بلومبرغ
نشرت "أبل" الشهر الماضي فيديو ترويجي مدته تسع دقائق بعنوان "الهروب من المكتب" أبطاله موظفو شركة خيالية تُدعى "أركا"، استقالوا حين أُمروا بالعودة للعمل من مكاتبها ثم أنشؤوا شركة لهم بلا مكاتب اعتماداً على برامج وأجهزة "أبل" مثل "أيباد" و"ماك بوك برو".
وضعت "أبل" قبل أسبوع من إطلاق الفيديو، الذي يمجّد للعمل عن بُعد، جدولاً زمنياً يلزم موظفيها بالعودة إلى مكاتبهم بتواريخ محددة. كان ذلك مؤلماً للبعض، بمن فيهم 7500 من موظفي "أبل" البالغ عددهم 165 ألفاً ممن ينتمون لغرف تطبيق "سلاك" (Slack) المخصصة للدفاع عن العمل عن بُعد. كتب أحد الموظفين: "إنهم يستهدفوننا، أليس كذلك؟"، فيما وصف آخرون الجدول بأنه "مقيت" و"مهين". كانت الرسالة الأساسية هي: "أبل" تعلم أن موظفي الشركات يمكنهم العمل بكفاءة من المنزل اعتماداً على منتجاتها، فلماذا لا يستطيع موظفوها ذلك؟
انتهجت "أبل" منذ بداية جائحة "كوفيد-19" العمل عن بُعد، فبينما كان موظفوها يعملون من المرائب وغرف النوم الاحتياطية، حقّقت عملاقة التقنية أرباحاً هائلة، وأطلقت عشرات المنتجات الجديدة. حصدت عملاقة التقنية خلال موسم الأعياد وحده عائدات بلغت نحو 124 مليار دولار، بزيادة تجاوزت 25% عما حققته خلال الفترة ذاتها قبل تفشي الفيروس.
قال تيم كوك، رئيس "أبل التنفيذي، إن تزايد العمل عن بُعد أدى لارتفاع الطلب على منتجات مثل "أيباد"، وكان ذلك "بالغ الأهمية" لنجاح الشركة مالياً. كما توقع أن النسخة السابقة من ثقافة المكتب قد لا تعود أبداً، حيث قال للمستثمرين في أكتوبر 2020: "سيصبح الوضع الطبيعي أمراً مختلفاً."
جدول زمني
تريد "أبل" رغم ذلك من موظفيها أن يبدؤوا بالعودة إلى مجموعة مكاتبها العالمية التي تُقدّر بمليارات الدولارات، بما في ذلك مركزها الرئيسي في كوبيرتينو في ولاية كاليفورنيا، البالغة قيمته 5 مليارات دولار. سيتعيّن على موظفي "أبل" حسب الجدول الزمني المعلن، الحضور إلى مقر العمل مرتين في الأسبوع بنهاية الشهر، وأيام الإثنين والثلاثاء والخميس بحلول 23 مايو. يتأهل جميع الموظفين وفقاً للإعلان للحصول على شهر إضافي من العمل عن بُعد سنوياً. قال كوك للموظفين عند الإعلان عن تاريخ العودة في أوائل مارس: "لدينا فرصة للجمع بين أفضل ما تعلمناه عن العمل عن بُعد من جهة، والفوائد التي لا غنى عنها للتعاون الشخصي من جهةٍ أخرى."
لكن لم ير بعض الموظفين في هذا التحول خطوة إيجابية. قال موظف سابق في "أبل" كان قد ترك الشركة مدفوعاً بشكل جزئي بسياستها الصارمة المتعلقة بالعودة إلى المكتب، وقد طلب عدم كشف هويته لتجنب الإضرار بفرص عمله المستقبلية: "كل النجاح الذي حققناه كان أثناء العمل من المنزل طوال اليوم. يتعين علينا الآن العودة إلى المكتب وتجشم القيادة في الزحام لمدة ساعتين وتوظيف أشخاص لرعاية أطفالنا في المنازل. للعمل من المنزل كثير من المزايا، فلم قد نريد العودة إلى المكتب؟"
يُعتبر المطالبون بالعمل عن بُعد، قلة بين موظفي "أبل"، حيث بدأ عديد من المهندسين بالعودة إلى المكتب قبل الموعد النهائي المحدد في 11 أبريل. امتنعت الشركة عن التعليق، لكنها أشارت إلى ملاحظات من كوك سبق أن قال فيها أن العودة إلى المكتب قد تكون "تغييراً مزعجاً" وأن الشركة مكرسة لإحاطة موظفيها بالدعم والمرونة اللازمين.
سياسة تجريبية
ما تزال سياسة العمل عن بُعد الخاصة بشركة "أبل" في مرحلة تجريبية، وهي إما تكون بداية لوضع طبيعي جديد، أو خطوة على طريق العودة لتوقعات ما قبل الجائحة. تُعتبر سياسة منتجة أجهزة "أيفون" حالياً أقل مرونة مقارنةً بالسياسات التي ينتهجها بعض أكبر منافسيها. تسمح شركة "ميتا بلاتفورمز" (Meta Platforms) حالياً بالعمل الدائم عن بُعد لغير العاملين بقطاع تصميم الأجهزة.
تقول "أمازون" إنها تترك القرار للإدارات المستقلة، حيث قال الرئيس التنفيذي لعملاقة البيع بالتجزئة، آندي جاسي، في رسالة للموظفين: "نحن لا نحدّد عمداً عدد الأيام التي ينبغي العمل فيها من المكتب أو ماهيتها". تسمح "مايكروسوفت" لمعظم الموظفين بالعمل عن بُعد لنصف الوقت، فيما يتطلب العمل عن بعد لفترات أطول موافقة المدير المباشر. كما توافق "غوغل" التابعة لشركة "ألفابيت" (Alphabet)، التي بدأت تطالب الموظفين بالحضور إلى المكتب ثلاثة أيام في الأسبوع؛ على العمل عن بُعد على أساس تقييم كل حالة على حدة، وقالت إنها وافقت على 85% من طلبات الانتقال أو العمل عن بُعد.
هناك خلاف حول الأمد الذي ستتبع الشركات خلاله نهجاً متساهلاً حيال العمل عن بُعد. فيما يسهل العثور على تنبؤات بتحول دائم إلى ذلك النهج، يتوقع مدير الموارد البشرية السابق في "غوغل" لازلو بوك أن الأمور ستعود تدريجياً إلى طبيعتها خلال ثلاثة أو خمسة أعوام. جزئياً، لأن الموظفين سيدركون أن القرب المادي مفيد للحصول على ترقيات والوظائف التي يرغبونها. لفت "بوك" إلى احتمال قيام الشركات بذلك "تدريجياً" عبر إجراء تحولات صغيرة لسياسات أشد بينما يتأقلم الموظفون مع ارتداء ملابسهم والحضور إلى العمل خمسة أيام في الأسبوع. أردف مدير الموارد البشرية السابق: "سيتطلّب الأمر بعض الحنكة لدفعهم إلى العودة إلى المكتب."
خارج الوادي
أصبحت بعض إدارات "أبل" أكثر مرونة بالسماح للموظفين بالعمل خارج "وادي السيليكون"، طالما أن هناك مكتب آخر تابع للشركة يمكنهم الانضمام إليه. ينتشر على سبيل المثال الفريق القائم على تصميم الرقائق الإلكترونية في فلوريدا وتكساس وسان دييغو إضافة إلى كوبيرتينو. كما تنشئ "أبل باي" متاجر في نيويورك ورالي وجنوب كاليفورنيا. بينما استحوذت فرق الذكاء الاصطناعي على مكاتب في سياتل، وتعمل فرق "أبل" الإعلامية من مكاتب لوس أنجلوس ونيويورك وناشفيل.
ما تزال غالبية وظائف "أبل"، من هندسة الأجهزة والتصميم إلى التسويق وتطوير البرمجيات، تتطلب العمل في منطقة الخليج. يعكس هذا جزئياً الاحتياجات المحددة لشركة تعتبر من حيث الجوهر مصممة أجهزة. رغم مرور أكثر من عامين على انتشار الوباء، إلا أن عملاقة التقنية الأمريكية لم تشحن أي فئة منتجات رئيسية جديدة طوّرتها عن بُعد. كما لا يُتوقّع ظهور سيارة "أبل" قبل ثلاث سنوات، فضلاً عن تأجيل إصدار سماعة الواقع المختلط، التي طوّرتها الشركة عدة مرات وقد لا يتم شحنها قبل 2023.
تدفع صانعة "أيفون" من ناحيةٍ أخرى تجاه العمل في المكتب لحماية ثقافة السرية الخاصة بها، حيث يسهل الحفاظ عليها حين يتواجد جميع الموظفين في مساحة واحدة، فقد كانت السرية أيضاً سمةً مميزةً للثقافة التي طوّرها ستيف جوبز، الذي وسم اسمه قاعة المؤتمرات داخل حرم الشركة التي تستخدمها للإعلان عن منتجاتها. كان ذلك هو ما جعل جوبز ينادي بتصميم "أبل بارك" على شكل دائرة حضاً على تلاقح الأفكار بين الموظفين عبر إتاحة التخاطب العشوائي.
البصمة البيئية
قال بعض الموظفين إن إعادتهم إلى المكتب لن تعود بالنفع على الإنتاجية بالصورة التي يتوقعها بعض المديرين التنفيذيين. كما يجادلون بأن الوباء لم ينته بعد في ظل انتشار متغير آخر من "أوميكرون"، ما يجعل الموظفين يقلقون حيال الإصابة بالفيروس في المكتب ونقله إلى الأطفال غير المحصنين أو أفراد الأسرة الأكثر عرضة للإصابة.
بينما توفّر "أبل" حافلات لنقل موظفيها، إلا أن بعضهم يقضي ما يصل إلى ساعتين يومياً في سياراتهم متنقلين من وإلى العمل، وهو نشاط يقول البعض إنه يقوّض إنتاجيتهم وأهداف الشركة البيئية. قال موظف طلب عدم كشف هويته فيما يتحدث عن موقف الشركة التي يعمل لديها: "نحاول إنقاذ الكوكب، لكن موظفينا يقودون سياراتهم الآن لمدة ساعتين حتى نتمكن من تبرير وجود مقرنا الذي تبلغ تكلفته مليارات الدولارات."
نقص أجهزة "أبل" يُهدد أرقام المبيعات القياسية في موسم الأعياد
كما تمكن مهندسو البرمجيات ومسؤولو التسويق وفرق المبيعات من تقديم حجة أقوى للعمل من المنزل مقارنة بأولئك المشاركين بتطوير الأجهزة. استاء موظفو التجزئة لشهور فيما توقعوا العودة للعمل من المتاجر، بينما يبقي موظفو قطاع الشركات في المنازل. أطلقت "أبل" في عام 2020 برنامج "البيع بالتجزئة من المنزل"، الذي يسمح لموظفي المتاجر بتقسيم وقت عملهم بين المتجر والمنزل للمساعدة في المبيعات وتقديم الدعم الفني عبر الإنترنت. لكن هذا البرنامج يشارف على الانتهاء.
تدرك "أبل" فوائد العمل عن بُعد في حالات بعينها. قال موظفون لديها إنها سمحت انتقائياً لعدد صغير من المهندسين بالعمل عن بُعد في ظل ظروف معينة لسنوات. كما كان لدى الشركة برنامج يسمح لموظفي الدعم الفني بالعمل من المنزل، ما أدى لعمل بعض الأشخاص من ولاية أيداهو، وأبعد نواحي ولاية تكساس. كان على العاملين عن بُعد البقاء على بعد بضع مئات من الأميال من مكتب "أبل" وزيارته من وقت لآخر. سيستمر هؤلاء بالعمل من المنزل بعد الموعد النهائي الذي وضعته الشركة للعودة إلى المكتب، ما يثير غضب بعض المهندسين الذين سيتعين عليهم العودة.
فيما كان يُفترض من الفكرة الأساسية في إعلان "الهروب من المكتب" الترويج للإمكانات الثورية لأجهزة "أبل"، إلا أن الإعلان تضمن فكرة أخرى وهي: إذا كان نهج شركتك بالعمل عن بُعد لا يعجبك، فعليك تركها. ربما تكون الرسالة وصلت إلى متلقيها، ومع تصور أن سياسات عملاقة التقنية بشأن العمل عن بُعد لا تضاهي سياسات منافسيها جودةً، يتوقع القائمون على التوظيف مغادرة بعض الأشخاص ويستعدون لاستبدالهم.