بلومبرغ
يقضي مايكل ليفين، عالِم الأحياء في جامعة "تافتس" (Tufts University) بولاية ماساتشوستس، أيامه في القيام بأمور مثل خداع الأنظمة البيولوجية لكائنات مثل الديدان المفلطحة، لتنمية رأسين، أو مساعدة الضفادع على تجديد سيقانها المفقودة. يقول ليفين إنه على الرغم من أن الأمر قد لا يبدو كذلك فإنّ ما يقوم به يُعتبر بحثاً متعلقاً بتطوير الروبوتات. فمن وجهة نظره كل كائن حي هو نوع من الآلات، إذ يستعين عالم الأحياء بمفردات البرمجة، ويصف الخريطة الجينية للحيوانات بأنها تحدد "أجهزتها"، ويشرح كيف يحسّن الكائنات الحية من خلال إعادة صياغة "برمجيات" اتصالاتها الخلوية واختراق "شفرة الكهرباء الحيوية" الخاصة بها.
اقرأ أيضاً: ما مصير مراكز اختبارات فيروس كورونا بعد نهاية الجائحة؟
يتضمن بعض أعمال ليفين روبوتات حية وكرات خلوية صغيرة لزجة، نمّاها هو وزملاؤه داخل المختبر من خلايا الجلد والعضلات والخلايا الجذعية لأجنة الضفادع. ويشاركه في ذلك مساعده الرئيسي جوش بونغارد، عالِم الكمبيوتر في جامعة "فيرمونت"، الذي تضمنت أعماله السابقة صناعة روبوتات يمكنها إعادة تعلّم المشي بعد فقدان جزء من ساق على سبيل المثال. وفي حين تتمتع الحيوانات بالقدرة على التعافي من الإصابات والتكيف مع الظروف الجديدة، لا تزال الروبوتات وأنظمة الذكاء الصناعي تكافح من أجل القيام بذلك، غير أنه، وحسب توقعات العلماء فإنّ الجمع بين مقومات الروبوتات وعلم الأحياء يمكن أن يغير ذلك.
اقرأ المزيد: ازدهار استثمارات الصحة الرقمية يتسارع مع قفزة في النصف الأول
في عام 2018 بدأت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتطورة، الذراع البحثية للبنتاغون، التي تُعرف اختصاراً باسم "درابا" (Darpa)، تمويل عمل ليفين وبونغارد في إطار برنامج آلات التعلم مدى الحياة، الذي يسعى إلى تطبيق الآليات البيولوجية على أنظمة الحوسبة الجديدة. ويستخدم ليفين نسخة محاكاة لعملية الانتخاب الطبيعي لتصميم الروبوتات الحية الخاصة به، يطلق عليها اسم "زينوبوتس"، أو روبوتات "زينو" (Xenobots)، تيمناً بالقيطم الإفريقي (Xenopus laevis)، الذي صنع ليفين تلك الروبوتات من خلاياه لتؤدي حركات ووظائف مثل الزحف والتنقل والتذكر وحمل البضائع. في نهاية المطاف، قد تُصنع الروبوتات الحية لرصد واستيعاب التلوث في المجاري المائية أو تنظيف الترسبات من الشرايين (قد يوحي تدخّل البنتاغون هنا بأن وراء أبحاث ليفين توجهاً نحو تطبيقات أكثر عدائية، لكن "داربا" لا تموّل دائماً المشاريع البحثية بغرض استغلالها في تطبيقات عسكرية بعينها).
بداية الأبحاث
بدأت أبحاث ليفين وبونغارد لتطوير الروبوتات الحية عندما صمم سام كريغمان، أحد طلاب الدكتوراه لدى بونغارد، محاكاة حاسوبية لتطور الروبوتات. في البداية، تمخضت التجربة عن محاكاة للروبوتات تشبه المكعبات، مع وجود ثماني وحدات على كل جانب، إذ شكلت كل وحدة أحد لونين من المكعبات أو مساحة فارغة في ما يشبه لغز مكعب "روبيك" المبسط، مع وجود ثقوب بداخله. وحسب المحاكاة فقد ظل لون من المكعبات ساكناً دون حراك، فيما ارتعش اللون الآخر. أبقت المحاكاة على المكعبات التي تحركت بطرق معينة تتماشى مع أهدافها، ثم حورت واستنسخت الحوافظ، في محاولة منها لبناء نماذج مختلفة على مدى أجيال عديدة حتى انتهى الأمر بالمحاكاة إلى ابتكار مخلوقات مرنة من المكعبات التي يمكنها أن تزحف.
خلال هذه المرحلة من العملية يقتصر وجود تلك المخلوقات على كونها جزءاً من برنامج فقط. أما في الخطوة التالية فيصنع دوغلاس بلاكستون، العالم في مختبر ليفين، نماذج مادية للمكعبات في محاكاة الكمبيوتر باستخدام خلايا الضفادع. بالنسبة إلى المكعبات الساكنة، يستخدم بلاكسيتون الخلايا الجذعية المكونة للخلايا الجلدية، فيما تجري صناعة المكعبات التي أظهرت ارتعاشاً خلال المحاكاة من الخلايا جذعية المكونة لخلايا عضلات القلب.
يتطلب القيام بذلك العمل دقة متناهية، إذ يصنع بلاكستون الروبوتات الحية باستخدام مجموعة من الملاقط المشحذة يدوياً وأسلاك كي رفيعة للغاية تصعب رؤيتها. يمكن أن تتمخض المحاكاة عن ملايين التصميمات يومياً، لكن الأمر يستغرق ساعات لصناعة أحدها فقط. وبمجرد نشرها في طبق بتري (وهو طبق أسطواني غير عميق مصنوع من الزجاج أو البلاستيك)، تقوم الروبوتات بما جرى تطويرها على الكمبيوتر للقيام به من وظائف كالزحف، أو دفع أجزاء من الفتات العضوي، أو نقل الأحمال، أو التعاون لجرف الجسيمات في أكوام. في العام الماضي، نشر الفريق نتائج تجاربه في مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية" المرموقة (PNAS)، إذ كتب أن المكعبات، التي أطلقوا عليها اسم "الآلات الحية"، لديها القدرة على توصيل الأدوية داخل جسم الإنسان أو المساعدة في الإصلاح البيئي.
روبوتات حية لديها ذاكرة
لكن فريق البحث اتبع نهجاً مختلفاً في مجلة "ساينس روبوتيكس" (Science Robotics)، إذ حوّل خلايا جذعية من أجنة الضفادع إلى كرات بسيطة، قطر كل منها نصف مليمتر. وسرعان ما جرى تنظيم الكرات ذاتياً -دون الحاجة إلى قولبتها يدوياً- إلى كرات مغطاة بالجلد تكسوها أهداب تشبه الشعر في هيئتها وتعمل مثل مجاديف السباحة الصغيرة.
لم يكن لدى الروبوتات الحية خلايا عصبية، ولكنها تمكنت من السباحة عبر المساحات الضيقة والانعطاف. كما يمكن تصميم الروبوتات لتكون لها ذاكرة. فعند حقنها بالحمض النووي الريبي المرسال (messenger RNA) لبروتين متوهج حساس للضوء، توهجت الروبوتات باللون الأخضر حتى وصلت إلى ضوء بطول موجيّ معيّن، وبعد ذلك توهجت باللون الأحمر، ما يشير إلى أن التجربة قد غيرت سلوك الروبوتات.
تطورات ونتائج مذهلة
كانت مهمة الروبوتات هي العمل بشكل جماعي لجرف الفتات العضوي وتحويله إلى أكوام. ورغم أنها لم تتعاون بنشاط من خلال التواصل المباشر، فإنّ التنسيق بينها بدا ظاهراً.
من جهة أخرى، تمكنت روبوتات "زينوبوتس" من البقاء على قيد الحياة لمدة 10 أيام دون تغذية، ولمدة ثلاثة أشهر في محلول مليء بالمغذيات. وحتى عندما أحدث العلماء تمزقات عميقة، أصلحت الروبوتات نفسها في غضون 15 دقيقة، وهو إنجاز من شأنه المساعدة في البيئات المضطربة، وقد أظهر أيضاً براعة الخلايا.
يقول ليفين إن نتائج العمل المخبري مذهلة حتى لو أنها تفسر ما كان يشتبه طوال الوقت بكونه أمراً ممكناً. وأضاف: "أشعر بالذهول كل أسبوعين".
استنساخ ذاتي
في أحدث عمل لهم نُشرت نتائجه في ديسمبر في مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية"، استخدم العلماء التطور الرقمي لتصميم الروبوتات الحية التي يمكنها الاستنساخ ذاتياً. تتجمع المخلوقات، التي يكون بعضها على شكل نصف كعكة دونات، وتضغط خلايا الضفادع الضالة لتشكل نسخاً منها. يقول بونغارد: "لا يوجد كائن حي معروف يتكاثر بهذه الطريقة". أيضاً قد تقوم الإصدارات المستقبلية من "زينوبوتس" بوظائف أخرى، مثل بناء الدوائر الكهربائية للرقائق، وذلك فيما تحشد جيشاً من العمال. في السابق، جرى استعراض الآثار الكئيبة لوجود روبوتات قادرة على الاستنساخ ذاتياً في روايات الخيال العلمي، لكن ليفين يشير إلى أن التكاثر الجامح لتلك المخلوقات أمر مستبعد للغاية، كونها تتطلب مصدراً للخلايا السائبة ونوعاً متخصصاً من المياه المالحة للتكاثر.
من هنا يخطط الفريق القائم على تطوير الروبوتات الحية لأتمتة عملية التصنيع، الأمر الذي من شأنه أن يريح بلاكستون من استخدام ملقطه. وهم يريدون، أيضاً، تحسين الخوارزمية التطورية والعمل بأنواع متباينة من الخلايا أو خلايا من أجناس مختلفة. إنهم يرغبون في التحكم في الهيئة التي تنمو الروبوتات الحية لتصبح عليها، من خلال اختراق نظم الكهرباء الحيوية لديها، وتحويل الخريطة الجينية الخاصة بتلك الروبوتات إلى رموز لأجهزة استشعار ودوائر كهربائية وأجزاء متحركة جديدة.
جدل حول الجانب الأخلاقي
أي روبوتات حية تخدم غرضاً طبياً يجب أن تكون مصنوعة من خلايا بشرية، وهي قفزة من المحتمل أن تسبب جدلاً أكثر من العبث بخلايا الضفادع. كما تثير العملية أيضاً قضايا أخلاقية أخرى، مثل ما إذا كان من المحتمل أن تكون للروبوتات الحية عواقب بيئية غير متوقعة. لكن ليفين يقول إنّ الإخفاق في متابعة أبحاث يمكنها تقليل المعاناة البشرية من شأنه أيضاً إثارة قضايا أخلاقية.
في غضون أقل من خمس سنوات، من الممكن أن تصبح الروبوتات الحية جاهزة لخدمة الأغراض البيئية، غير أن الموافقة على استخدامها في المجالات الطبية من المحتمل أن يستغرق عقداً أو أكثر. "أمامنا طريق طويل لنقطعه في هذا المجال"، كما يقول كيفن باركر، المهندس البيولوجي بجامعة "هارفارد"، الذي يعكف على صناعة "هجين بيولوجي" من الروبوتات العضوية-الصناعية، مثل الروبوتات المصنوعة من السليكون على هيئة سمك الرقيطة، والمدعومة بخلايا من عضلة قلب الفئران. ويضيف: "لكنه أمر ممتع ومثير، بل وغريب في هذه المرحلة إلى حد ما".
العمل الجماعي للخلايا
حسب باركر، الذي يصف الروبوتات الحية بأنها أداة للإجابة عن الأسئلة الأساسية بشأن العلم، فإنها ليست بحاجة إلى مغادرة المختبر لتجعل حياتنا أفضل. أما بالنسبة إلى ليفين فتمثل الآلات الحية فرصة لكشف خبايا عملية تقرير الخلايا بشكل جماعي، والعمل معاً للقيام بأشياء مثل بناء ذراع، مع توفير نظرة متعمقة بشأن كيفية عمل الذكاء الجمعي في مجالات مثل أسراب الروبوتات، وإنترنت الأشياء، والاقتصادات. ويضيف ليفين أن تعلّم التنبؤ والتحكم في أهداف مثل هذه الأنظمة يشكل قضية ذات أهمية وجودية، كما أن هذه الروبوتات "توفر بيئة اختبار جديدة وفريدة من نوعها للتجربة".