بلومبرغ
إذا كنت تؤلف رواية تشويقية عن عالم التكنولوجيا، فستمنح الشخصية الرئيسية فيها على الأرجح خلفية مشابهة لخلفية بليك هول. فهو يحمل شهادة ماجستير في إدارة الأعمال من "جامعة هارفرد"، وتخرج من برنامج الشركاء الصيفي شديد التنافسية في شركة "ماكنزي أند كو"، وينحدر من عائلة تفتخر بتاريخها العسكري. فالرجل جندي تم تقليده بأوسمة تقديرية، وهو نجل قائد لواء في الجيش الأمريكي، أمّا جدّه فقد قاتل النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. أما الآن، فهو المؤسس الشريك لشركة في مجال الأمن السيبراني، وهو معروف باستخدام مصطلحات مستوحاة من أرض المعركة أثناء حديثه، ووسيلته للتعويض عن أي خطئ يرتكبه هي التعهد بأداء تمارين الضغط كوسيلة لمعاقبة الذات. قال هول في مقابلة خلال أكتوبر: "أشعر بواجب أخلاقي لأنني لا زلت أحمل داخلي الحمض النووي الخاص بجندي".
كشف الاحتيال
لذلك في شهر يونيو الماضي، حين أعلن هول أن شركته "أي دي. مي" (ID.me) الناشطة في مجال توثيق الهوية عبر الانترنت المزدهر حالياً، نجحت بالكشف عن أحد أكبر عمليات الاحتيال في تاريخ الولايات المتحدة، والمتمثلة بسرقة 400 مليار دولار من إعانات البطالة في ظلّ الوباء من قبل عصابات الجرائم الإلكترونية، أتى تصريحه مدعوماً بقدر من الثقة.
فبعد مضي دقائق فقط من نشر موقع "أكسيوس" (Axios) للمقابلة مع هول، انتشر رقم ـ400 مليار دولار كالنار في الهشيم، وألهم الرقم قصصاً إخبارية مختلفة، تحدثت عن شبكة انترنت مظلمة مروّعة تنشط فيها عصابات من نيجيريا تسعى لشنّ عمليات احتيال ضخمة ضد حكومة الولايات المتحدة. كما استندت للبحوث المقدمة من الأحزاب اليمينية واليسارية على حد سواء، والتي استخدمت أقوال هول في إطار عملها على إعداد صيغ جديدة لتقديم الإعانات الحكومية.
من جهة أخرى، سبب الرقم توتراً للمسؤولين في وزارة العمل الأمريكية وغيرها من الوكالات الحكومة الغارقة تحت وطأة أعداد غير مسبوقة من طلبات إعانة البطالة، فيما استغل الجمهوريون هذا الرقم، للإشارة إلى التبذير الشائن الذي تمارسه الحكومة الحالية.
قال كيفن برايدي، العضو الجمهوري الأعلى في لجنة "الطرق والوسائل" في مجلس النواب الأمريكي إن "السرقة الأكبر لدولارات دافعي الضرائب الأمريكيين ارتفعت بلا هوادة لتبلغ 400 مليار دولار، حيث تم فقدان أكثر من نصف الأموال التي أنفقت على إعانات البطالة في ظلّ الوباء بسبب الاحتيال والمجرمين".
كان الرقم هائلاً لدرجة لا يتخيلها عقل، أكبر حتى من الميزانية السنوية لقوات الجيش والبحرية الأمريكية معاً، وأكبر بخمسة أضعاف من الضرائب التي تجمعها الحكومة الفدرالية سنوياً من أجل تمويل نظام إعانات البطالة.
ادعاءات موثوقة أم استراتيجية ترويجية
لكن هذا الرقم بات يبدو اليوم مضخماً جداً مع مرور الوقت ودراسة البيانات وإجراء بعض التحقيقات. حيث يزعم هول أن نصف الأموال التي دفعتها الحكومة، أي أكثر من 800 مليار دولار حتى ذلك الوقت، سُرقت من قبل مزورين، إلا أن الحسابات التي أجرتها الولايات تتعارض مع ذلك.
ففي ديسمبر، أعلنت ولاية كاليفورنيا، والتي تعدّ الولاية الأكبر من حيث دفع إعانات البطالة، أنها اكتشفت احتيالات في الإعانات بقيمة 20 مليار دولار خلال فترة الوباء، أي بواقع 11% من إجمالي المبلغ الذي أنفقته. تجدر الإشارة إلى أن كاليفورنيا كانت مسؤولة عن ربع إعانات البطالة خلال فترة الوباء في الولايات المتحدة.
وفي حال قدمت نسبة الاحتيال التي حصلت فيها لمحة عما جرى على المستوى الوطني خلال العامين الماضيين، فيعني ذلك أن المبلغ الإجمالي هو نحو 95 مليار دولار. وهو لا شكّ مبلغ كبير، لكنه مع ذلك يوازي فقط ربع المبلغ الذي قدّره هول. حتى أن بعض الولايات الأخرى مثل أوهايو وتكساس أفادت أن معدل الاحتيال في طلبات الإعانات كان أقل من ذلك المسجل في كاليفورنيا.
إلا أن رقم 400 مليار دولار الذي أعلن عنه هول مهّد الطريق لحصول أمرين، أولهما أنه غذّى المخاوف من الأنشطة الإجرامية- الذي كان بعضها مبرراً- وهو ما دفع الولايات إلى فرض وسائل تحقق جديدة والتشكيك في العديد من طلبات الإعانة التي تبيَّن في الكثير من الأحيان أنها كانت بريئة من أي تهم، ولكن مع ذلك قاد الأمر إلى تجميد الإعانات المقدمة لعدد كبير من الأشخاص الذين كانوا في أمس الحاجة إليها، وذلك لمدة أسابيع وحتى أشهر أحياناً وذلك في ظلّ معايشتهم لأزمة تاريخية.
أما الأمر الثاني، فهو أن الرقم ساعد في نمو "أي دي. مي" من شركة مغمورة عمرها نحو عقد من الزمن وتملك بعض العقود القليلة المتخصصة مع الحكومة، إلى شركة رائدة ضخمة تقدّر قيمتها حالياً بـ 1.5 مليار دولار، وتطمح لتصبح حارسة البوابة الرقمية لأمريكا.
ماذا يرد هول؟
يصرّ هول حتى هذا اليوم على دقة تحديد رقم 400 مليار دولار. مؤكداً أنه استند إلى أنماط البيانات التي جمعتها الشركة خلال عملها لصالح وزارات العمل في ولايات كاليفورنيا وفلوريدا ونيويورك وبنسلفانيا وتكساس، بالإضافة إلى 22 ولاية أخرى. إذ يرى هول أن الوكالات الحكومية التي تتحدث عن معدلات احتيال أقل بكثير من ذلك، هي التي على خطأ. وقال في رسالة إلكترونية إلى "بلومبرغ ببزنيسويك" في شهر أكتوبر الماضي: "البيانات في حوزتنا واضحة جداً، هذا الهجوم السيبراني الأضخم على صعيد عمليات الاحتيال في تاريخ الولايات المتحدة".
وجاءت الرسالة في إطار سلسلة من الرسائل التي وجهها هول ومتحدثون باسم "أي دي.مي" خلال عدّة أسابيع قدموا فيها أدلة ظرفية تدعم الحسابات التي أجرتها الشركة. وقال هول:
نحن تماماً كقائد فصيلة استطلاعية في ميدان معركة، يفرض علينا واجبنا أن نبلِّغ بصدق عمَّا نراه. وفي حال جاءت ردّة فعل الناس سلبية تجاه الحقيقة، فهذه مشكلتهم
مجال مزدهر
بالنسبة لهول، يحب أن يكون هذا الرقم دقيقاً لأن طموحات شركته تعتمد على ذلك. فهو يريد أن تسيطر "أي دي. مي" على ما يُطلق عليه تسمية "طبقة تحديد الهوية على الإنترنت"، ما يجعل الشركة أشبه بحارس رقمي، على الرغم من أن البرنامج الإلكتروني لهذا الحارس قد لا يعمل دائماً بالشكل المناسب. يقول هول: "هدفنا هو أن نكون موجودين في أي مكان ترغب بأن تتواجد أنت به في المستقبل".
شركات التكنولوجيا الأمريكية تحذِّر من تهديد مشاريع قوانين الاحتكار للأمن القومي
وبالنسبة لمعظم الأشخاص، إنشاء حساب على "أي دي. مي" عملية سهلة جداً، فالشركة تدمج البيانات في الهاتف الذي تستخدمه والصور الشخصية التي تطلب منك إرسالها مع نسخ عن المستندات الحكومية للتأكد من أنك فعلاً الشخص الذي تدّعيه. وما أن تفعل ذلك، ستتمكن بحسب هول من القيام بكلّ ما تريده على الانترنت من الإجراءات المصرفية إلى الدخول إلى سجلاتك الصحية، حتى حجز غرفة فندقية بدون أن يُطلب منك باستمرار أن تقدم معلوماتك وتدخل كلمات المرور المختلفة. ومن المتوقع أن يستخدم ملايين الأمريكيين هذه العملية في موسم التصريح الضريبي الحالي. وفي نهاية المطاف، قد يمتلك كلّ مواطن أمريكي جواز سفر رقمي من "أي دي. مي".
تدفق الاستثمارات
جذبت رؤية هول هذه استثمارات بقيمة 275.5 مليون دولار من شركات من طراز "ألفابيت" و"مورغان ستانلي" ووزيرة التجارة الأمريكية السابقة بيني بريتزكر.
وحازت الشركة على ثقة 27 ولاية استعانت بخدمات "أي دي. مي" خلال الوباء، وأيضاً بثقة وزارة العمل التي أرست عليها خلال العام الماضي عقداً بقيمة مليار دولار من أجل تحديث أنظمة الكمبيوتر الحكومية. كذلك، استعانت مصلحة الضرائب بـ"أي دي. مي" من أجل مساعدة الأشخاص على التسجيل للحصول على مبالغ الإعفاءات الضريبية الشهرية للأطفال، والتي دخلت حيز التنفيذ في يوليو الماضي.
مع ذلك، يثير إحكام الشركة قبضتها على الصعيد المحلي في الولايات المتحدة سيلاً من الأسئلة، مثل: هل من الصحيح أن نوكل شركة خاصة بمسؤولية تقع عادة على عاتق الحكومات، من بينها التأكد من هوية مواطنيها؟ فتماماً مثلما لا نرغب على الأرجح في أن تتحكم "أمازون" أو "فيسبوك" بإمكانية دخولنا إلى السجلات الضريبية أو أي نظام إعانة حكومي حين تسوء الأمور، من غير الواضح بعد ما إذا كنا نريد فعلاً أن تتواجد "أي دي.مي" في كل مكان نرغب بأن نتواجد به.
تأسيس الشركة
انطلقت "أي دي. مي" قبل 12 عاماً تحت اسم آخر هو شركة "تروب سواب" (TroopSwap) وهي كانت أشبه بتقليد لموقع "كريغزليست" مخصص لمجتمع العسكريين. لاحقاً، حوّل هول وشريكه مات طومبسون، وهو أيضاً جندي سابق أصبح طالب ماجستير في إدارة الأعمال، الشركة إلى ما يشبه مواقع خدمات الحسومات مثل "غروبون".
ليست "أمازون" وحدها.. مكافحة الاحتكار في أمريكا تحتاج لإعادة إحياء
لكن الرجلان أدركا لاحقاً أن ثروة "تروب سواب" الحقيقية تكمن في برنامجها الالكتروني الذي مكّن المحاربين القدامى من إثبات أهليتهم لاستخدام الموقع بدون الاضطرار لتقديم وثائق تحمل أرقام الضمان الاجتماعي وغيرها من المعلومات الشخصية الحساسة.
قال هول إنه في أغلب الأحيان كان على الجنود السابقين أن يقدموا هذه المستندات من أجل الحصول على الرهونات العقارية المدعومة من وزارة شؤون قدامى المحاربين وإعانات الرعاية الصحية، وحتى للحصول على طبق مقبلات البصل في مطعم "أوتباك" للحوم خلال عيد المحاربين القدامى. وأضاف: "لا يبدو منطقياً أن تعطي رقم الضمان الاجتماعي الخاص بك لشخص غريب من أجل الحصول على طبق بصل مقلي مجاني".
في عام 2012، رأى هول وطومبسون أن الفرصة سانحة أمامهما، على الرغم أنهما لا يتمتعان بأي خلفية تكنولوجية. حيث أعلنت حينها إدارة الرئيس باراك أوباما عن الاستراتيجية الوطنية للهويات الموثقة في الفضاء الإلكتروني، والتي تهدف لتشجيع الشركات الخاصة على تطوير تقنيات للتحقق من الهويات. وقد اشترى فريق "تروب سواب" ملكية اسم "أي دي. مي"، وغير اسم الشركة، ثمّ فاز بمنحة بقيمة 2.6 مليون دولار من المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا التابع لوزارة التجارة.
التوغّل الحكومي
بحلول عام 2016، استخدم هول ذلك الدعم من أجل الحصول على عقود حكومية، بينها عقد للتحقق من الهويات لصالح وزارة شؤون قدامى المحاربين.
يقول طومبسون إن هول كان يدفع أيضاً باتجاه تبني استراتيجية تسويق بالعمولة، من خلال تقديم إعلانات وصفقات للأشخاص الذين وثَّقوا هوياتهم عبر "أي دي. مي"، وكان هذا السبب الرئيسي الذي دفع طومبسون في النهاية إلى ترك الشركة في عام 2015.
قال طومبسون الذي أصبح مديراً تنفيذاً متخصصاً في القطاع العام لدى شركة "سوكور" (Socure) وهي شركة منافسة تنشط هي الأخرى في مجال توثيق الهويات وكشف التزوير: "لا يجب أن يتم استهدافك من أجل التسويق لمجرد أنني بت أعرف الآن أنك عسكرياً، وبالتالي أصبح بإمكاني تسويق صفقات ذات طابع عسكري لك". (يرفض هول تبريرات طومبسون لمغادرته الشركة. ويقول إن لدى مستخدمي "أي دي. مي" الحق في اختيار ما إذا كانوا سيشاركون في أي حملات تسويقية أم لا، وهو مجال يشكل 10% من إيرادات الشركة، ولا يحق لأي طرف ثالث الاطلاع على بيانات المستخدم).
دفعة الوباء
كانت الفرصة الأكبر أمام "أي دي .مي" خلال عام 2020، حين تسبب الوباء بموجة من البطالة واضطرت المكاتب الحكومية المعنية بشؤون إعانات البطالة، للعمل عن بعد بشكل كامل.
وفيما انكبت الولايات على تحديث عملياتها الالكترونية من أجل توزيع إعانات البطالة المتراكمة، وجدت نفسها محاصرة بعمليات الاحتيال. وفي شهر يونيو من ذلك العام، أبرمت الشركة اتفاقيتها الأولى مع هيئة حكومية، حيث تم تكليفها بتوثيق الهويات لصالح مكتب التوظيف في فلوريدا، ما دفع الشركة إلى ضمّ عدد كبير من الموظفين لتلبية الطلب. فافتتحت الشركة ومقرّها في ضواحي واشنطن في فيرجينيا، أول مكتب فرعي لها في تامبا، بلغ عدد العاملين فيه 500 موظف. وخلال الأشهر الـ13 التالية، أبرمت "أي دي. مي" عقوداً مع 26 ولاية أخرى.
هل ينجح البرنامج في مهمته؟
وفي الحالة الطبيعية، تكون باستطاعة المستخدمين أن ينشؤوا ملفاً شخصياً على البرنامج الالكتروني خلال دقائق، ويمكّنهم ذلك لاحقاً من تقديم طلبات الحصول على إعانات البطالة أو إنشاء ملف الكتروني لدى مصلحة الضرائب. لكن حين يتعطل هذا البرنامج، فإن الأمر يصبح مأساوياً. حيث تطلب منك الخوارزميات أن تثبت هويتك، ولكن قد يتعذر عليك ذلك لأن البرنامج لا يرى أنك تشبه الصورة التي التقطت لك قبل زمن بعيد لدى إدارة تسجيل المركبات، أو لا يفهم لماذا غيرت عنوان سكنك منذ ذلك الحين أو لماذا تستخدم جهاز "أيفون" ابنتك مثلاً. وهذه المشاكل تعني أنه قد يتم تجميد إعانات البطالة المخصصة لك، أو تعليق حصولك على معلوماتك الضريبية أو حتى قدرتك على الاطلاع على سجلاتك الصحية إذا كنت من المحاربين القدامى.
تصف أنيت رايت وورمينغتون أن تكون محاصراً في جحيم "أي دي .مي" بأنه "أشبه بأن تقوم بفتح باب، لكنك حين تفتحه تجد خلفه جداراً من الطوب". وكانت رايت وورمينغتون، الموظفة الإدارية في مجال الرعاية الصحية البالغة من العمر 65 عاماً، حاولت أن تسجّل على التطبيق في ربيع 2021 من أجل الحصول على إعانات تقدمت للحصول عليها في بنسلفانيا بعد أن فقدت وظيفتها. ثم وجدت نفسها تحدّق إلى هاتفها حيث تظهر صورة رسوم متحركة لشلال مياه في كلّ مرة تحاول فيها التقاط الصورة الشخصية التي طلبها موقع "أي دي. مي".
وبعد كلّ ثلاث محاولات فاشلة، كان البرنامج الالكتروني يمنعها من الدخول مجدداً لمدة 72 ساعة. استمر ذلك لأسابيع إلى أن استسلمت في النهاية واتصلت بمحام في خدمة المساعدة القانونية في فيلادلفيا، تمكّن بعد عدّة محاولات من ترتيب اتصال فيديو مع واحد من "المحكّمين الموثوقين"، وهو الاسم الذي تطلقه الشركة على فريق دعم العملاء لديها الذي تمكن أخيراً من حلّ مشكلة السيدة.
شكاوى العملاء
تقول جوليا سيمون ميشال، المحامية المسؤولة عن وحدة تعويضات البطالة في خدمة المساعدة القانونية في فيلادلفيا إن "الوصول إلى محكّم موثوق أشبه بالفوز بورقة اليانصيب بالنسبة لعملائنا"، حيث تراكمت الشكاوى لديها منذ أن وقعت وزارة العمل والصناعة في الولاية عقداً مع الشركة في سبتمبر 2020. وتقول سيمون ميشال إنه في بعض الأحيان يستغرق موظفوها أسابيع قبل أن يتمكنوا من تأمين موعد مع محكِّمي "أي دي .مي". وأضافت "لا بدّ من وجود طريقة أفضل".
مايكروسوفت تتبنى حملة لتوظيف ربع مليون مختص في الأمن السيبراني
كذلك فإن الأشخاص الأكثر عرضة لمواجهة هذه المشاكل هم في الأغلب الأكثر هشاشة. إذ تقول سيمون ميشال وغيرها من المحامين النشطين حول البلاد إن إجراءات "أي دي.مي" تلحق الضرر بالأشخاص الذين يمتلكون خدمات انترنت سيئة في المنزل، أو الذين يعتمدون على أجهزة الكمبيوتر في المكتبات العامة أو يمتلكون هواتف قديمة. كذلك بالنسبة للأشخاص الذين يضطرون للانتقال من مكان سكنهم حين يفقدون وظيفتهم ويتعذر عليهم تحديث بيانات شهادة القيادة بالسرعة الكافية. أو الأشخاص الذين لا يجيدون اللغة الإنجليزية أو يواجهون صعوبة في أداء بعض المهمات الرقمية، مثل تحميل مستند ما.
هل يحقق البرنامج العدالة بين مستخدميه؟
من المعروف أن أداء برامج التعرف على الوجوه كثيراً ما يكون سيئاً بشكل خاص لذوي البشرة الداكنة، حيث كثيراً ما يخطئ في تعريف النساء السوداوات على أنهن رجال، أو تعطي نتائج خاطئة إذا قامت امرأة سوداء بتغيير تصفيفة شعرها، بحسب نيكول تيرنير لي، مديرة مركز الابتكار التكنولوجي في "معهد بروكينغز".
ووفقاً لروايات بعض الأشخاص على الأقل، فقد واجه برنامج "أي دي. مي" نوعاً من هذه المشاكل. حيث يستخدم البرنامج تقنية التعرف على الوجه للتأكد من تطابق الصورة على المستندات التي قدمها المستخدم، مثل رخصة القيادة، مع الصورة الشخصية التي التقطها لنفسه من خلال التطبيق.
قال هول إن الشركة لا تعالج الصور من خلال قاعدة بيانات موجودة سلفاً، مثلما تفعل أجهزة إنفاذ القانون. مؤكداً أنها تختار مزودي برامج التعرف على الوجوه الذي يتوافق مع المعايير الفدرالية، إلا أنه لم يكشف عن أسماء أي مزودين.
مشاكل تقنية
إلى ذلك، تقول الشركة إنها أخضعت برنامج التعرف على الوجه الذي تستخدمه لاختبارين منفصلين للتحقق من التحيز العرقي في عام 2021، ولم تجد أي دليل على وجود أي تمييز. إلا أن كلير غارفي، الزميلة العليا في معهد الخصوصية والتكنولوجيا في كلية الحقوق في "جورج تاون" رأت أن قيام الشركة بمراجعة داخلية أمر يفتقر للشفافية العامة ولا يعني الكثير. وأضافت: "لم يظهروا العمل الذي قاموا به، ولم ينشروا الاختبارات التي أجروها".
لا تنحصر المشاكل التي واجهتها "أي دي. مي" في بنسلفانيا. إذ تورد الشكاوى المقدمة أمام دائرة التطوير الوظيفي في كاليفورنيا التي وقعت عقداً مع "أي دي. مي" في سبتمبر 2020 مشاكل تفصيلية منها منع شخص عابر جنسياً من الحصول على إعانات البطالة بما أن النوع الجندري تغيّر على شهادة قيادته ولم يتوافق مع جواز سفره، وتجميد طلب الإعانة لشخص قام بإجراءات التحقق من الهوية على "أي دي.مي"، حيث اكتشف بعد مرور ستة أسابيع أن طلب الإعانة الذي قدّمه لا يزال عالقاً.
وفي رسالة إلى دائرة التطوير الوظيفي في كاليفورنيا في يناير 2021، اشتكى عضو مجلس الشيوخ عن الولاية أنطوني بورتانتينو من أن طاقمه "غارق تحت كمّ من المناشدات الطارئة" من أشخاص بقيت طلبات الإعانة التي تقدموا بها عالقة بسبب مشاكل مع "أي دي.مي". وكتب بورتانتينو:
أدى هذا التغيير الذي حدث مؤخراً إلى تعليق آلاف طلبات الإعانة الشرعية، بدون أي إرشادات حول كيفية الخروج من "سجن توثيق الهويات" هذا
يقول هول إن شركته زادت أعداد الموظفين وقلّصت وقت انتظار خدمة الزبائن إلى بضعة دقائق فقط. إلا أنه يعتبر مثل هذه الانتقادات بسيطة نسبياً، ويعزو الكثير من المشاكل إلى أنظمة تكنولوجيا المعلومات القديمة المعتمدة في الولايات. وقال إن الشركة حددت 11 ألف حالة شرعية أخطأت في تصنيفها على أنها مزورة في الولايات الـ27 التي تنشط فيها، وما هذا إلا جزء بسيط من ملايين طلبات الإعانة المزورة التي تصدت لها أنظمتها.
وفي مقابلة خلال الصيف الماضي، شبّه هول الدور الذي تؤديه "أي دي. مي" في مساعدة مكاتب التوظيف والتحديات التي واجهتها في هذا الإطار، بالتجارب التي تخوضها المؤسسات الأخرى الموجودة تحت الضغوط. وقال "لن تتوجه وسائل الإعلام إلى وحدة عناية مركزة مزدحمة وتلوم جناح المستشفى على هذا الازدحام". وأضاف: "الوباء والضغط الذي فرضه على النظام هو أساس كلّ هذه المشاكل". ولكن، على عكس "أي دي. مي"، لا تسوّق المستشفيات بشكل عام لنفسها على أنها الحلّ لأي موجة ارتفاع في الطلب.
شح في البيانات
حين ألقى هول قنبلة رقم 400 مليار دولار في الصيف الماضي، قليلون من اعترضوا عليه. فمسؤولو وزارات العمل في الولايات على امتداد البلاد كانوا تحت وطأة طلبات الإعانة المتراكمة والازدياد الفعلي في عمليات الاحتيال. كما لعبت السياسة دوراً أيضاً، فمع انسحاب حكام الولايات الجمهورية من البرامج الفدرالية الطارئة التي اعتبروها مفرطة السخاء وتحول دون عودة المستفيدين منها إلى العمل. كما أن مزاعم التزوير الضخمة والمنتشرة تناسبت مع السردية الحزبية الجمهورية بأن إعانات البطالة تحولت إلى تبذير غير مسؤول لأموال دافعي الضرائب.
يوجد شحّ هائل في البيانات المتوفرة للعامة في هذا الصدد. إذ تقول وزارة العمل الأميركية إنها لا تمتلك بعد أرقاماً دقيقة حول المبالغ التي فقدت بسبب عمليات الاحتيال على المستوى الوطني. والتقدير الأقرب لذلك هو ما ورد في تقرير مكتب البيت الأبيض للإدارة والموازنة الصادر في نهاية ديسمبر الذي وجد أن المبالغ المدفوعة "غير الملائمة"، بينها تلك الناتجة عن أخطاء بيروقراطية وغيرها من الأخطاء تمثّل 18.7% من إعانات البطالة المسددة بين يوليو 2020 ويونيو 2021.
كذلك، لا تحبذ الإدارات في الولايات مشاركة المعلومات حول عمليات الاحتيال أو أداء "أي دي. مي". في بنسلفانيا، رفض المسؤولون الكشف عن أي بيانات تفصيلية تظهر كيف حققت "أي دي. مي" شروط العقد الذي أبرمته. وفي رسالة معترضة على طلب "بلومبرغ بيزنيسويك" للكشف عن المعلومات، قالت المستشارة القانونية العامة لـ"أي دي. مي" ميشيل غرافوم إن الشفافية "تسهم في خطر وقوع بيانات الاحتيال في أيدي المنظمات الإجرامية الكبرى".
بعد تحذيرات "بايدن"... عصابة الفدية الروسية "ريفل" تختفي من الإنترنت
من ناحيته، يصرّ هول أن رقم 400 مليار ليس رقماً تقديرياً لعمليات التزوير التي تم تفاديها بل المبلغ الفعلي الذي تمت سرقته. وهو يشرح أنه توصّل لتقديره بأن نصف طلبات الإعانة من البطالة كانت احتيالية بالاستناد المنطقي إلى عينة نموذجية، بالأخص ما لاحظته "أي دي. مي" في الولايات الخمس الأولى التي عملت فيها. ويضيف أن البيانات التي لا تزال "أي دي. مي" تجمعها تؤكد هذا التقدير، وقد تم تأكيده من جهات أخرى أيضاً، بينهم خبراء في مؤسسة "هيراتيج" وهي مؤسسة محافظة سبق وانتقدت إعانات البطالة الموسعة.
النجاح المُحقق
لكن من أجل التوصل إلى رقم 400 مليار دولار، لا بدّ من تجاهل النجاح الظاهر الذي حققته "أي دي .مي" في كشف ومنع عمليات التزوير في أماكن مثل كاليفورنيا نوعاً ما، حيث كان المسؤولون قد اشتكوا منذ بداية الوباء من تلقيهم طلبات إعانة من مساجين في الولاية. وبحسب ما أفادت به ولاية كاليفورنيا، فهي تمكنت من وقف إعانات بطالة احتيالية بقيمة 125 مليار دولار خلال الوباء، أي أكثر بستة أضعاف من مبلغ الـ20 مليار دولار الذي خسرته في عمليات الاحتيال. ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى "أي دي. مي" وغيرها من المتعهدين مثل "طومسون رويترز" و"أكسينتور" (Accenture)، وهذا نجاح يتم الاحتفاء به. وقالت دائرة التطوير الوظيفي في كاليفورنيا في رسالة الكترونية في ديسمبر "اليوم، باتت معدلات الاحتيال في برنامج التأمين من البطالة أدنى من معدلات ما قبل الوباء".
على الرغم من أن أرقام عمليات الاحتيال في كاليفورنيا تحتاج إلى تفاصيل إضافية، إلا أن داعمي العاطلين عن العمل يقولون إن كشف "أي دي. مي" لعمليات التزوير يعتمد على مدى الثقة بالخوارزميات الخاصة بها، بينما يتم تجاهل المشاكل التي يواجهها المستخدمون. على سبيل المثال، بين 28 يناير و8 مارس 2021، طلبت "أي دي. مي" من 654 ألفاً و292 مستخدماً أن يبدؤوا عملية تأكيد الهوية من خلال برنامجها في كاليفورنيا، بحسب البيانات التي قدمها هول. ولكن نصف هؤلاء الأشخاص فقط أتموا عملية التأكيد، وبحسب ادعاء هول، فإن كل الأشخاص الذين لم يكملوا العملية هم مزورون.
إلا أن التقارير السرية المنقحة التي قدمتها "أي دي. مي" للمسؤولين في كاليفورنيا وحصلت عليها "بلومبرغ" بموجب طلب قائم على قانون المستندات المفتوحة توحي بقراءة مختلفة قليلاً. في 17 نوفمبر 2020 على سبيل المثال، أفادت "أي دي. مي" أنه في الأسبوع السابق، حاول 101 ألف و50 شخصاً في كاليفورنيا إثبات هوياتهم من خلال "أي دي. مي". ومن أصل هذا العدد، تمكن 40% فقط من النجاح. مع ذلك، يمكن ملاحظة الانزعاج الذي يبديه العاطلون عن العمل وداعموهم المنعكس في البيانات، فحوالي ربع الأشخاص الذين تعاملت معهم "أي دي. مي" في كاليفورنيا في ذلك الأسبوع حاولوا الاتصال بممثل عن الشركة عبر تقنية الفيديو، ولكن 10% منهم فقط نجحوا في ذلك. وأكثر من 7 آلاف شخص تخلوا عن إجراءات "أي دي. مي" سواء من خلال إغلاق متصفح الانترنت في منتصف العملية أو ترك مدة الجلسة تنتهي. ويمكن بسهولة أن نعزي ذلك سواء إلى مشاكل تقنية أو إلى عمليات احتيال.
تحكّم الخوارزميات
أبلغت سينتيا رايس، مديرة شؤون التقاضي والمناصرة والتدريب في خدمة المساعدة القانونية الريفية في كاليفورنيا المسؤولين في الولاية في سبتمبر 2020 بأن لديها مخاوف جدية حيال تأثير "أي دي. مي" على العمّال منخفضي الأجر. وبعد مرور أكثر من عام على ذلك، لا تزال رايس وزملاؤها يتعاملون مع العواقب التي رتبتها الشركة على عملائهم منخفضي الأجر. مثلاً، توقفت إعانات عمّال المزارع وغيرهم من العمّال الذين صنفت "أي دي. مي" طلباتهم على أنها طلبات احتيال عن طريق الخطأ، ما اضطرهم لانتظار أشهر حتى تتم مراجعة طلباتهم مرة أخرى. كلّ ذلك بسبب قرار اتخذته خوارزمية ما. وقالت رايس: "نحن لن نسمح أبداً لمحاكمنا الجنائية أن تدين شخصاً ما استناداً إلى وجود سجل رقمي يفيد أنه قام بالاستجابة لأمر ما أو لم يستجب له، أو يظهر معلومة معينة. مع ذلك، فإن هذا ما يجري في حالات التحقق من عمليات الاحتيال هذه".
تصبح الصورة مشوشة أكثر بفعل تطور عمليات الاحتيال مع الوقت. فالهدف الأصلي لشركة "أي دي .مي"، والمفهوم التي تسوّق لنفسها على أساسه، هو إنشاء سد منيع في وجه محاولات الاحتيال. ولكن بحلول منتصف العام الماضي، باتت الشركة بحدّ ذاتها تستخدم كممر لعمليات الاحتيال.
في شهر يوليو، نقرت إيريكا وورثي على إعلان على "فيسبوك" يعرض مبلغ ألفيْ دولار في اليوم مقابل عمل تنظيف طائرات "جيت بلو" في شيكاغو. قامت السيدة العاطلة عن العمل في فلوريدا بتعبئة الطلب وسرعان ما تواصل معها مسؤول عن التوظيف في "جيت بلو" أحالها إلى رابط، وقال لها "كلّ ما عليك فعله هو النقر على الرابط والتقاط صورة شخصية". أحالها الرابط إلى موقع "أي دي. مي" حيث قامت بتحميل المستندات وأجرت مسحاً لوجهها. جلست بعدها تنتظر عرض عمل لم يأت قط.
حيث تمت سرقة هوية وورثي الرقمية على يد مجرمين تقدموا بطلب إعانة من مكتب التوظيف في كاليفورنيا باستخدام اسمها. ولدى الكشف أن الطلب المقدم في كاليفورنيا كان مزيفاً على الأرجح، تمّ تعليق إعانات البطالة التي تتلقاها في فلوريدا. حاولت وورثي الاتصال بـ"أي دي. مي" عدّة مرات، وفي كل مرة كانت تتلقى رداً آلياً مع رقم تذكرة جديد من سبع خانات، ولا شيء بعده. قالت: "أرسلت طلبات كثيرة لهؤلاء الأشخاص وبات لديّ عدد كبير من أرقام التذاكر" (وبعد أسابيع من الاتصالات، تمكنت أخيراً من حلّ المسألة).
يقول هول إن "أي دي. مي" تبذل كلّ ما بوسعها للتصدي لعمليات الاحتيال. ويصف ما تعرضت له وورثي بواحدة من عمليات الخداع الالكتروني الاعتيادية التي يجب على كلّ شركة أن تتعامل معها. وأضاف: "هذا الهجوم ليس محصوراً بشركة "أي دي.مي". وهو على حق بذلك، فهذه الهجمات ليست استثنائية، ولكن عواقبها على المواطنين العاديين هي بالتأكيد استثنائية.
سلطة متزايدة
تكتسب الأسئلة التي تحوم حول "أي دي. مي" المزيد من الأهمية اليوم في ظلّ ازدياد تأثيرها على حياة الأميركيين. إذ أسهمت أزمة البطالة في توسّع حجم الشركة، وبات لديها اليوم أكثر من 68 مليون مستخدم، أي حوالي شخص من أصل كلّ 4 راشدين في الولايات المتحدة، وهي تجذب المزيد من المستخدمين بمعدل 145 ألف شخص في اليوم. ولديها عقود مع هيئات حكومية كبرى، بينها إدارة الضمان الاجتماعي ومصلحة الضرائب.
يقول هول إنه بعد فوز "أي دي. مي" بعقد مع مصلحة الضرائب العام الماضي في إطار الإعفاء الضريبي للأطفال الذي أقرته إدارة بايدن، تمكنت الشركة من بدء العمل خلال مهلة قصيرة. وأضاف: "كان لدينا حوالي 70 يوماً، وهذا ليس بوقت كثير، وظفنا 1400 شخص في الربع الثاني من العام لحل المسألة".
ولكن مع تسديد الدفعة الأولى الشهرية من مبلغ الإعفاء الضريبي للأطفال في يوليو، انتشرت مجدداً الشكاوى من "أي دي. مي" عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ونشر أحد المستخدمين المنزعجين تعليقاً على موقع "ريديت" في 17 يوليو قال فيه "اتصلت بمصلحة الضرائب وهم لا يعرفون لماذا أتلقى هذا الخطأ أو ما هو"، وردّ عليه مستخدم آخر" إنني أشتم يميناً ويساراً، لقد ضقت ذرعاً بهذه العملية".
في شهر نوفمبر، بدأت "أي دي. مي" في معالجة هذه الشكاوى من خلال توفير خيار التحقق من الهوية بشكل شخصي في نيو جيرسي. ولكن ما لم تذكره الشركة في إعلانها، أن ما قامت به -للمفارقة- هو إعادة ابتكار لخدمة لا تختلف كثيراً عما تقوم به دائرة تسجيل المركبات والمصارف منذ عقود.
في غضون ذلك، تستمر الاستثمارات في التدفق على الشركة. ففي مارس الماضي، جمعت "أي دي. مي" تمويلاً بقيمة 100 مليون دولار من صندوق "فايكينغ غلوبال انفسترز" (Viking Global Investors) والرئيس التنفيذي لمجموعة "سوفت بنك" مارسيلو كلور، تلاها تمويل بالدين بقيمة 100 مليون دولار من مجموعة "فورتريس الاستثمارية" (Fortress Investment).
حدود الاتكال على القطاع الخاص
لطالما أثير جدل حاد في الولايات المتحدة حول المشاكل التي يتعين على الحكومة أن تتولاها، وتلك التي يمكن تركها للقطاع الخاص. يظهر هذا الانقسام الحزبي في محاولة الرئيس بايدن تمرير رزمة إنفاق اجتماعي جديدة في الكونغرس. ولكن فيما يخصّ التكنولوجيا، غالباً ما يكون هناك نوع من الاتفاق بأن السوق مجهزة بشكل أفضل لتقديم الحلّ، سواء تعلّق ذلك بنقل المعدات إلى محطة الفضاء الدولية مثلاً أو تطوير اللقاحات.
تعززت هذه الفكرة حين واجهت إدارة أوباما صعوبة في توفير خدمات تأمين فعّالة عقب دخول قانون الرعاية الصحية الميسرة حيز التنفيذ في عام 2010، ثمّ في العام الذي تلى ذلك مع خطة الهوية الرقمية التي أطلقها المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا. وقال جيريمي غرانت الذي أشرف على تنفيذ المشروع إنه حين تنازل أوباما عن مهمة مراقبة الهويات الرقمية لصالح القطاع الخاص، كان مدركاً لصعوبة إقناع المحافظين بأي أمر من قبيل بطاقة هوية وطنية، وكانت نظريته أنه "يمكن للقطاع الخاص أن يحلّ لك هذه المشكلة ".
بعد مرور عقد على ذلك، يرى غرانت اليوم أن واشنطن تخلت عن الكثير من السيطرة لصالح شركات مثل "أي دي. مي". وهو اليوم يقود "تحالف هوية أفضل" (Better Identity Coalition) المؤلف بالدرجة الأولى من شركات خدمات مالية مثل "جي بي مورغان" و"ويلز فارغو" و"إكويفاكس". ويدفع هذا التحالف نحو تمرير تشريعات في الكونغرس تطالب الحكومة بلعب دور أكبر في توثيق الهويات الرقمية، خشية من أن تهيمن الشركات الربحية مثل "أي دي. مي" على هذه الخاصية.
يقول النائب بيل فوستر، الديمقراطي عن ولاية إلينيوي، المؤيد الرئيسي لهذا التشريع إن توثيق الهويات الرقمية يجب أن يكون "مهمة حكومية أساسية". فمثل هذا الأمر له تبعات على كلّ شيء من الأمن السيبراني إلى قدرة المصارف المركزية على إصدار عملات رقمية صالحة.
إلى ذلك، يرى فوستر أنه في نهاية المطاف، لن يقبل الأميركيون أن يتولى القطاع الخاص مثل هذه الوظيفة الحساسة. وقال: "في حال أصبح عليك في المستقبل أن تسجل دخولك بواسطة "غوغل" أو معرّف "أبل"، ويصبح هذا هو حارس البوابة الذي يؤكد هويتك الرقمية، فلا أعتقد أن مستقبلاً كهذا يوافق عليه معظم الأمريكيين".
ثمة مخاوف أيضاً من استخدام "أي دي. مي" وغيرها من الشركات المشابهة كأدوات من أجل الحدّ من الحصول على الإعانات الحكومية. قال كيفن دو ليبان، مدير شؤون مناصرة خدمات المساعدة القانونية في أركنساس إن "الولايات تستخدم هذه الأنظمة من أجل تصعيب الحصول على الإعانات"، وقد رفعت مؤسسته دعوى قضائية ضد الولاية للمطالبة بمعلومات حول الطريقة التي يتم بها استخدام برنامج تابع لشركة "برو تيك سولوشنز" (ProTech Solutions). وقال: "إذا كانوا يرغبون في أن يزعموا بأن منتجهم يمنع عمليات الاحتيال، فلا بدّ أن يفتحوا ذلك أمام المحاسبة العامة".
مُستقبل مقلق
في غضون ذلك، يبدي آخرون قلقهم تجاه ما يرون أنه تربّح. وقالت لورينا غونزاليس، عضو الجمعية التشريعية في كاليفورنيا التي ساعدت العديد من الأشخاص العاطلين عن العمل في دائرتها ممن واجهوا صعوبات في توثيق هوياتهم بواسطة "أي دي. مي" إنه "في كلّ مرة تضيف فيها مكوناً من الخارج، حتى لو كان مكوناً تكنولوجياً إلى وظيفة حكومية، يجب أن تسأل أي طرف يستفيد مالياً من ذلك". وأضافت "هؤلاء باعة، وهم يجنون الكثير من الأموال".
إلا أن هول يقول إن "أي دي. مي" خسرت في الواقع أموالاً في إطار مكافحتها لعمليات الاحتيال خلال فترة الوباء. ولكن من الواضح أن الشركة تدرك بأنها تخرج من الأزمة مع مهمة جديدة.
في مقابلة في 14 يناير، قال هول إن "أي دي. مي" سوف تصدر قريباً تقريراً مفصلاً حول تجربتها مع نظام البطالة، بشكل يظهر أنها راقبت أموراً لم يستطع حتى مكتب التحقيقات أن ينتبه لها. وقال "نحن أول من يحصل على نظرة عامة"، مضيفاً "الحقيقة إلى جانبنا". وفي بداية يناير، بدأ فريق العلاقات العامة في الشركة بنشر مستند تقني يدافع عن تقنية التعرف على الوجوه الخاصة بالشركة، ويروج لمبادرة "عدم ترك أي هوية خلفنا".
وجاء في المستند "فيما تنتقل المزيد من الخدمات والتعاملات لتصبح الكترونية، وفيما يصبح الاقتصاد رقمياً بشكل أكثر، واجبنا الدائم هو ضمان أن يحصل الجميع على الفرصة للمشاركة". وقد بدأ المستند بأن هذه مهمة جديرة بالإطراء، وهي تستحق رئيساً تنفيذياً وطنياً بلا منازع. مع ذلك، لا يرى الكثير من عملاء "أي دي. مي" المجبرين على الاستعانة بخدماتها أنها ارتقت إلى هذه المهمة.