بلومبرغ
شهد العام 2021 ما يشبه الاندماج الضخم بين الثقافة الشعبية من جهة، والتمويل الحديث، اللذين تداخلا بشكل كبير. بدأ ذلك بترويج لاعب كرة القدم الأمريكية توم برادي، والنجم السينمائي مات ديمون، فجأة لبورصات العملات المشفرة. ثم تحوّلت الرموز الرقمية من مزحة متقنة، إلى شيء يساوي عشرات المليارات من الدولارات الحقيقية، فيما بيع رسم كرتوني إلكتروني لقرود بملايين الدولارات عبر ما يسمى بسوق الرموز غير القابلة للاستبدال، التي لم يسمع بها أي أحد تقريباً في 2020، العام الذي يبدو اليوم كأنَّه في زمن قديم غابر.
اقرأ أيضاً: قطار العملات المشفرة يزيد سرعته في 2022 رغم التقلبات والمخاوف التنظيمية
لم يكن هذا الاندماج ودياً على طول الطريق، فقد تعاون صغار المستثمرين الأفراد لشراء أسهم شركتي "غايم ستوب" (GameStop)، و"إيه إم سي إنترتينمنت هولدينغز" (AMC Entertainment Holdings) بنية صريحة لإفلاس صناديق التحوط، التي كانت تراهن ضد الشركتين. وكان العديد من محترفي "وول ستريت" يشعرون بالذهول -مثل أي شخص آخر- من صعود أسواق العملات المشفَّرة الجديدة.
اقرأ المزيد: "بتكوين" تفقد بريقها في سوق الأصول المشفرة مع صعود عملات بديلة
ظهر الأمر وكأنَّ الجميع يرغبون في المشاركة، بدءاً من طلاب المدارس الثانوية الذين يتداولون على هواتفهم أثناء متابعة دراستهم على تطبيق "زووم"، وحتى الأشخاص الأكبر سناً الذين فوّتوا ثروات عصر فقاعة الإنترنت، وكانوا مصممين على عدم ترك فقاعة أخرى تمرّ عليهم من دون الاستفادة منها.
متداولون جدد
من الصعب تحديد العدد الحقيقي للأشخاص الذين تحوّلوا إلى متداولين. لكن مع ذلك، يمكن أن نستدل على هذه المعلومة من عدد المستخدمين الحاصلين على توثيق من بورصة العملات المشفَّرة "كوين بيس" (Coinbase) وحدها، ممن زادوا إلى 73 مليون شخص بحلول سبتمبر الماضي، مقارنة بـ32 مليون في بداية 2019.
على ما يبدو، لم يهتم أحد بتحذيرات المستشارين الماليين أصحاب العقول الواعية لتجنب هذا النوع من الاستثمارات. وقفزت النسبة المئوية للأثرياء الذين يستخدمون الحسابات ذاتية الإدارة -على الأقل لجزء من استثماراتهم- إلى 69% في 2021، مقارنة بـ35% في 2015، وفقاً لتقرير صادر عن شركة الأبحاث "سيرولي أسوسياتس" (Cerulli Associates).
حول ما تم قوله وفعله من المستخدمين لهذه الحسابات؛ توضِّح "سيرولي": "من المرجح أن يركز المستثمرون اهتمامهم على الطروحات الأكثر تقلباً، بما في ذلك الأوراق المالية التي تحظى باهتمام إعلامي واسع، مثل: (غايم ستوب)، و(إيه إم سي)، أو العملات المشفَّرة، أو يتداولون ضمن نطاق الموضوعات، أو القطاعات المتخصصة التي يرى فيها المستثمر فرصة لتحقيق نمو هائل على المدى القصير إلى المتوسط".
يشكل هذا كله أمراً رائعاً للغاية بالنظر إلى مدى سهولة جني الأموال على الطريقة الخاملة، فقد ارتفعت الصناديق خاملة الإدارة المُتعقِّبة لمؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة 25% حتى الآن هذا العام.
منذ وقت ليس ببعيد؛ كان الأشخاص الموثوقون الجادون في التمويل، قلقين من أنَّ الكثير من المستثمرين هاجروا إلى صناديق المؤشرات، وأنَّ هذا من شأنه أن يشوِّه الأسواق.. وكان الأمر ظريفاً حقاً. لكن هذه الأيام، نتساءل عمّا إذا كنا سنواجه مخاطر مالية نظامية من الرموز المشفَّرة، التي تحمل "شعار كلب" كمزحة، على غرار عملة "دوج كوين" المشفَّرة.
خوف.. جشع وانبهار
من السهل إلقاء السبب في كل هذا على مشاعر الجشع والخوف المفرطة، التي تسببت مراراً في تأجيج الأسواق، (وفي هذه الحالة هناك مشاعر الخوف من تفويت الفرصة). كل هذا بالتأكيد يشكل جزءاً كبيراً من الدوافع الحقيقية. لكن مع ذلك؛ هناك انفعال أو شعور آخر يظهر هنا، وهو: الانبهار. فمساحة العملات المشفَّرة والرموز غير القابلة للاستبدال تطورت بسرعة، ودخلت في نفق لا نهاية له من الابتكار والخدع الفكرية.
أما بالنسبة إلى متداولي أسهم الميم؛ فمصدر الفتنة هنا هو انبهارهم بدواخل وتعقيدات هذه السوق، وكيف يقلب المتداولون المحترفون تلك التفاصيل المخفية لمصلحتهم. فأنت لا تكتشف ماهية نموذج أعمال شركة "إيه إم سي" وحسب؛ وإنما تدرس أيضاً ما إذا كان فريقك يستطيع التفوق على مديري الأموال في الجانب الآخر.
يمكن أيضاً تطبيق مفهوم "برهان العمل" -الذي يعني: الجهد الحاسوبي المطلوب لتشغيل شبكات سلسلة الكتلة، التي تدخل في عمليات مثل تعدين عملة "بتكوين"- على دوافع هذا الصنف الجديد من المتداولين، إذ يُقبل أصحاب الثروات على الاستثمار معك، إذا كنت تعمل بجد بما فيه الكفاية، أو تستنبط المعلومات الموجودة ما بين السطور على الإنترنت بما فيه الكفاية، أو تستمع إلى عدد كافٍ من مقاطع البث الصوتي (البودكاست)، أو تشاهد ما يكفي من مقاطع الفيديو على "يوتيوب"، أو تدرس ما يكفي من الوسائط الاجتماعية، أو تتعلم أنماط الرسوم البيانية التقنية، أو تُحدّث ببساطة تطبيق التداول على هاتفك بشكل متكرر، بما يكفي للضغط على زر الشراء في الوقت المناسب.
مجتمعات افتراضية
كل هذا يتعلق بشيء هزلي واحد، حدث عندما أجبر فيروس كورونا البشر على هذا الكوكب، على التزام العزلة عن بعضهم، مما تسبب في تشكيل مجتمعات افتراضية جديدة. وفي هذا الواقع الهجين من الثقافة المالية والشعبية، أصبحت هذه المجتمعات تلتقي في منتديات "ريديت" (Reddit)، وتتجمع على وسوم "تويتر"، أو في محادثات برنامجي "ديسكورد" (Discord)، و"سلاك" (Slack)، أو حتى من خلال المواضيع التي تُناقش عبر الرسائل النصية البسيطة.
أنا نفسي مشترك في مجموعة تضم أصدقاء كانوا يلتقون لسنوات عدة في ليالي الجمعة للعب البوكر. لكن بدلاً من ذلك؛ باتوا مؤخراً يجتمعون باستخدام تطبيق "زووم" مع أحد خبراء الرموز غير القابلة للاستبدال، لمناقشة طرق تحويل بعض ثرواتهم من الرموز المشفَّرة إلى ملفات الصور بصيغة (JPEG) التي تخزن بداخلها قيمة نقدية.
من السهل تحديد الأعضاء الأكثر حماسة في هذه المجتمعات، وهم المؤمنون الحقيقيون بقيمة العملات المشفَّرة، مثل توم برادي، الذي وضع هو وآخرون صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنطلق من أعينهم أشعة ليزر، وهي علامة رائجة لتمييز مؤيدي العملات المشفَّرة الكبار على الإنترنت.
جيوش الإنترنت
هناك الـ"ديجنيراتس" (Degenerates) أيضاً، وهي مجموعة ضمن صفحة "وول ستريت بيتس" (WallStreetBets) على موقع "ريديت" تضم 11.3 مليون شخص، وتعتبر إحدى المجموعات التي تشهد تزايداً في عدد أعضائها وقوة تأثيرها. ويتميز الـ"ديجنيراتس" بوضع صورة طفل كرتوني يرتدي بدلة موظف بنك ونظارة شمسية. لذلك؛ عليك أن تنظر عن كثب إلى القرود غريبة الأطوار، التي تظهر في ملفات تعريف الأشخاص على الإنترنت، إذ يمكن أن يكون الشخص عضواً في الـ"إيب آرمي" (Ape Army) أو ما يعني "جيش القرود"، ممن يحاربون للحصول على سهم شركة "إيه إم سي"، أو هو عضو في نادي "بورد إيب ياكت" (Bored Ape Yacht) للرموز غير القابلة للاستبدال، وهو مشروع بات الأكثر رواجاً بين رموز الحالة الرقمية التي انتشرت خلال 2021.
تنبع قيمة العديد من هذه الأصول فقط من قوة وتأثير المجتمعات المحيطة بها. وفي حالة مشاريع العملات المشفَّرة على وجه الخصوص، لا يوجد تدفق نقدي كامن في الغالب، أو اقتصاديات أساسية حقيقية، تعمل فيها على الإطلاق، كما لا يتوجب الحصول على أي ابتكار من سلسلة الكتل. ولا توجد عوائق فعلية أمام الدخول إلى هذا العالم.
هل ترغب في إطلاق عملة ميم خاصة بك؟ كل ما عليك فعله هو نسخ الشفرة مفتوحة المصدر من آخر عملة استخدمتها، وامنحها اسماً جديداً، مع إجراء بعض التعديلات عليها، بعدها ستدخل في عالم الأعمال. وسيتم تحديد سعر الرمز المميز وفقاً لمدى جودة قيام المجتمع الخاص به بنشره على وسائل التواصل الاجتماعي. عليك أن تجذب اهتمام إيلون ماسك فقط، أو أي مؤثر إلكتروني (إنفلونسر) آخر، وستصبح ثرياً في لمح البصر. أو ستتمكن على الأقل من توفير بعض المال لدفع قروض الدراسة الخاصة بك.
بداية جنونية.. نهاية كارثية
كل هذا يبدو جنونياً بعض الشيء، وهو كذلك بالفعل. ويبدو أيضاً وكأنَّ هذا العالم سيشهد نهاية كارثية، وهذا هو على الأرجح ما سيحدث.
فشخص ما، في مكان ما، سيشتري حتماً بأعلى سعر، محدداً بذلك السعر الأكثر سخافة، لدرجة أنَّه سيدخل إلى موسوعة الأرقام القياسية للأجيال القادمة، التي ستضحك على هذا الأمر وتتساءل: ما هو الخطأ الذي حدث لنا جميعاً؟
ستضيع الثروات، كبيرها وصغيرها على حدٍّ سواء. وستعود صور الملف الشخصي للأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي إلى إظهار لقطات الوجوه الاحترافية مجدداً. لا يعلم أي أحد متى سيحدث ذلك تحديداً. ربما عندما ينتقل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى سياسة نقدية أكثر تشدداً، أو عندما تعود حسابات الادخار التي ارتفعت بشدة أثناء تفشي الوباء إلى مستواها الطبيعي في نهاية المطاف. أو ربما لن يحدث ذلك إطلاقاً.
استثمار الهوية الشخصية
سواء ازدهرت أو انهارت، سيظل النمو الهائل وتأثير المجتمعات عبر الإنترنت، والانبهار الذي خلقته، هو الإرث الحقيقي للعالم المالي في عام 2021 وما بعده.
اعتاد بعض المحللين والكتاب تسمية هذه الظاهرة بـ"استثمار الهوية الشخصية". وقال تشاك ماكنوتون، كبير مستشاري الثروة في شركة "سكوتيا ماكلويد" ((ScotiaMcLeod خلال 2021: "من واقع خبرتي، كل المستثمرين يتصرفون بطريقة تتفق إلى حد كبير مع شخصيتهم الأساسية".
كان ماكنوتون يتحدث بشكل أساسي عن الأسهم، والسندات، ومستوى تحمل المخاطر المناسب لكل منهم. لكن هل يمكن لبعض المستثمرين الآن التعريف عن أنفسهم باستخدام رسم كاريكاتوري لكلب "شيبا إينو"؟ أو رسم قرد؟.. هذه هي الحالة التي سادت في 2021.
قال لي ستيف كورز، الرئيس العالمي لإدارة الأصول في شركة "غالاكسي ديجيتال" (Galaxy Digital)، وهي شركة استثمار في العملات المشفَّرة، خلال مقابلة على برنامج "ماذا يصعد؟" (What Goes Up) في نوفمبر الماضي: "من السهل الاستهزاء بهذا الأمر، لكنَّه حقيقي. فأنت ترتدي شارة محددة، وتمتلك جزءاً من الشبكة أثناء نموها". وأضاف: "علينا أن نتخيل عالماً يكون فيه الاستثمار في الهوية الشخصية يحمل قيمة حقيقية".
من سيثبت جدارته؟
من يدري أنَّ أياً من هذه الأصول الجديدة سيثبت جدارته للاحتفاظ به، بالطريقة ذاتها التي كانت شركتا "أبل"، و"أمازون دوت كوم" تستحقان التمسك بهما أثناء وبعد انهيار فقاعة الإنترنت، عندما انخفض مؤشر "ناسداك المركب" بنسبة 80% تقريباً. لكنَّ الشيء الأكيد هو أنَّ بعضها سيتمكّن من ذلك بالفعل.
دقق النظر فقط، وسترى في قلب فورة العملات المشفَّرة بوادر ظهور ما يسميه المؤمنون بها بـ"ويب 3"، وهو: (إنترنت مستقبلي جديد تماماً مبني حول تقنية سلسلة الكتلة، التي تدعم كل هذه الرموز والمشاريع الفنية). قال كورز: "سيكون الأمر أشبه بـ(فيسبوك)، الذي لم نكن نعرف ما هو النموذج الاقتصادي أو التقييم الذي سيكون عليه، إلا بعد فترة طويلة من نمو الشبكة. فمن المحتمل أنَّنا ما نزال في المراحل الأولى من بعض هذه الأشياء". وأردف: "أعتقد أنَّه سيكون من السخف تجاهل قيمة بعضها ".
بالتأكيد، سيخبرك من يضعون صور عيون الليزر بأنَّه إذا رفضت المستقبل؛ ستكون (NGMI) اختصاراً لعبارة (Not Gonna Make It)، أي؛ لن تتمكّن من النجاح. لكن الأكثر سخافة في هذه المرحلة هو تجاهل دروس الماضي، التي يكفي أن تنظر إلى أزمة "الدوت كوم" وما بعدها فقط حتى تتعلم منها. فأسهم الميم والعملات المشفَّرة لم تصل إلى درجة الفقاعات التي تضخمت باستمرار، لكنَّها بالأحرى سلسلة من الموجات، التي تضخمت بالفعل، وتحطّمت على الشاطئ، لتتبعها الفقاعة التالية.
عالم جديد كلياً
إنَّ صندوق "أرك إينوفيشن" (ARK Innovation) المتداول بالبورصة -وهو صندوق كبير يتبع لكاثي وود، ويضم أسهم شركة "تسلا"، وعملات "بتكوين"، انطلق في عام 2020، وبلغ مستوى الذروة في فبراير الماضي- انخفض بنسبة 40% تقريباً عن أعلى مستوياته. كما هبط سهم "إيه إم سي" بأكثر من 60% عن السعر الذي وصل إليه خلال الصيف. وتراجعت "دوج كوين" مع ارتفاع الرموز غير القابلة للاستبدال.
مع ذلك؛ قد تكون السوق الصاعدة بشكل عام عوّضت عن الكثير من تأثير هذا التراجع، من خلال خلق الشعور بأنَّه يمكنك دائماً العثور على شيء ما يرتفع. تقول كريستين بنز، مديرة التمويل الشخصي في شركة أبحاث الصنايق "مورنينغ ستار" (Morningstar): "لديك جيل جديد من المستثمرين الذين دخلوا السوق، ولم يتعرضوا لخسائر كبيرة في الماضي".
لكنَّ التقييمات مرتفعة حتى بالنسبة إلى مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" الأساسي البسيط، كما تخبر مجموعة "فانغارد" (Vanguard) العملاقة لإدارة الأموال المستثمرين بأن يتوقَّعوا عوائد أكثر تواضعاً خلال العقد المقبل. وتتذكر بنز ما حدث للعديد من المتداولين بعد انهيار شركات التكنولوجيا في سنة 2000، بقولها: "شعر الناس باليأس، ليس تجاه أسهم معينة فقط؛ وإنما نحو فكرة استثمارهم في الأسهم كأفراد برمتها".
سيتعين علينا معرفة ما إذا كان هذا هو الحال مع هذا العالم الجديد المبهر من الاستثمار في الهوية الشخصية. في هذه الأثناء، يتساءل الكثيرون عما إذا كان سيثبت خطأ نظرية التشابة بين قصتي صعود "فيسبوك" والعملات المشفَّرة، ومتى قد يحدث ذلك؟ وهل سنكتشف أنَّ "ويب 3" هو النظام المالي للميتافيرس؟ لكن بالنسبة إلى أي شخص يرتدي نظارات الواقع الافتراضي، ويغوص في أفكاره الداخلية أولاً، أود أن أقول: "تذكّر أنَّ الواقع قد يكون افتراضياً، لكنَّ الأموال التي تستثمرها ليست كذلك".