بلومبرغ
خلال إحدى أمسيات شهر فبراير، وفي حفلة تواصل كلاسيكية في واشنطن. استقبل سام بانكمان فرايد، المؤسس الشريك والرئيس التنفيذي لـ"أف تي أكس" (FTX)، أحد أكبر منصات تداول العملات المشفرة في العالم، ضيوفه في غرفة خاصة في فندق "بارك حياة" بالقرب من منطقة "جورج تاون". وكان ضمن الحاضرين مساعدين في الكونغرس وأعضاء في مجموعات ضغط مالية ومسؤولين سابقين في هيئات رقابية، استمتعوا جميعاً باحتساء المشروبات وتناول المقبلات الفاخرة التي كانت تُقدّم لهم باستمرار. وكانت نية بانكمان فرايد، الملياردير البالغ من العمر ثلاثين عاماً، من هذا الحفل هو استعراض عمليته الجديدة للضغط: إقناع المسؤولين في واشنطن بحاجة العملات المشفرة إلى المزيد من التنظيم.
المطالبة بالإشراف الحكومي
قد يبدو غريباً أن يسعى أحد أقطاب عالم العملات المشفرة إلى فرض الإشراف الفيدرالي. ولكن فيما يدرس المشرعون والمسؤولون البيروقراطيون كيفية التعامل مع هذه السوق سريعة النموّ والخطرة والتي تُقدّر قيمتها بتريليوني دولار، يبدو أن فرض قواعد جديدة، أمراً لا مفر منه.
ففي مارس، وقّع الرئيس جو بايدن على أمر تنفيذي يدعو الوكالات الحكومية لإعداد سياسات مُنظمة للعملات المشفرة. وفي هذا الإطار، يسعى بانكمان فرايد الذي اشترت شركته في العام الماضي حقّ تسمية ملعب كرة السلة لفريق "ميامي هيت"، إلى طرح أفكاره حول ما يجب أن تبدو عليه عملية التنظيم، والجهة التي يجب أن تٌكلّف بالرقابة.
يدعو بانكمان فرايد لمنح لجنة تداول السلع الآجلة دوراً أكبر، فاللجنة الصغيرة نسبياً تأخذ دوراً في مراقبة العقود الآجلة للسلع الأساسية مثل النفط الخام والذرة ولحم الخنزير، بالإضافة إلى المشتقات المالية مثل مبادلات أسعار الفائدة. كما أنها تراقب العقود الآجلة وعقود الخيارات الأميركية المتعلقة بالعملات المشفرة ذات الشعبية مثل "بتكوين" و"إثيريوم". وبما أن الفرع الأميركي لشركة "أف تي أكس" التي تتخذ من جزر البهاماس مقراً لها يقدم مشتقات العملات المشفرة، بالتالي فإن جزءاً من أعمالها يقع بالفعل ضمن اختصاص هيئة تداول السلع الآجلة.
لجنة تداول السلع الآجلة
يريد بانكمان فرايد أن يوسع الكونغرس من صلاحيات لجنة تداول السلع الآجلة لتشمل التداول بالعملات المشفرة بحدّ ذاته. ففي الوقت الحالي، تقتصر صلاحيات اللجنة على أسواق الرموز النقدية في حال الاشتباه بحصول عمليات احتيال أو مضاربات قد تؤثّر على أداء مشتقات العملات المشفرة. وكان بانكمان فرايد قال في شهادة أمام مجلس الشيوخ في فبراير، إن الافتقار للوضوح أمر سيئ بالنسبة للمستثمرين وللقطاع. فيما بدأت منصات التداول الأخرى ترى أيضاً منافع في الخضوع بشكل أساسي لإشراف لجنة تداول السلع الآجلة، بحسب قياديين في القطاع طلبوا عدم الكشف عن هويتهم بسبب الطابع الخاص للمناقشات.
يأتي ذلك فيما تستعرض هيئة منظمة أخرى، هي هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، قوتها في مجال العملات المشفرة. ويرى مراقبون في القطاع أن الأمر ليس مجرد صدفة: فمن شأن توسيع دور لجنة تداول السلع الآجلة أن يُخرج بعض الأصول الرقمية من دائرة نفوذ هيئة الأوراق المالية والبورصات.
يقول باتريك مكارتي الذي يعلّم فصلاً دراسياً حول العملات المشفرة في كلية الحقوق في "جامعة جورج تاون": "توصّلت منصات التداول إلى استنتاج أن آخر ما تريده هو أن تكون خاضعة لإشراف هيئة الأوراق المالية والبورصات".
الخيار الأقل تفضيلاً
يترأس هيئة الأوراق المالية والبورصات غاري غينسلر، الخبير الأبرز في مجال العملات المشفرة في حكومة الرئيس جو بايدن. وعلى الرغم من إعجاب غينسلر بتكنولوجيا بلوكتشين التي تستند إليها العملات المشفرة، حيث أعطى فصلاً دراسياً عنها في "معهد ماساتشوستس" للتكنولوجيا، إلا أنه لم يكن من داعمي القطاع قطّ. لا بل أثار مخاوف عدد من منصات التداول بعد أن حذرها من مخالفتها للقوانين عبر بيع عملات يعتبرها بمثابة أوراق مالية غير مسجلة، وذكّرها بأنها قد تتعرض لغرامات كبرى في حال لم تُسجّل لدى الوكالة، بحسب أشخاص تمت إحاطتهم بالمحادثات.
إلى ذلك، يسلّط غموض الوضع الرقابي الضوء على التعقيدات التي تواجهها الحكومة في تعاملها مع العملات المشفرة. حيث وصف النائب الديمقراطي عن نيوجرسي جوش غوتثيمر الوضع بـ"الفوضوي والمحير جداً". وهو يعمل حالياً على إعداد تشريع ينظم العملات المستقرة، أي الرموز التي ترتبط عادة بعملات تقليدية مثل الدولار.
ورفض المتحدثون باسم كلٍّ من هيئة الأوراق المالية والبورصات، وهيئة تداول السلع الآجلة التعليق.
هيئات مُختلفة
من جهة أخرى، يدعو بايدن من خلال الأمر التنفيذي الذي أصدره إلى التعاون بين أكثر من عشرين وكالة ومكتب حكومي، بما فيها وزارة الخارجية ووكالة حماية البيئة ومكتب السياسات العلمية والتقنية. وكان مكتب مراقبة العملة، الهيئة المنظمة للمصارف الكبرى، حذّر من أن العملات المستقرة غير المدعومة بالشكل الملائم بالاحتياطات، قد تتسبب بما يشبه التهافت على سحب الودائع من المصارف، وبالتالي يجب أن تخضع للمراجعة من قبل مدققين.
من جهته، يتابع مكتب الحماية المالية للمستهلكين عمليات الإقراض بالعملات المشفرة. كما أن عمليات الإقراض بالعملات المستقرة والعملات المشفرة هي محط اهتمام هيئة الأوراق المالية والبورصات. والأهم بحسب النائب الديمقراطي عن فيرجينيا دون بيير أن الأمر التنفيذي "لا يحدّد بوضوح المسؤوليات الرقابية بين هيئة الأوراق المالية والبورصات وهيئة تداول السلع الآجلة".
أصول غير واضحة
أما السؤال الكبير الذي لا يزال من دون إجابة في مجال تنظيم العملات المشفرة يتعلق بتحديد أي من الأصول الرقمية تعتبر أوراقاً مالية. مثلاً من الواضح أن "بتكوين" تندرج ضمن فئة السلع، إلا أن عدداً متنامياً من هذه الأصول يبدو أشبه بالأسهم أو السندات أو الصناديق، أي أن قيمتها ترتبط بطريقة استثمار المال أو بنجاح مشروع تكنولوجي، تماماً كما ترتبط قيمة أي سهم بجودة أداء الشركة التي ينتمي إليها، ما يضع هذه الأصول ضمن نطاق صلاحيات هيئة الأوراق المالية والبورصات. كذلك يمكن اعتبار العملات المستقرة أوراقاً مالية، والأعمال الفنية الرقمية والرموز غير القابلة للاستبدال أيضاً، في حال باع المالكون جزءاً منها إلى المستثمرين. وفي نهاية المطاف، قد يتوجب على المحاكم والكونغرس أن يرسما الخطّ الفاصل بينها.
من جهتها، تقول "أف تي أكس" إنها من خلال دعمها لحصول هيئة تداول السلع الآجلة على المزيد من الصلاحيات، لا تحاول قطع الطريق على غينسلر الذي سبق وترأس هيئة تداول السلع الآجلة في إدارة الرئيس باراك أوباما. وفي هذا الصدد، قال بريت هاريسون، رئيس الذراع الأميركي للشركة، "أف تي أكس- الولايات المتحدة" إن ما يريدونه هو أن يكون لهيئة تداول السلع الآجلة صلاحية أوضح فيما خصّ العملات التي تُصنّف كسلع.
الهيئة الأكثر تفضيلاً
مع ذلك، يبدو أن "أف تي أكس" تقف خلف هيئة تداول السلع الآجلة. إذا قام بانكمان فرايد بزيارات متكررة لمبنى الكابيتول حيث عقد اجتماعات مع المشرعين، وقدم شهادة مؤيدة لهيئة تداول السلع الآجلة، وقام بتداول مشروع قانون يهدف إلى توسيع صلاحيات الوكالة في مجال العملات المشفرة. كما عيّن في شركته مسؤولين سابقين كبار في هيئة تداول السلع الآجلة، بينهم المفوّض الديمقراطي السابق مارك ويتجن من أجل دعم مساعيه.
وفي 28 من مارس، نشر بانكمان فرايد تغريدة على "تويتر" قال فيها إنه من المنطقي زيادة ميزانية هيئة تداول السلع الآجلة من أجل إدارة جزء أكبر من قطاع العملات المشفرة، حيث يمكن أن يأتي جزء من الأموال من الرسوم المفروضة على المستخدمين في القطاع.
وكان روستين بيهنام، رئيس هيئة تداول السلع الآجلة قال أمام لجنة الزراعة في مجلس الشيوخ مؤخراً إن وكالته "اتخذت خطوات مسبقة وهي جاهزة للقيام" بالمزيد من المهام ذات الطابع الإشرافي، مشيراً إلى أن الوكالة تمتلك خبرة في الأسواق بفضل دورها في مشتقات العملات المشفرة. مع ذلك، فإن هيئة الأوراق المالية والبورصات هي الوكالة الأكبر وصاحبة الخبرة الأطول في حماية المستثمرين الأفراد. فهي تضمّ نحو 4 آلاف و500 موظف بدوام كامل، فيما لا يتجاوز عدد موظفي هيئة تداول السلع الآجلة 700 موظف. كما أن ميزانية هيئة الأوراق المالية والبورصات تبلغ 1.9 مليار دولار مقارنة بـ300 مليون دولار فقط لهيئة تداول السلع الآجلة. وقال بيهنام إنه لا بد من زيادة ميزانية الوكالة بـ100 مليون دولار على الأقل حتى تتمكن من لعب دور أوسع.
من جهتها، قالت شيلا وورن، الرئيسة التنفيذية لمجلس العملات المشفرة للابتكار، وهي مجموعة تداول تضمّ في عضويتها ذراع الأصول الرقمية لشركة "فيديلتي انفستمنت" (Fidelity Investments) ومنصة التداول "كوين بايز غلوبال" (Coinbase Global) إنها ستتحدّى الكونغرس والهيئات الرقابية لوضع إطار لهذا القطاع الذي "يتحدّى حدود" القواعد القائمة بحد ذاته. وأضافت: "آمل أن نتوصّل إلى نظام رقابي يكون منطقياً، بدلاً من أن يكون ذلك مجرد نتيجة لحرب نفوذ من نوع ما".