بلومبرغ
اتخذ الرئيس الصيني شي جين بينغ إجراءات صارمة ضد كبريات شركات التكنولوجيا، بالتزامن مع تهديداته باستخدام قوته العسكرية ضد تايوان. كما قام باختبار صواريخ في الفضاء تفوق سرعتها سرعة الصوت. يأتي ذلك في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدّيه للأسواق المالية العالمية، بالإضافة إلى تهديده لأيام معدودة بطرد سفراء 10 دول. وفي موسكو، وجَّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما يكفي من القوات نحو أوكرانيا لإقناع الولايات المتحدة بقرب شنِّ غزو عسكري عليها.
كل ذلك يأتي بعد مرور نحو عامين على انتشار الوباء الذي أدى إلى ترنُّح العديد من الديمقراطيات.
اقرأ أيضاً: أكثر من 55 دولة لم تصل لهدف تلقيح 10% من السكان
بعيداً عن الوصف البلاغي –بصفتهم منتصرين أحياناً، أو عدوانيين في أحيان أخرى– نجد أنَّ ما يفعله هؤلاء القادة الأقوياء يكشف عن ضعفهم داخلياً بسبب قسوة تداعيات الوباء، فقد فشل العديد في اختبار الاستجابة لـ"كوفيد-" 19على الأقل مقارنة بنظرائهم في البلدان الديمقراطية. وهو ما يعني حالة من عدم الاستقرار، وزيادة المخاطر في ظل اجتماع كل من انعدام الأمن داخلياً، والثقة خارجياً.
بدا القادة الاستبداديون في مطلع أزمة كوفيد أكثر قدرة على تجنب رد الفعل العام، والتداعيات الاقتصادية التي عانت منها حكومات عديدة في ديمقراطيات الاقتصادات المتقدمة. وتلك فرضية صحيحة بالفعل، بغض النظر عما قاموا به من فرض عمليات إغلاق وقيود صارمة، أو مثلما فعل بوتين بالتقليل من أهمية تهديد الوباء. (تذكرون نصيحة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو لمحاربة كوفيد بالفودكا وركوب الجرارات؟)
اقرأ المزيد: حرب أردوغان على أسعار الفائدة تثري الأغنياء وترهق الفقراء
أما الآن، ومع انتشار الوباء، فقد أصبحت تلك الميزة التي تمتعوا بها موضع شك.
معاناة الدول الثلاث
تعاني روسيا من أجل خفض أعداد الوفيات القياسية الناجمة عن انتشار فيروس كوفيد، بالإضافة إلى أنَّ الأسر الروسية أصبحت أكثر فقراً، وتراجعت شعبية بوتين. وعلى الرغم من سياسات الصين الصارمة بشأن فيروس كوفيد التي حقَّقت مكاسب كبيرة بعدما انتعش الاقتصاد، ووصل معدل النمو إلى 18.3% على أساس سنوي في الربع الأول من العام 2021، عاد النمو إلى التباطؤ مرة أخرى بسبب نهج شي الذي يهدف إلى اختفاء حالات الاصابة بكوفيد، والذي دفعه إلى استمرار إغلاق الحدود والمدن إلى جانب حملته على التجاوزات الرأسمالية. كذلك تعثّر أردوغان قبلهما، ولم تنجح محاولته لاحتواء ما يمكن أن نطلق عليه تداعيات كوفيد الاقتصادية طويلة الأجل.
اقرأ أيضاً: موسكو تفرض قانون إغلاق لأربعة أشهر على كبار السن غير المُطعمين
يقول إيفان كراستيف رئيس "مركز الاستراتيجيات الليبرالية" للأبحاث، ومقره بلغاريا، إنَّ حكومات ديمقراطية عديدة تتعرض لتحديات كبيرة، ومن بينها حكومة الولايات المتحدة، ولكن الديمقراطيات تتميز عن غيرها في حالة الوباء، إذ يمكنها تحمل الفشل إذا اعتقد الشعب أنَّ الحكومات المنتخبة قد أخطأت في مهمة أساسية مثل حماية حياة مواطنيها، فستدفع الثمن في صناديق الاقتراع، وخسارة قيادة الدولة التي من الممكن أن تغادرها متضررة، ولكنَّها تبقى سليمة.
تنطبق القاعدة أيضاً على الرؤساء الشعبويين والمستبدين الذين خاضوا الانتخابات على السواء، فقد ساهمت الإخفاقات أثناء الوباء في خسارة الرئيس السابق دونالد ترمب في الولايات المتحدة، ومؤخراً أندريه بابيس رئيس الوزراء التشيكي. ويضيف كراستيف: "نشهد نهاية دورة شعبوية"، لكن تلك الصعوبات لا يواجهها القادة القادرون على تزوير الانتخابات أو تجاهلها، إذ يقول كراستيف: "في ظل الحكم الاستبدادي تصبح كل المشكلات بيد النظام نفسه".
بدا بوتين مرتاحاً وواثقاً في لقائه مع محللي السياسة الخارجية من أنحاء العالم كافةً، خلال اللقاء الذي انعقد في موسكو في أكتوبر الماضي، الذي أشار فيه إلى أنَّ الوباء يمثل دليلاً واضحاً على نهاية النظام الليبرالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. ويشبِّه سيرغي كاراغانوف عميد أبحاث السياسة الخارجية الروسية، وأحد مؤسسي منتدى "نادي فالداي للحوار" الذي تحدَّث فيه بوتين يوم 21 أكتوبر، تداعيات كوفيد 19 بالتداعيات الجيوسياسية لحرب كبرى أدت إلى قلب موازين القوى لصالح روسيا. يقول كاراغانوف: "لم تكن روسيا أبداً في وضع جيوسياسي أفضل من قبل. فالصين أصبحت حليفاً، والغرب غير منظم، ولذلك ليس لدينا أي خصم يستحق الحديث عنه".
الدولة الأمنية
برغم الانتصار الذي يتحدث عنه كاراغانوف؛ إلا أنَّه يعاود التحذير قائلاً: "بغضِّ النظر عن كوفيد؛ إذا استمرت روسيا في اتباع سياسة اقتصادية جيدة، وأعادت تطبيق بعض مظاهر الديمقراطية، سيكون الأمر على ما يرام".
لكنَّها "إذا" كبيرة، إذ تتزامن مع ما يشهده المواطنون الروس من انخفاض دخلهم السنوي بسبب سياسات قطع التجارة والاستثمار مع الغرب، فضلاً عن أنَّ التوجه السياسي مؤخراً، يشير إلى الاقتراب من الدولة الأمنية، والابتعاد عن التحول الديمقراطي، وهو ما يظهر بوضوح في القمع الصارم وغير المعتاد ضد خصوم بوتين السياسيين قبل انتخابات سبتمبر.
أشار توماس غراهام، الزميل المتميز في "مجلس العلاقات الخارجية" الذي عمل من قبل في "مجلس الأمن القومي" الأمريكي في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش، إلى أنَّ كل هذا لا يدل على الثقة في الوضع الداخلي. إذ يعرف المسؤولون داخل "الكرملين" أنَّ الروس غير سعداء. وقال غراهام: "لقد فعلوا ما فعلوه في تلك الظروف، وقاموا بقمع أي شيء يمكن أن يشكل تهديداً".
يشبه بوتين نظيره شي، إذ لا يواجه مخاطر متوقَّعة بإقالته، كما يتمتع بمكاسب كبيرة في الوقت الحالي نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة.
يقول ديمتري سوسلوف، الباحث في العلاقات الدولية بجامعة "إتش إس إي" في موسكو، إنَّ الوباء أدى إلى تسريع وتيرة بعض الاتجاهات التي تثير القلق. وفي حالة روسيا، كشف الوباء عن فجوة بين المواطنين والحكومة، حتى عندما أكدت السلطات قدرتها على سرعة تطوير لقاح "سبوتنيك في" لإثبات مكانة البلاد كقوة تكنولوجية.
يقول سوسلوف: "كان اللقاح متاحاً في روسيا لوقت أطول من غيره في أي مكان في العالم". وبرغم ذلك؛ يتخلف معدل التطعيم البالغ 35% عن المتوسط العالمي. ويعلق سوسلوف على انخفاض معدل التطعيم قائلاً إنه "يعكس المناخ العام، وعدم الثقة في الدولة، وقد لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى احتجاجات، ولكن يؤدي إلى اللامبالاة والعزلة".
التشدّد الصيني
أكد برونو ماكيس، وزير العلاقات الأوروبية السابق في البرتغال والمتخصص في الشؤون الصينية، أنَّ "الحزب الشيوعي" الصيني أدرك على وجه التحديد تلك المخاطر على النظام، مما دفعه إلى التشدد في الاستجابة لـ"كوفيد"، فقد وصفت قيادة الحزب مكافحة انتشار الفيروس منذ بداية الانتشار على أنَّها تهديد للأمن القومي. ويقول ماكيس، إنَّه على صعيد السياسة الخارجية، كانت الصين أكثر حزماً، وطبقت ما يعرف بـ"دبلوماسية الذئب المحارب". أما داخلياً، فقد مارس شي ضغوطاً وسياسات ماركسية على شركات التكنولوجيا، وممارسات المضاربات العقارية، والدروس الخصوصية، بهدف تعزيز شرعية الحزب وسط شعب منهك بسبب أمراض التحول الصيني.
يتساءل أندرو غيلهولم، المسؤول الرئيسي عن الشؤون الآسيوية في شركة "إيجا كونترول ريسكس"، وهي شركة استشارات متخصصة في تقييم التهديدات التي تتعرض لها الشركات، ما إذا كان شي قد قرر مواجهة تلك التحديات في وقت واحد وفق تكتيك محسوب بعناية لتعزيز موقفه، أم أنَّه يمثل غطرسة، شجعته عليها معاناة النظم الديمقراطية من الوباء، فضلاً عن الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان. ويقول أندرو: "في حال كان الدافع هو الغطرسة، فسيكون الأمر أكثر خطورة".
التضخم وشعبية أردوغان
لكنَّ استجابة شي لتحديات كوفيد تعد فائقة مقارنة باستجابة أردوغان في تركيا، فقد أجبر أردوغان "البنك المركزي التركي" على خفض أسعار الفائدة، وضخ المزيد من الائتمان في الاقتصاد، برغم ارتفاع التضخم إلى 19.9% في أكتوبر لمواجهة تراجع شعبيته.
لقد نجحت استراتيجية الحبال المشدودة في الماضي في إبقاء الاقتصاد صامداً قبل الانتخابات، ولكن وقتها كانت الفائدة مرتفعة للغاية بالقياس للعملة التركية والاقتصاد المنفتح. في ذلك الوقت، محا ارتفاع الفائدة أي مزايا يمكن حصدها من الصادرات الرخيصة، لكنَّ الأمر قد لا ينجح مرة أخرى، إذ يساوي سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي اليوم أقل من خُمس ما كان عليه في 2012، قبل أن يبدأ أردوغان وقتها بمحاولة فرض سيطرة مباشرة على البنك المركزي ومؤسسات أخرى.
إنَّ أكبر تهديد لسيطرة أردوغان على السلطة، يتمثل في الأضرار الشديدة التي عانى منها الأتراك الأكثر فقراً أثناء الوباء، وهم يمثلون ركيزة أساسية في شعبيته. يقول غاليب دالاي، المتخصص في الشؤون التركية والزميل في "أكاديمية روبرت بوش" المؤسسة الفكرية في برلين: "لقد واجه الأتراك بمفردهم"، وأصبح همهم الأكبر الآن بشأن الاقتصاد. وقد فازت أحزاب المعارضة بالفعل، وسيطرت على المدن الكبرى في البلاد. على الرغم من سياسة أردوغان في السنوات الماضية التي تشبه طريقة بوتين في استغلال الكبرياء القومي لرفع شعبيته من خلال القيام بعمليات عسكرية في أذربيجان، وليبيا، وسوريا، إلا أنَّه من غير المرجح أن يستفيد أردوغان من تكرار السيناريو ذاته، إذ يقول دالاي: "للمرة الأولى، أعتقد أنَّ أردوغان في ورطة حقيقية".
مغامرة روسية محتملة
تقول أوكسانا أنتونينكو، مديرة شركة "كونترول ريسكس" التي تركز على الشؤون الأوروبية وأفريقيا، إنَّ التحدي بالنسبة إلى أردوغان وبوتين، هو أنَّ الاستراتيجية القديمة لم تعد ناجحة في الوقت الحالي. مع ذلك لا يمكن استبعاد قيام بوتين بمغامرة عسكرية أخرى في الخارج مع استمرار دعم روسيا للرئيس اليبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يقوم بتسليح المهاجرين من الشرق الأوسط ضد "الاتحاد الأوروبي"، وإعادة حشد قوات روسيا حول أوكرانيا في إشارة إلى أنَّ أدوات "الكرملين" قد تغيَّرت قليلاً. مع ذلك، لا توجد ضمانة بأنَّ العدوان العسكري ستنتج عنه زيادة شعبية بوتين بين مؤيديه في الداخل، إذ ما يزال 32% فقط من الروس يعتقدون أنَّ مكانة البلاد كقوة عظمى هي القضية الأكثر أهمية مقارنة بنحو 66% يشغلهم بشكل أساسي مستوى معيشتهم، وفقاً لاستطلاع أجراه "مركز ليفادا التحليلي"، ومقره موسكو في أغسطس الماضي. وأشار أنتونينكو إلى أنَّ الخطر الأكبر على الاستقرار الآن يكمن في هشاشة نظام يبدو غير قادر على التكيف مع التغيرات.
يسعى شي إلى تعزيز قبضته في الصين لدرجة لم يصل إليها سوى ماو تسي تونغ. ولكن بعد مرور عامين على انتشار الوباء؛ أصبح الديكتاتوريون حول العالم بشكل عام في وضع أسوأ مما يعتقده العالم، وهذا شيء غير مطمئن لهم أو لجيرانهم، إذ يقول أنتونينكو: "ننظر إلى الدول الهشة، ليس من المنظور التقليدي لدول الجنوب الأقل تقدُّماً اقتصادياً فقط.. فالهشاشة الآن موجودة بشكل متزايد في نصف الكرة الشمالي أيضاً".