثر من 300 مليون دولار من المستثمرين. كتب هي بينغيو، مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي، في رسالة للموظفين والموردين والمستثمرين قبل أيام من الإفلاس: "مرت صناعة الشراء الجماعي بتغير مفاجئ منذ سبتمبر 2020 اتنتقل من عصر ابتكار وتميز تشغيلي إلى سباق يغذيه الدعم ورأس المال". كما انهارت شركة "شوسيانغهوي" (Shixianghui)، المدعومة من شركة "تينسنت"، بصمت في نفس الوقت تقريباً.
مدافن الدراجات
يعكس حجم انهيار الصناعة صدى كارثة سوق مشاركة الدراجات في الصين قبل خمس سنوات، حين أفلست شركات ناشئة تُقدر قيمتها بمليارات الدولارات، ما أجبر البلديات على التعامل مع عشرات ملايين الدراجات المهجورة التي تراكمت في مدافن النفايات. كما هو حال مشاركة الدراجات، كانت وتيرة نمو الشراء المجتمعي أقل من التوقعات. لكن الصناعة مختلفة من حيث إن هناك طلباً كبيراً على خدمتها، لا سيما في المدن الصغيرة حيث يدفع الوباء التجارة عبر الإنترنت بمعدل غير مسبوق.
تُعد شركة "يوجينغ يوتيان" بين قليل من الشركات الناشئة الإقليمية التي نجت وما تزال مُحافظة على ربحيتها. ساعد الإنفاق الترويجي من شركات التقنية الكبرى على نشر الفكرة الأساسية للشراء الجماعي، وفقاً لمؤسس الشركة وانغ ، الذي قال: "إن رؤوس الأموال هذه كبيرة، مثل (ميتوان)، هي حليفة لنا في الواقع." فهي بمثابة سلاح الجو والصواريخ الذي يلقي بقنابل المال لفتح السوق لنأتي نحن ونكمل من خلال عملية أكثر تعقيداً".
يتمثل أحد الجوانب المميزة لظاهرة الشراء الجماعي في ظهور من يسمون "توان جانغ، وهم ممثلي الأحياء الذين يجمعون الطلبات ويساعدون بتوزيع البضائع عند تسليمها. يغادر هؤلاء في الواقع ومنهم شيانغ ميلينغ التي بلغ عمرها 28 عاماً، منتديات الشراء الجماعي بأعداد كبيرة، فقد أثر تقلص الطلب على أرزاقهم. انخفضت الطلبات التي استقبلتها "ميتوان سيليكت" (Meituan Select) من حوالي 20 طلباً يومياً في بداية العام الماضي إلى طلبين أو ثلاثة فقط يومياً في مارس. سبق أن تقاضت شيانغ، التي تولت الشراء بالجملة لمجموعة من أكثر من 150 شخصاً في بلدة صغيرة في مقاطعة هوبي، عمولة شهرية بلغت نحو 1500 يوان، ما رفع دخلها 40% تقريباً. حين انخفضت العمولات إلى ما بين 100 و200 يوان، قررت الأم العزباء، التي تعمل ممرضة في مشفى محلي، أنه الوقت قد حال لتترك ذاك العمل. قالت شيانغ: "كثير من الناس لا يشترون إلا في الأيام التي يتقاضون فيها رواتبهم... الأمر لا يستحق العناء".