بلومبرغ
ليس من المعروف عن تطبيق "إنستغرام" نقله للحقيقة، فهو المكان الذي يتوجه إليه الناس من أجل خلق أفضل صورة عن أنفسهم أو الصورة التي يطمحون إلى أن يكونوا عليها. لكن نادراً ما تخفي هذه الصورة حقيقة مظلمة بقدر ما حصل في عام 2019، إثر بضعة منشورات لشخصيتين عامتين في نيجيريا.
اقرأ المزيد: نيجيريا تتهم "جيه بي مورغان" بتجاهل أدلة على تحويلات مشبوهة في قضية فساد
في 8 ديسمبر من ذلك العام، نشر رامون عباس، المعروف باسم "@hushpuppi" أو "راي هوشبوبي" أو "غوتشي ماستر الملياردير"، صورة له وهو يجلس على غطاء محرك سيارته الـ"رولز رويس" بنفسجية اللون. كان يرتدي في الصورة زياً من توقيع المصمم الأسطوري فيرجيل أبلوه، مؤلفاً من قميص وسروال باللون الأزرق السماوي، تزينهما سحابة بيضاء تطفو على ذراعيه وفي الوسط. كان يركن سيارته عند مدخل فندق "بالازو فيرساتشي" الفخم في دبي، حيث كان يقيم في شقة بنتهاوس فاخرة. عباس، وهو من المؤثرين على الإنترنت، يبلغ من العمر 37 عاماً، وكان قد نشأ في حيّ فقير في لاغوس، ليعيش بعدها حياة حافلة بالطائرات الخاصة والأصدقاء المشاهير، إذ عُرف عنه ترفه وبذخه. وكتب في تعليق تحت الصورة: "أنا لا أؤمن بالمنافسة، أنت لست أنا، وهذا كلّ ما في الأمر"، مضيفاً وسم #لويس فيتون، #أوف وايت #فيرجيل أبلوه #رولز رويس.
اقرأ أيضاً: أموال مصادرة بقيمة 4.7 مليار دولار تشعل الصراع السياسي في نيجيريا
في الأسبوع ذاته، وعلى بُعد 3 آلاف ميل، نشر نائب مفوض الشرطة النيجيرية آبا كياري، المعروف بـ"@abbakyari75" على "إنستغرام"، صورة مختلفة. فقد أطلّ بأسلوب رسمي وهو يجلس خلف مكتب تتراكم عليه الملفات، يرتدي قميص "داشيكي" أزرق، ويضع سماعات "إيربودز" في أذنيه كالمعتاد، وأمامه شرطيان بملابس مدنية، فيما ينظر بحزم إلى الكاميرا. كان التعليق جدياً كما الصورة، وقال فيه: "مع زميليّ رفيعي المستوى اليوم". على الجدران خلفه حملت الرفوف عشرات الجوائز التكريمية التي حصدها. فخلال المداهمات التي قادها طوال عقد من الزمن، تمكن كياري البالغ من العمر 44 عاماً من إلقاء القبض على خاطفين، وتحرير تلامذة مدارس، وملاحقة عدد من القتلة. وقال رومي موم، عضو مفوضية جهاز الشرطة في نيجيريا، وهي هيئة مستقلة تشرف على عمل الشرطة في البلاد، إن كياري "كان نجماً". فخلال سنوات حافلة بالجرائم العنيفة والإرهاب، أطلقت الصحافة النيجيرية على كياري، رئيس فريق الاستجابة الاستخبارية في البلاد، لقب "الشرطي الخارق".
كانت صورة كياري في الإعلام تتعارض مع سمعة أجهزة إنفاذ القانون المتزعزعة في نيجيريا، بالأخص الفرقة الخاصة لمكافحة السرقة التي ترأسها كياري سابقاً لستّ سنوات في لاغوس، وكانت تُعرف بوحشيتها وبفسادها. في السنة التي تلت، في عام 2020، اندلعت مظاهرات ضخمة في الشارع اعتراضاً على ممارسات الفرقة، انتهت بموافقة الحكومة على حلّها. وعلى الرغم من ذلك بدا أن كياري يعلو فوق كلّ ما يجري.
قال ماثيو بايج، الباحث في شؤون الفساد في نيجيريا بصفته زميلاً شريكاً في مؤسسة "تشاتام هاوس" في لندن: "هذا شخص كان يُنظر إليه على أنه فعلاً بارع في وظيفته بشكل استثنائي في مؤسسة لا تُعرف بالكفاءة". وأضاف: "كان المفترض أن يقوم بعمله بدل أن يسيء استخدام السلطة أو يرتشي".
كان "غوتشي ماستر الملياردير" و"الشرطي الخارق" بعيدين كلّ البعد، إذ لدى هوشبوبي أكثر من مليوني متابع على "إنستغرام" مقابل 80 ألفاً لكياري، وما كان هوشبوبي ليبدو في مكان مناسب له وهو محاط بالأعمال الورقية، تماماً كما لن يبدو "الشرطي الخارق" في موقع مناسب على غطاء محرك الـ"رولز رويس". لكن خلف الصورة العامة المصقولة بدقة لكلا الرجلين بدا أن قدريهما تداخلا في ما بينهما.
احتيال وقرصنة
بعيداً عن الكاميرا، كانت حياة عباس حافلة بنوع آخر من الضجيج، انطلاقاً من عمله محتالاً إلكترونياً ومبيّض أموال، فهو كان شريكاً في ما يعرف بعمليات الاحتيال بواسطة تزوير الرسائل الإلكترونية الخاصة بالشركات، إذ يخترق المقرصنون حسابات الشركات، ويحصلون على الأموال بواسطة فواتير مزيفة. وهو متورط بنقل الأموال في عمليات احتيال استهدفت شركة محاماة في نيويورك، ومصرفاً في مالطاً، وفريق كرة قدم في الدوري الإنجليزي الممتاز، بالشراكة مع شبكة متفرقة من المقرصنين والمحتالين، إذ أقام لمرة واحدة على الأقل شراكة مع مجموعة كورية شمالية مدعومة من الدولة، للقيام بعمليات نصب تصل قيمتها إلى 100 مليون دولار، إلا أنه في النهاية وقع في أيدي مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI). ففي يونيو 2020، داهمت الشرطة المحلية شقته في دبي، ورحّلته إلى الولايات المتحدة، إذ أقرّ في الصيف الماضي بالذنب بتهمة غسل الأموال في عمليات احتيالية تصل قيمتها إلى قرابة 24 مليون دولار. وفي شهر يوليو المقبل سوف يواجه حكماً قد يصل إلى السجن لما يصل إلى 20 عاماً في سجن فيدرالي.
شريك في الشرطة
لكن إقرار عباس بالذنب كشف عن معلومات صادمة، إذ أعلنت الحكومة الأمريكية أن أحد المتآمرين الشركاء للمؤثر على "إنستغرام" كان رجلاً سبق أن أقسم على إنفاذ القانون، هو آبا كياري.
وُلد كياري في بلدة غومبي في شمال شرقي نيجيريا. كان والده أستاذ مدرسة ربى ثلاثين طفلاً في عائلة متعددة الزوجات، أكبرهم كياري الذي سبق وقال في منشور عبر "إنستغرام": "لقد تعاملت مع كثير من القضايا في كلّ مرة كان يواجه فيها أشقائي مشكلات في ما بينهم"، وأضاف: "بدأت عملي في التحري من داخل منزلي". بعد أن نال كياري الشهادة الجامعية، تخرج في أكاديمية الشرطة في عام 2002، وبعد ثماني سنوات ترقى من منصبه شرطي شارع إلى قائد وحدة في الفرقة الخاصة لمكافحة السرقة في لاغوس. وقد نال سمعة في شنّ عمليات خطرة ضد بعض أخطر المجرمين في البلاد. بحلول عام 2016، اختير لترؤس فريق الاستجابة الاستخبارية، وهي وحدة نخبوية جرى إنشاؤها لمكافحة عمليات الخطف المنتشرة في البلاد، ليصبح أصغر مسؤول شرطة رفيع المستوى في نيجيريا.
إنجازات في تطبيق القانون
حقق كياري إنجازات واسعة بصفته قائداً في الشرطة، فقد ألقى القبض على العقول المدبرة لعملية السطو الأكثر دموية في تاريخ البلاد، وقبض على الخاطف الأكثر دموية في نيجيريا والمعروف باسم "مصاص الدماء" (Vampire). ألقى أيضاً القبض على متورطين في تفجيرات وعلى تجار سلاح، كما واجه جماعة "بوكو حرام" الإرهابية. قال كياري في مقابلة لبرنامج وثائقي على "بي بي سي" إنه "من المهم جداً توجيه رسالة إلى المجرمين بأن كياري ورجاله سوف يلاحقونكم أينما كنتم، ولن ينسوا يوماً".
لعلّ الحادثة الأكثر شهرة تعود إلى مارس 2016، حين تولى كياري ورجاله التحقيق في قضية اختطاف ثلاث فتيات على يد عصابة من مدرستهم في لاغوس، واحتجازهن لستة أيام. أُفيد بأن فريقه استخدم معلومات استخبارية من عائلات الخاطفين، من أجل التمكن من تعقبهم وإنقاذ الفتيات من دون أن يتعرضن لأي أذى. وقد جرى تكريمه على هذه العملية بوسام الشجاعة الرئيسي. وجاء في الموقع الإخباري "ذا إيغل" (Eagle) أن كياري "أصبح النعمة في الشرطة النيجيرية". وبحلول عام 2019 تواردت أنباء أن كياري مرشح ويسعى إلى منصب المفتش العام، وهو أعلى منصب شرطة في البلاد.
اتهامات وانتهاكات
لكن خلف كلّ هذه التكريمات كانت أمور مقلقة تحصل في الكواليس. قال أوكوتشاكو نوانغوما، المدير التنفيذي لمركز مناصرة حكم القانون والمحاسبة، المجموعة المعنية في مراقبة الشرطة: "كنّا نشعر بالقلق حيال الأنشطة المارقة التي يقوم بها كلّ من الفرقة الخاصة لمكافحة السرقة وفريق الاستجابة الاستخبارية تحت قيادته". واتهم نوانغوما فريق كياري بالتورط "بكل أشكال الأنشطة الإجرامية، من عرقلة العدالة، إلى الخطف والترهيب والتعذيب والقتل". وقد تحدَّث ناشط آخر في مجال حقوق الإنسان رفض الكشف عن هويته خشية الانتقام منه عن سنوات من الاستجوابات مع موقوفين اتّهموا عناصر كياري بارتكاب انتهاكات ضدهم.
يقول الرجلان إنّ الفرق تحت قيادة كياري كانت تستهدف بشكل منتظم رجال الأعمال لاعتقالهم، وتبتز عائلات المشتبه بهم للحصول على المال، وارتكبت في بعض الأحيان عمليات قتل خارج إطار القانون. وقال نوانغوما إنه طوال عقد من تعقب كياري لم يتمكن إلا نادراً من جمع ما يكفي من الأدلة من ضحاياه الخائفين، لكنه يقدر وجود مئات القضايا الأخرى المتعلقة بانتهاكات. وقال نوانغوما: "كانوا يختطفون شخصاً ما ويقولون: كنّا نحقق مع شخص ووجدنا اسمك في هاتفه. ثمّ يأخذون هذا الشخص".
لا إثباتات
في حادثة تعود إلى عام 2015، اتُّهم عناصر في الفرقة الخاصة لمكافحة السرقة تحت قيادة كياري بتعذيب وقتل تاجر سيارات بريء في ولاية إدو في جنوب نيجيريا، واستخدام بطاقة الصراف الآلي الخاصة به من أجل سحب كل الأموال من رصيده المصرفي. أُدين لاحقاً خمسة عناصر شرطة بارتكاب الجريمة. وفي عام 2017، أعلن محامي أحد الخاطفين الذين اعتقله كياري أن عناصر الشرطة حاولوا ابتزاز موكله للحصول على أموال وجواهر. وبعد عام من ذلك اتهمت أرملة أحد الخاطفين الذي قُتل في مواجهة مسلحة مع الشرطة فريق كياري بالاستحواذ على تركة زوجها الراحل. وفي منتصف عام 2019، أمر قاضٍ كياري وفريقه بالكشف عن مصير مشتبه فيه لم يتمكن محاميه من إيجاده ويعتقد بأنه تُوفي في السجن.
لكنّ أياً من هذه الاتهامات لم يَطَل كياري شخصياً، وقد رفض الرد على الاتصالات والرسائل النصية للتعليق على هذا المقال. استمر كياري في القيام بمزيد من الاعتقالات. وفي منشور على "إنتسغرام" يعود إلى 14 ديسمبر 2019، يظهر كياري وهو يتسلم جائزة من المجموعة الأمنية لبنك نيجيري في لاغوس. وفي منشور يوم 17 ديسمبر، ظهر وهو يقف أمام مجموعة من المساجين الذين يجلسون على الأرض، وجاء تحت الصورة تعليق يقول: "72 من مرتكبي جرائم الخطف/ السطو المسلح/ سرقة السيارات، سيئي السمعة".
احتيال بأسلوب قديم
في ذلك الوقت تقريباً، أي في منتصف ديسمبر، حسب السلطات الأمريكية، انضم هوشبوبي إلى عملية احتيال قيد التنفيذ، إلا أن تلك العملية كانت قديمة الطراز أكثر من عملية تزوير الرسائل الإلكترونية الخاصة بالشركات. هذه المرّة كانت العملية نسخة منمقة من عملية النصب المعروفة القائمة على دفع مبالغ مسبقة، إذ يطلب منفذ الضرب الاحتيالي إعطاءه مبلغاً مقدماً، ويتعهد لك بالحصول على أموال طائلة لاحقاً. ويستمر طلب المبالغ المقدمة، من دون أن تحصل على أي مال.
في هذه الحالة، قبل يوم من نشر صورة الـ"رولز رويس"، تلقى عباس رسالة من رائد أعمال كيني يدعى عبد الرحمن جمعة. وحسب الادعاء، عرض جمعة على عباس المشاركة في عملية نصب تقوم على دفع مبالغ مسبقة تستهدف شخصاً متحمساً جداً، هو رجل أعمال يسعى إلى إنشاء مدرسة دولية في قطر. كان الرجل الذي أبقت المحكمة الفيدرالية اسمه سرياً يحتاج إلى قرض بقيمة 15 مليون دولار لإنجاز المشروع، وقد عيّن مستشاراً مالياً ليساعده في تأمينه. للأسف، المساعدة التي قدمها هذا المستشار اقتصرت على إجراء بحث على موقع "غوغل" عن مصادر لقروض بملايين الدولارات، وقاده هذا البحث إلى جمعة وشركته "ويست لود" للحلول المالية (Westload Financial Solutions) في نيروبي.
يعِد موقع "ويستلود" بـ"حلول مالية متخصصة بتمويل المشاريع من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التشغيل". وعلى الرغم من أن الموقع الإلكتروني كانت تعتريه أخطاء عديدة، بينها الإشارة إلى اسم الشركة باسم "ويست فاينانشال" مرّات عدّة، فإنّ ذلك لم يلفت الانتباه. في نوفمبر من عام 2019، سافر رجل الأعمال للقاء جمعة وزميل له في مكاتب "ويست لود" الكائنة في الطابق السادس من برج زجاجي حديث في منطقة الأعمال في نيروبي. وحسب اتهامات الحكومة الأمريكية، وقّع جمعة هناك العقد بتأمين قرض بـ15 مليون دولار مقابل دفعة مقدمة "استشارية" بقيمة 164 ألف دولار (المبلغ المسبق). وفي اليوم التالي أرسل رجل الأعمال الدفعة المقدمة إلى شركة محاماة من اختيار جمعة. لم يستجب جمعة ولا "ويست لود" ولا شركة المحاماة إلى الرسائل الإلكترونية والاتصالات للإدلاء بتعليق.
حساب في أمريكا
حين شكا رجل الأعمال من أن الأموال لم تصل إلى حسابه المصرفي في قطر، أخبره جمعة بأن المال عالق ويجب دفع مبلغ 150 ألف دولار إضافي لتحريره، ما يعني مبلغاً مسبقاً آخر. ومجدداً، دفع الرجل المال، آملاً في أن يكون ذلك مفتاح الحصول على القرض.
حسب أوراق المحكمة، في هذه المرحلة اتصل جمعة بعباس لطلب المساعدة في جولة جديدة من عملية النصب. بموجبها، يدّعي عباس أنه مدير مصرف في الولايات المتحدة قادر على تحرير القرض. تواصل عباس مع رجل الأعمال عبر تطبيق "واتساب" مستخدماً رقم هاتف في مدينة نيويورك، وعرّف عن نفسه باسم "مالك" وأنه "مدير المصرف المسؤول عن منحك القرض". وقال له، بما أن الحكومة القطرية خاضعة لعقوبات أمريكية، فيجب أن تمرّ الأموال عبر حساب أمريكي (وهو أمر يمكن تصديقه)، وسوف يكون مسروراً بإنشاء هذا الحساب.
قام بذلك بالفعل. في البداية، طلب عباس من أحد معارفه في لوس أنجلوس تسجيل شركة تحمل الاسم عينه مثل شركة رجل الأعمال القطرية، ثمّ فتح حساب في "ويلز فارغو" لهذه الشركة. أبلغ مالك بعدها رجل الأعمال بأنه لم يبقَ إلا عائق أخير، فهم بحاجة أيضاً إلى حساب في المملكة المتحدة لتلقي الأموال. وقال إنه سيفتح "حساباً استثمارياً لدى خدمتنا المصرفية الخاصة هناك" مقابل دفعة مقدمة بقيمة 330 ألف دولار.
ساعة بـ230 ألف دولار
بعد أسبوع من التردد، حوّل رجل الأعمال مبلغ 230 ألف دولار من إجمالي المبلغ المطلوب إلى الحساب المصرفي الذي أعطاه مالك إياه. تبيَّن لاحقاً أن هذا الحساب يعود إلى تاجر ساعات في فلوريدا، والمبلغ هو بالضبط سعر ساعة "ريتشارد ميل آر إم 03-11" من الذهب الزهري والتيتانيوم اشتراها عباس. وقد طلب مالك من رجل الأعمال إرسال المبلغ المتبقي وهو 100 ألف دولار إلى حساب في بنك "كابيتال ون" يملكه شريك آخر لعباس. واستخدم عباس المبلغ لشراء جنسية مزيفة من سانت كيتس ونيفيس، في صفقة تضمنت رشوة مسؤول حكومي وشهادة زواج مزورة.
في الأسبوع التالي، ظهرت الساعة للمرّة الأولى على حساب هوشبوبي على "إنستغرام" وهو يقف أمام البساط البنفسجي الملكي في فندق " بالازو فيرساتشي" في دبي، ويرتدي قميصاً يحمل صورة "ميكي ماوس" من تصميم "غوتشي"، واضعاً ذراعه المزينة بساعة "ريتشارد ميل" فوق القميص بخفة. وقال في تعليق تحت الصورة: "من الأمور الأهم التي تعلمتها والتي تمكنني من الاستمرار، عدم قبول الانتقاد من الأشخاص الذين لا ألجأ إليهم للحصول على نصائح"، مضيفاً وسم #غوتشي، #ريتشارد ميل، #فيرساتشي، #آر إم 1103.
بحلول يناير 2020، قال المدّعون إنّ عباس وجمعة باتا جاهزين لجولة جديدة. فقد اتصل عباس بمواطنه في نيجيريا، فينسنت كيلي شيبوزو، من أجل إنشاء موقع وهمي لـ"ويلز فارغو"، ورقم مساعدة مؤتمت أعطاه مالك رجل الأعمال. حين اتصل رجل الأعمال بالرقم، أبلغه النظام بأن مبلغ الـ15 مليون دولار قد وصل. فأرسل رجل الأعمال رسالة إلى مالك، قال فيها: "لا أصدق، الأمر حقيقي!".
كذبة أخرى
أمّا الكذبة التالية فكانت أن على رجل الأعمال أن يدفع "ضريبة حجز" بقيمة 575 ألف دولار من أجل الحصول على المال من الولايات المتحدة.
حين نفذا المرحلة التالية من خطتهما أرسل عباس رسالة إلى جمعة سأله فيها: "ألست فخوراً بي؟"، فأجابه جمعة: "إنه عمل ممتاز يا أخي".
بالفعل، كانت حيلة ممتازة لولا مشكلة واحدة. حسب الادعاءات، بدأ شيبوزو يشكو من أنه يستحق حصة أكبر من الغنيمة. وحين تجاهله عباس، قرر شيبوزو التصرف. في 13 يناير، اتصل مباشرة برجل الأعمال وأبلغه بأن جمعة ومالك "مزيفان"، ونصحه بالتوقف عن دفع المال لهما، بل عليه الدفع لشيبوزو بما أنه هو القادر على تحرير القرض.
أبلغ رجل الأعمال المصدوم جمعة بذلك، والذي بدوره أبلغ عباس.
قال عباس لجمعة إنه "سيتولى أمر" شيبوزو، وبعد بضع دقائق اتصل بكياري، حسب ما جاء في الدعوى ضده، وقال له: "أريده أن يتلقى أكثر ضرب موجع في حياته".
تعود العلاقة بين "مؤثر إنستغرام" و"الشرطي الخارق" إلى سبتمبر السابق على أقل تقدير، حين زار كياري دبي لأسباب مجهولة. لا تزال أصول علاقتهما ضبابية. لكن حسب المستندات المقدمة إلى المحكمة، أعار عباس كياري سيارة، وكلّف سائقاً مرافقته خلال إقامته في دبي. وبعد بضعة أسابيع أرسل كياري إلى عباس مجموعة صور من رحلته إلى دبي، ومقالاً حول اعتقاله أحد الخاطفين مؤخراً. وأجابه عباس قائلاً: "أنا سعيد لأنني صبي إلى جانبك، سوف أكون صبياً جيداً سيدي". اللافت أنه على الرغم من أن الرجلين يعشقان "إنستغرام" ويحبان نشر صورهما مع المشاهير، فإنهما لم يتحدثا قط عن العلاقة بينهما. فمهما كان نوع العلاقة التي تجمعهما، لم يكونا راغبين في الإعلان عنها.
تنفيذ التهديد
بحلول يناير 2020، بدا أن عباس يسعى إلى الحصول على المساعدة من أجل التخلص من شريكه في العملية الاحتيالية، الذي انقلب عليه. بعد دقائق من إخباره كياري عن شيبوزو، أرسل عباس رسالة إلى جمعة قال فيها: "بدأت بالفعل أنصب له فخاً". ثمّ أرسل رسالة صريحة أكثر إلى شيبوزو قال فيها: "لقد ارتكبت جريمة لن تُسامَح عليها". وأضاف: "في الوقت المناسب، أقسم بحياتي أنك سوف تندم على العبث معي. سوف تتمنى الموت قبل أن أضع يدي عليك". بحلول 20 يناير نفّذ تهديده، إذ أرسل كياري إلى عباس صورة تظهر وجه شيبوزو وهو يبدو بائساً. وكتب له: "لقد اعتقلنا الرجل، إنه في زنزانتي. هذه الصورة بعد أن اعتقلناه اليوم".
أجاب عباس: "أريده أن يتعرض لأكثر ضرب مبرح في حياته"، شارحاً كيف حاول شيبوزو الانقلاب عليه في الضرب الاحتيالي، وحاول وضع يده على المال.
أجاب كياري: "نعم، أفهم ذلك".
قال عباس: "أرجوك سيدي، أريد أن أدفع المال لأرسل هذا الفتى إلى السجن. فليسجن فترة طويلة". وأضاف: "أخبرني كيف يمكنني أن أرسل المال إلى الفريق سيدي. فليتعاملوا معه وكأنه سارق مسلّح، أريده أن يعاني لسنوات طويلة".
عناصر شرطة مأجورون
أرسل كياري رقم حساب مصرفي في نيجيريا. وحسب المدّعين، بهذه الخطوة اكتملت معالم الجريمة، وأصبح كياري وفريقه عناصر شرطة مأجورين يتقاضون المال للقيام باعتقالات من دون مسوّغ قانوني.
في اليوم ذاته، نشر كياري على "إنستغرام" صورة له من مؤتمر صحفي وهو يقف خلف منبر، ليعلن عن اعتقال 60 متورطاً بعمليات خطف. وقال: "الشرطة النيجيرية لن تلين في قتالها ضد هؤلاء المجرمين الفتاكين".
المذهل أنه على الرغم من محاولة شيبوزو تخريب عملية النصب، فإن الحيلة استمرت. رجل الأعمال الذي على الأغلب أربكه الأخذ والردّ المحيّر لدرجة أنه لم يستوعب إلا نصف ما قاله له شيبوزو، أبلغ مالك بأن جمعة أخذ منه أكثر من مليون دولار. وقال له: "أعرف أنك تظنّ أنني غبي، ولكنني وثقت به، والآن أظنّ أنني سوف أفلس".
ادّعى مالك الذهول، وسأله: "أكثر من مليون؟!". وبالطبع عرض المساعدة، إذ أخبره بأنه قادر على مساعدته للخروج من هذا المأزق مقابل 180 ألف دولار، ووعده بأن يبلّغ مكتب التحقيقات الفيدرالية عن جمعة. بالطبع لم يقُم بذلك، ولكن الشراكة بينهما بدأت تنهار، وكلّ واحد بات يحاول النجاة بنفسه. شكا جمعة إلى عباس من أن رجل الأعمال يتصل بمكتبه ويتهمه بالاحتيال، فأجاب عباس بأنه لا يمكن أن يلوم إلا نفسه، فجمعة لم يجد طريقة للاستمرار بالقصة، ولكن عباس فعل. وقال له: "هذا ما يحصل حين تترك الزبون معلقاً، تأخذ المال من دون متابعة، فتعطيه وقتاً ليفكر وليدخل أشخاصاً آخرين".
رشوة وترهيب
بعد شهر على اعتقال شيبوزو، بما في ذلك الوقت الذي قضاه في المستشفى للمعالجة من طفح جلدي مؤلم أصيب به في السجن، أرسل كياري رسالة إلى عباس يزعم فيها بأن صديقة شيبوزو عرضت دفع رشوة مقابل الإفراج عنه. وكتب له كياري: "يعتقدون بأنه اعتقال عادي، ولهذا السبب يظنون أنه يمكن الإفراج عنه بواسطة المال". وأضاف: "لا يوجد مبلغ من المال قادر على إخراجه من هنا، ها ها ها". لكن بعد بضعة أيام، أرسل عباس رسالة إلى كياري قال له فيها إن بإمكانه إطلاق سراحه. أخيراً أُفرج عن شيبوزو بعد أن جرى على الأرجح ترهيبه لالتزام الصمت. وقد تعذّر الاتصال بشيبوزو وصديقته التي لم يُكشف عن اسمها في أوراق الدعوى من أجل الإدلاء بتعليق.
وصلت الخدعة إلى مرحلتها الأخيرة في مارس 2020، بعد أن استحصل عباس على تحويلات بقيمة 180 ألف دولار إضافية، ليصل مجموع الدفعات المسبقة إلى 1.1 مليون دولار. فقد أرسل رجل الأعمال رسالة أخيرة قال فيها: "أعتذر سيد مالك، لن أدفع أي مال إضافي، وسوف أخرج من هذه اللعبة"، فقد استوعب أخيراً أن مالك وجمعة فريق واحد.
اعتقال في دبي
كان وقت عباس في اللعبة يشارف على الانتهاء أيضاً. بعد ثلاثة أشهر، وبُعيد منتصف ليل 8 يونيو، داهم عناصر مسلحون من الفريق التكتيكي في دبي الشقة العلوية التي يسكنها عباس، وألقوا القبض على جميع من كان في الداخل. في غضون أيام، كان عباس على متن رحلة متوجهة إلى الولايات المتحدة، معتقلاً من قِبل مكتب التحقيقات الفيدرالي لدوره في عمليات نصب أخرى أكثر تعقيداً بواسطة البريد الإلكتروني.
لم يُظهِر كياري أي قلق علناً، بل بدا أن صعوده ظلّ مستمراً. بعد ثلاثة أيام من اعتقال عباس، منحت الجمعية الوطنية تنويهاً خاصاً لكياري عن خدماته الاستثنائية. وقال رئيس مجلس النواب النيجيري: "على الرغم من صورة الشرطة النيجيرية، يقرّ مجلس النواب بأن ثمة عناصر شرطة استثنائيين".
في ما خصّ صناعة صورته الخاصة، أظهر حساب كياري على "إنستغرام" ميله نحو هوشبوبي. في أكتوبر 2020، التقطت صورة له مع المغني النيجيري دافيدو الذي كان صديقاً لهوشبوبي في السابق. وفي يوليو التالي شوهد كياري في جنازة والدة أوبينا آييغبو، مالك ملاهٍ ليلية يشتهر باسم "أوبي كوبانا" الذي كان في السابق قد حُقق معه في قضايا مخدرات وتزوير (لم توجَّه اتهامات إلى كوبانا في تلك التحقيقات). وقال كياري في تعليق على "فيسبوك" إن كوبونا "أخ وصديق عزيز".
إقرار بالذنب
ثمّ في 28 يوليو 2021 أعلنت وزارة العدل الأمريكية أن عباس أقرّ بالذنب بتهمة تبييض الأموال. وفي اليوم ذاته أعلنت أنها وجهت إلى جمعة وشيبوزو وكياري وثلاثة مشتبه بهم في الولايات المتحدة اتهامات تتعلق بالتآمر لارتكاب أعمال تزوير وغسل أموال. اتُّهم جمعة وعباس وشيبوزو بسرقة رجل الأعمال مباشرة، فيما اتُّهم الشرطي النيجيري الخارق بالمساعدة على ارتكاب المؤامرة من خلال اعتقال شيبوزو مقابل رشوة.
نشرت وسائل الإعلام النيجيرية الكبرى الاتهامات الموجهة ضد كياري على صفحاتها الأولى، وتناولت عملية الاحتيال التي قام بها عباس بأدق التفاصيل. وجاء في عنوان صحيفة "ذا بانش" (The Punch) كيف اشترى هوشبوبي ساعة يد "ريتشارد ميل" التي ارتداها في صورته على "إنتسغرام". وقال رومي موم، عضو مفوضية جهاز الشرطة: "شكلت الاتهامات الصادرة عن المحكمة الأمريكية صدمة للجميع". وأضاف: "نتحدث هنا عن شخص جرى تكريمه من أعلى الهرم".
بالطبع الأمر لم يفاجئ الأمر الجميع، فنوانغوما من مركز مناصرة حكم القانون والمحاسبة قال إنه وزملاءه شعروا بالانتصار. وأضاف: "يوجد عدد كبير من الأشخاص الجيدين في الشرطة، ولكن النظام فاسد جداً لدرجة أنه يخلق أشخاصاً ويشجعهم على ارتكاب الجريمة والإفلات من العقاب، بما أنه يشكل بيئة مسهّلة لذلك".
تحقيقات محلية
كما هو متوقع من شرطي شهير، لجأ كياري أولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن نفسه. نشر رسالة طويلة عبر "فيسبوك"، حُذفت منذ ذلك الحين، زعم فيها أنه ساعد عباس فقط في التحقيق بتهديدات لحياته. وقال إنّ أرقام الحسابات التي أعطاها عباس كانت لبائع "قمصان وقبعات محلية الصنع". وشرح أنه ساعده في عملية الشراء بعد أن أعرب عباس عن إعجابه بها على "إنستغرام".
علّقت مفوضية جهاز الشرطة عمل كياري إلى حين إتمام التحقيق الذي يجريه المفتش العام في الشرطة. وبعد أن تلقت المفوضية تقريراً تحقيقياً أولياً في ديسمبر، وجدت أن التقرير تعتريه "ثغرات" وطلبت التنقيب أكثر. وقال عضو المفوضية موم في بداية فبراير: "يجب أن ننتهي من هذا الأمر بحلول شهر أبريل". وأشار إلى أن المفوضية لم تتعرض لأي ضغوط من مسؤولين في الشرطة، وأنها ستتخذ قرارها بشكل مستقل.
جمعة موقوف حالياً في كينيا بانتظار صدور القرار القضائي حول ترحيله، فيما مكان وجود شيبوزو غير معروف. ولا إجابة بعدُ عن سؤال ما إذا كان سيجري تسليم كياري إلى الولايات المتحدة. وقال موم: "حسبما أعرف، لا أعتقد بأنه جرى تقديم طلب بتسليمه". وقد رفض مكتب العلاقات الخارجية في وزارة العدل الأمريكية، المسؤول عن عمليات التسليم، التعليق على قضية كياري، إلا أن مسؤولاً في وزارة العدل أصرّ على أن اتهام كياري لم يهدف فقط إلى فضحه. وقد أقرّ المدعي العام النيجيري في فبراير بأن ثمّة أسباباً للشكّ، وأن نيجيريا على اتصال مع الولايات المتحدة.
حتى في ظلّ الفضيحة واحتمال تسليمه، بدا أن كياري غير قادر على تجنب الأضواء. في نهاية يناير نشر صوراً على "إنستغرام" و"فيسبوك" من حفل زفاف نجل المفتش العام للشرطة، الرجل الذي يتولى التحقيق بقضيته، فيما كان أوبي كوبانا مالك الملاهي الليلية بين الحضور. وعاد كياري بعدها وأزال الصورة بعد الضجة التي أحدثتها في وسائل الإعلام.
قضية اتجار بالمخدرات
في 14 فبراير، أعلنت الوكالة الوطنية لإنفاذ قانون المخدرات في نيجيريا أن كياري مشتبه به في قضية إجرامية كبرى أخرى، إذ تزعم الوكالة أنه في نهاية يناير، وعلى الرغم من أن كياري كان موقوفاً عن العمل، فإنه اتصل بضابط في الوكالة الوطنية لإنفاذ قانون المخدرات وأبلغه بأنه صادر وفريقه في فريق الاستجابة الاستخبارية شحنة تحتوي على 25 كيلوغراماً من الكوكايين. وخلال محادثات عدّة، يُزعم أن كياري عرض التعاون معاً من أجل الاحتفاظ بمعظم الممنوعات المصادرة أو بيعها، مع ترك البعض منها لتقديمها إلى المحاكمة وتقاسم الأرباح. وقال عن أعضاء فريقه: "هؤلاء الشباب أذكيا جداً وأوفياء جداً، أنا أهتم بهم جيداً".
لكن الضابط في الوكالة الوطنية لإنفاذ قانون المخدرات بلّغ عن العرض، وذهب لتلقي المال من كياري وهو يرتدي جهاز تنصت. وحين لم يمثل كياري للتحقيق اعتُبر شخصاً مطلوباً للعدالة. وقالت الوكالة في بيان إنها "تعتقد بشدة أن نائب مفوض الشرطة كياري عضو في عصابة اتجار بالمخدرات، تشغل خط المخدرات بين البرازيل وإثيوبيا ونيجيريا".