بلومبرغ
في يوليو الماضي، استدعت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين رئيس الاحتياطي الفيدرالي، ورئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات، وستة مسؤولين كباراً آخرين، إلى اجتماع لمناقشة "تيذر" (Tether). لم يكن ممكناً بالنسبة إليهم عدم ملاحظة عبثية الموقف: كان التضخم في ارتفاع، وطفرة كوفيد تهدد الانتعاش الاقتصادي، وتريد يلين التحدث عن عملة رقمية حلم بها الممثل الطفل السابق الذي أضاع ركلة جزاء في فيلم "ذا مايتي داكس" (The Mighty Ducks). لكن "تيذر" أصبحت كبيرة لدرجة أنها هددت بتعريض النظام المالي الأمريكي للخطر. كان الأمر كما لو أن معركة بكرات الثلج في ملعب قد تطورت بشكل كبير لدرجة استدعاء هيئة الأركان المشتركة لتجنب حرب نووية.
اقرأ أيضاً: تغريم "تيذر" 41 مليون دولار لكذبها بشأن دعمها بأصول نقدية
استمعوا إلى هذه القصة
أصبحت عملة "تيذر" معروفة في الدوائر المالية بأنها عملة مستقرة (مستقرة لأنه يفترض أن تكون كل وحدة من عملة "تيذر" مدعومة بدولار واحد)، لكن الواقع أشبه بالمصرف، فالشركة التي تصدر العملة، وهي "تيذر هولدينغز" (Tether Holdings) تحصل على دولارات من الأشخاص الذين يرغبون في تداول العملات المشفرة، وتضيف في المقابل إلى محافظهم الرقمية مبلغاً مساوياً من عملة "تيذر". وحين تصبح لديهم عملة "تيذر" يمكنهم إرسالها إلى منصات تبادل العملات المشفرة واستخدامها للمراهنة على سعر "بتكوين" أو "إيثر" أو أي واحدة من آلاف العملات المشفرة الأخرى. نظرياً على الأقل، تحتفظ "تيذر هولدينغز" بالمبالغ المدفوعة بالدولار حتى تتمكن من إعادتها إلى أي شخص يريد إعادة الرموز المميزة الخاصة به واسترداد أمواله. أصبحت هذه الآلية المعقدة شائعة، لأن البنوك الحقيقية لا ترغب في التعامل مع شركات العملات المشفرة، خصوصاً الشركات الأجنبية.
اقرأ المزيد: نموذج عملات مشفرة بـ100 مليار دولار يثير قلق المسؤولين في أمريكا
كيف تحصل "تيذر" على الدعم بالضبط؟ وهل هي مدعومة حقاً؟ لطالما كان الأمر لغزاً. طَوال سنوات، جادلت مجموعة مثابرة من النقاد بأنه، ورغم تأكيدات الشركة، لا تمتلك "تيذر هولدينغز" أصولاً كافية للمحافظة على سعر الصرف عند 1 إلى 1، ما يعني أن عملتها هي في الأساس عملية احتيال. لكن في عالم العملات المشفرة، حيث يمكن أن تصل قيمة العملات التي تحمل صور الكلاب، والتي بدأت كمزحة، إلى مليارات الدولارات، ويحقق المحتالون بشكل دوري ثروات بمخططات تبدو غير معقولة، بدت "تيذر" وكأنها مجرد فضول آخر.
ثم في العام الحالي بدأت "تيذر هولدينغز" طرح كمية هائلة من العملات الرقمية. هناك الآن 69 مليار "تيذر" في التداول، 48 ملياراً منها من إصدار هذا العام، ما يعني أنه يفترض أن تملك الشركة 69 مليار دولار من الأموال الحقيقية لدعم العملات التي أصدرتها، وهو مبلغ سيجعلها واحدة من أكبر 50 مؤسسة مصرفية في الولايات المتحدة، لو كانت بنكاً أمريكياً لا شركة خارجية غير خاضعة للتنظيم.
تساؤلات حول التغطية
بدأ الجميع على "تويتر" و"بيزنيس تي في" (Business TV)، وفي مراكز التداول بصناديق التحوط والبنوك الاستثمارية، يسألون عن سبب قيام "تيذر" بتعدين كثير من العملات، وما إذا كانت لديها بالفعل الأموال التي تدّعي أنها تمتلكها. انتشر منشور مجهول على مدونة معادية لـ"تيذر" بعنوان: "القصة باختصار/ داخل آلة العملات الرقمية لنهاية العالم"، وطلب جيم كرامر مضيف قناة "سي إن بي سي" من المشاهدين بيع عملاتهم المشفرة، محذراً من أن "انهيار (تيذر) سيؤدي إلى تدمير منظومة العملات المشفرة بالكامل".
اقرأ أيضاً: نهاية مأساوية لعملة مشفرة هبطت من 64 دولاراً إلى مستوى يقارب الصفر
بقدر ما يتعلق الأمر بالمنظمين فإن حجم ممتلكات "تيذر" المفترضة بالدولار كبير جداً، لدرجة أن الأمر سيكون خطيراً حتى لو افترضنا أن الدولارات حقيقية؛ إذا طلب عدد كافٍ من المتداولين استعادة دولاراتهم في وقت واحد، فقد تضطر الشركة إلى تصفية أصولها بخسارة، ما يؤدي إلى تهافت على المؤسسات المشابهة غير البنكية. يمكن أن تتسلل الخسائر إلى النظام المالي الفعلي من خلال انهيار أسواق الائتمان. إذا كان المنتقدون على حق، وكانت "تيذر" خدعة تطبق مخطط بونزي، فستكون النتيجة أكبر من خديعة بيرني مادوف.
لذا شرعت في وقت سابق من هذا العام في حلّ اللغز. قادني تتبع المال من تايوان إلى بورتوريكو، والريفيرا الفرنسية، وبر الصين الرئيسي، وجزر الباهاما. أخبرني أحد المصرفيين السابقين في "تيذر" بأن مديرها التنفيذي الأعلى كان يعرّض احتياطياتها للخطر من خلال استثمارها لكسب مئات الملايين من الدولارات من الأرباح لنفسه. قال جون بيتس، الذي كان يدير بنكاً في بورتوريكو استخدمته "تيذر": "هذه ليست عملة مستقرة، إنها صندوق تحوّط خارجي عالي المخاطر. حتى الشركاء المصرفيون لا يعرفون حجم ممتلكاتهم، أو ما إذا كانت موجودة".
بنك العملات المشفرة
تمثل نجمة خماسية خضراء مزخرفة بحرف “"تي" (T) أبيض، عملة "تيذر" على موقع الشركة على الإنترنت، والتي تعِد بـ"نقود رقمية لعصر رقمي". لا يبدو الشعار مميزاً، لكن r] يكون أكثر أمر طبيعي في "تيذر هولدينغز"، فهي غريبة من كل النواحي التي يمكنك تخيلها تقريباً. هناك عشرات الموظفين فقط لديهم حسابات على موقع "لينكدإن" (LinkedIn)، وهو رقم ضئيل لشركة تدير 69 مليار دولار.
يروج موقع "تيذر" أيضاً لتسوية مع المدعي العام في نيويورك، لكن الإعلان عن تلك التسوية جعل الأمر يبدو كما لو أن بعض الأمور المروعة كان على عاتق الشركة. وقالت المدعية العامة ليتيتيا جيمس في بيان لها إنّ "تيذر هولدينغز" كانت تحت إدارة "أفراد وكيانات غير مرخصة وغير منظمة تجري تعاملاتها في أحلك أركان النظام المالي".
في مكان آخر على الموقع الإلكتروني، رسالة من شركة محاسبة تنص على أن لدى "تيذر" الاحتياطيات لدعم عملاتها، إلى جانب مخطط دائري يوضح أن نحو 30 مليار دولار من ممتلكاتها بالدولار مستثمرة في الأوراق التجارية على شكل قروض قصيرة الأجل للشركات. ومن شأن هذا أن يجعل "تيذر" سابع أكبر حامل لمثل هذه الديون، إلى جانب "تشارلز شواب" (Charles Schwab) ومجموعة "فانغارد" (Vanguard) مباشرة.
اقرأ أيضاً: ما سر علاقة ظهور "بتكوين" بحركة دينية غامضة؟
للتحقق من صحة هذا الادعاء، قمت مع بعض الزملاء باستطلاع رأي متداولي "وول ستريت" لمعرفة ما إذا كان أي منهم قد رأى "تيذر" تشتري أي شيء. جميعهم لم يَرَ شيئاً. قالت ديبورا كنينغهام، كبيرة مسؤولي الاستثمار في أسواق المال العالمية في "فيديرايتد هيرميس" (Federated Hermes)، وهي شركة لإدارة الأصول في بيتسبرغ: "نحن نعمل في سوق صغيرة، فيها كثير من الأشخاص الذي يعرف بعضهم بعضاً. إن كان هناك وافد جديد فسيكون واضحاً جداً عادة".
لمن الإشراف؟
لم يكن من الواضح ما الهيئة التنظيمية المسؤولة عن الإشراف على "تيذر". قال ممثل عن الشركة في بث صوتي إنها مسجلة لدى وكالة التحقيقات المالية في جزر فيرجن البريطانية. لكن إيرول جورج مدير تلك الوكالة، أخبرني في رسالة بريد إلكتروني بأنها لا تشرف على "تيذر"، إذ كتب: "نحن لا نفعل ذلك، ولم نكن نفعله قَط".
حسب موقع "تيذر" الإلكتروني، فإن جيه إل فان دير فالدي هو كبير المديرين التنفيذيين للشركة، وهو هولندي يعيش في هونغ كونغ، ويبدو أنه لم يُجرِ أي مقابلة صحفية أو تحدث في مؤتمر من قبل. أما المدير المالي فهو جيانكارلو ديفاسيني، وهو جراح تجميل سابق من إيطاليا، وُصف ذات مرة على موقع "تيذر" الإلكتروني بأنه مؤسس شركة إلكترونيات ناجحة. وأظهرت الإشارة الوحيدة إليه، التي ظهرت خلال البحث في الصحف الإيطالية، أنه تعرّض لغرامة مرة واحدة لبيعه برامج "مايكروسوفت" مزيفة، كما أنه لم يردّ على رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل على "تيليغرام"، إذ يحمل حسابه اسم "ميرلين الساحر" (Merlinthewizard).
"ليس هناك مخطط خفي أو مؤامرة، إنهم ليسوا إنرون أو مادوف. عندما تكون هناك مشكلة فإنهم يصلحونها بشرف".
أخبرني ستيوارت هوغنر محامي "تيذر"، عبر الهاتف، بأن فان دير فيلدي وديفاسيني يفضلان تجنب الأضواء، ووصف منتقدي "تيذر" بأنهم "جهاديون" يريدون تدمير الشركة. وقال: "نحن نحافظ على إطار عمل واضح وشامل ومتطور لإدارة المخاطر لحماية واستثمار الاحتياطيات"، مضيفاً أنه لم يحدث أن طلب أي عميل استرداد أمواله ورُفض طلبه.
لكن عندما سألت عن المكان الذي تحتفظ فيه "تيذر" بأموالها، رفض الكشف عن ذلك. كما أنني لم أطمئن عندما أخبرني بأن الشركة لديها ما يكفي من الأموال لتغطية أكبر مبلغ عليها دفعه في يوم واحد؛ يمكن أن تستمر عمليات السحب الجماعية من البنوك لأكثر من 24 ساعة. ردّ هوغنر لاحقاً على أسئلة المتابعة ببيان عبر البريد الإلكتروني قائلًا: "إن تقريري لم يكن أكثر من مجموعة من التلميحات والمعلومات الخاطئة التي يشاركها الأفراد الساخطون دون أي انخراط أو معرفة مباشرة بعمليات الشركة". وأضاف: "النجاح يتحدث عن نفسه".
الثقة بـ"تيذر"
كان من الصعب تصديق أن الناس قد سلّموا 69 مليار دولار من الدولارات الأمريكية الحقيقية إلى شركة بدت وكأنها مبطنة بإشارات التحذير فعلياً. ولكن في كل يوم، في بورصات العملات المشفرة، يشتري المتداولون ويبيعون عملات "تيذر" كما لو أنها بجودة الدولار. في بعض الأيام يجري تداول أكثر من 100 مليار دولار بعملة "تيذر". يبدو أن الأشخاص الأكثر تعرضاً للخطر في أسواق العملات المشفرة يثقون بـ"تيذر". وأردت معرفة السبب. لحسن الحظ، في يونيو اجتمع 12 ألفاً منهم في ميامي لحضور ما وُصف بأنه أكبر مؤتمر عملات مشفرة على الإطلاق.
اقرأ أيضاً: أمريكا تنضم إلى تحقيق بشأن احتيال شركة عملات مشفرة بجنوب إفريقيا
في مركز مؤتمرات مانا وينوود، وجدت دلالات العملات المشفرة المعتادة. مشت العارضات على أرضية مطلية بشعار "بتكوين". صرخ مضيف البودكاست: "اللعنة على إيلون". وضعت لصاقة تقول "النقد قمامة" على صندوق قمامة مليء بالبوليفار الفنزويلي. كان المكان مليئاً بالأشخاص الذين يملكون "تيذر". أخبرني سام بانكمان فريد، الملياردير الذي يبلغ من العمر 29 عاماً، والذي كان في المدينة لإعادة تسمية ساحة كرة السلة في ميامي على اسم بورصته لتداول العملات: "إف تي إكس" (FTX)، بأنه اشترى مليارات من "تيذر" واستخدمها لتسهيل تداول العملات الأخرى. قال: "إذا كنت شركة عملات مشفرة فإن البنوك تخشى التعامل معك".
لا يبدو تفسيره منطقياً للغاية إن كنت لا تزال تفكر في "بتكوين" كعملة من نوع نظير إلى نظير، وهي طريقة بارعة لنقل القيمة بلا وسيط. لكن معظم الناس لا يستخدم العملات المشفرة لشراء الأشياء. إنهم يتداولونها في البورصات ويراهنون على قيمتها، على أمل تحقيق نتيجة حقيقية من خلال اختيار "دوغ كوين" (Dogecoin) التالية، التي ارتفعت بنسبة 4,191% هذا العام بعد أن بدأ إيلون ماسك التغريد عنها، أو "سولانا" (Solana)، بزيادة 9,801% في عام 2021 دون أي سبب على الإطلاق.
كما في الكازينو
فكروا في تبادل العملات المشفرة على أنها كازينوهات عملاقة. لا يستطيع كثير منها، خصوصاً التي خارج الولايات المتحدة، التعامل مع الدولار لأن البنوك لن تفتح حسابات لها، خوفاً من تسهيل غسل الأموال عن غير قصد. لذا بدلاً من ذلك، عندما يريد العملاء وضع رهان فإنهم بحاجة إلى شراء "تيذر" أولاً. يبدو الأمر كما لو أن جميع غرف البوكر في مونت كارلو وصالات ما جونغ في ماكاو أرسلت المقامرين إلى أمين صندوق مركزي واحد لشراء رقائق العملة التي تُستخدم في صالات الكازينوهات.
أخبرني أكبر المتداولين في هذه البورصات أنهم يشترون ويبيعون بشكل روتيني مئات الملايين من "تيذر" ويعتبرونها معياراً للصناعة. ومع ذلك، كان لدى كثير منهم نظريات المؤامرة الخاصة بهم حول العملة، مثل أنها تحت سيطرة المافيا الصينية، أو تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية لنقل الأموال، أو سمحت الحكومة لها بالتضخم حتى تتمكن من تعقب المجرمين الذين يستخدمونها. ولاحظت أن الأمر لا يتعلق بثقتهم بـ"تيذر"، بل كان السبب هو أنهم بحاجة إلى "تيذر" للتداول وكانوا يجنون كثيراً من المال باستخدامها. قال دان ماتسوزويوسكي، الشريك المؤسس في شركة "سي إم إس هولدينغز" (CMS Holdings)، وهي شركة استثمار في مجال العملات المشفرة: "قد يكون الأمر غير مستقر أكثر، ولن أهتم".
بداية العملة المستقرة
في القرن التاسع عشر واجه الصيادون والصيادون بالفخاخ ورعاة البقر على الحدود الأمريكية نقصاً في العملة. لم تكن حكومة الولايات المتحدة قد أصدرت نقوداً ورقية في ذلك الوقت، بل العملات الذهبية والفضية فقط، لأن قادتها الأوائل كانوا يخشون التضخم -"عدد لا حصر له من السرقات الشائنة المتتالية"، وفقاً لجون آدامز- لذلك سمح بعض الولايات للبنوك بطباعة أوراق نقدية خاصة بها، ويمكن استرداد قيمتها بالعملات المعدنية للولايات المتحدة عند الطلب. لكن بعض البنوك لم يكلف نفسه عناء الاحتفاظ بالاحتياطيات المقابلة، وأُطلق على هذه المؤسسات اسم "القطط البرية"، ويُفترض أنها لُقبت بذلك لأنها تثني المقترضين عن إحضار الأوراق للاستبدال بها من خلال تحديد مواقع الفروع في مناطق نائية تجوبها الحيوانات البرية.
فشل عديد من هذه البنوك. ملأ أحدها في ميتشغان الصناديق بالمسامير والزجاج، ثم غطاها بطبقة رقيقة من العملات الفضية لخداع الفاحصين الذين لم ينخدعوا بذلك. في ما بعد كتب ألفيوس فيلتش، مفوض بنك الدولة في ذلك الوقت: "كان ذلك إغراء لا يقاوم للمضاربين المغامرين عديمي الضمير ممن يحلمون بالثروة فقط، وعلى استعداد للمخاطرة بالجميع في السعي وراءها".
بعد نحو قرنين من الزمان، تبدّى الإغراء نفسه لبروك بيرس، وهو ممثل طفل سابق لعب دور الشخصية الأصغر لإميليو إستيفيز في أفلام "ذا مايتي داكس". يرتدي بيرس الآن قبعات وسترات وأساور صاخبة، مثل جوني ديب في فيلم "قراصنة الكاريبي" (Pirates of the Caribbean)، ويتحدث بالألغاز، مثل جوني ديب في "تشارلي ومصنع الشوكولا" (Charlie and the Chocolate Factory)، بعد تأسيس شركة سمسرة ناجحة لبيع وشراء عناصر ألعاب الفيديو، التي وظّف فيها، من بين جميع الأشخاص، ستيف بانون مستشار ترامب في ما بعد . كان بيرس واحداً من قلة من مناصري بتكوين الأوائل الذين لديهم أموال حقيقية للاستثمار. قال لي عبر الهاتف فيما كان يستعد لرحلة للترويج لـ"بتكوين" في السلفادور: "أنا لست رائد أعمال هاوياً يرمي السهام في الظلام. أنا مثل قابلة الولادة. أنا فقط أقوم بمهام مستحيلة".
قال بيرس إنه توصل إلى فكرة العملة المستقرة في عام 2013، مع المبرمج كريغ سيلارز. عيّن بيرس ريف كولينز لإدارة الشركة، وهو شخص متميز في اختراع الإعلانات المنبثقة على مستعرض الويب. وتعاونوا مع فيل بوتر، التنفيذي في بورصة "بتكوين" الخارجية، "بيتفينيكس" (Bitfinex)، الذي كان يعمل في مشروع مماثل، وسماه "تيذر" (Tether). كانوا يعملون من كوخ في سانتا مونيكا، كاليفورنيا، وقدموا عروضاً لشركة رأس المال الاستثماري "سيكويا كابيتال" (Sequoia Capital)، و"غولدمان ساكس"، وآخرين. ولم يُبدِ أحد أي اهتمام.
تمويل الإرهاب وغسل الأموال
تكمن المشكلة في أن "تيذر"، مثل العملات المشفرة الأخرى، انتهكت جميع قواعد العمل المصرفي تقريباً. تتعقب البنوك كل الذين لديهم حسابات وإلى أين يرسلون أموالهم، ما يسمح لوكالات إنفاذ القانون بتتبع معاملات المجرمين. تتحقق "تيذر هولدينغز" من هوية الأشخاص الذين يشترون العملات مباشرةً من الشركة، ولكن بمجرد خروج العملة إلى العالم يمكن نقلها بشكل مجهول، فقط عن طريق إرسال رمز. يمكن لزعيم عصابة مخدرات الاحتفاظ بملايين من عملة "تيذر" في محفظة رقمية وإرسالها إلى إرهابي دون علم أحد.
هذه المخاوف ليست نظرية. يقضي زاو دونغ، المتداول البارز بعملة "تيذر" في الصين، حكماً بثلاث سنوات في السجن هناك لاستخدامه العملة لغسل 480 مليون دولار لصالح كازينوهات غير قانونية. وفي مايو 2013، أُلقي القبض على مؤسس النموذج الأولي للعملة المستقرة "ليبرتي ريزيرف" (Liberty Reserve)، في إسبانيا، وأقرَّ في النهاية بأنه مذنب في تهمة التآمر لغسل الأموال. قال المدّعون العامّون إنّ العملة عبر الإنترنت التي لا يمكن معرفة مالكها كانت محط إعجاب المحتالين ولصوص بطاقات الائتمان والمتسللين وغيرهم من المجرمين. كتب آرثر بودوفسكي مؤسس "ليبرتي ريزيرف"، في رسالة بريد إلكتروني من سجن فيدرالي في فلوريدا حيث يقضي عقوبة بالسجن لمدة 20 عاماً: "ستعمل الولايات المتحدة على ملاحقة (تيذر) في الوقت المناسب. أشعر بالأسف تجاههم".
تسبب هذا الاحتمال في تخلي بيرس وكولينز عن "تيذر" بعد نحو عام في 2015. لكن بوتر، التنفيذي في البورصة، كان أقل قلقاً بشأن شرعيتها، وقال في بودكاست في عام 2019 إن بورصته تعمل بالفعل في المنطقة الرمادية. كان ديفاسيني رئيسه هناك، جراح التجميل السابق (ديفاسيني هو المدير المالي على الورق، لكن الأشخاص الذين تعاملوا مع الشركة يقولون إنه المسؤول). اتفق بوتر وديفاسيني على شراء حصة شركائهم في "تيذر" مقابل ما وضعوه فيها، أي أقل من مليون دولار. وقال بيرس إنه سلمهم أسهمه دون مقابل.
في ذلك الوقت، كان عمر ديفاسيني 50 عاماً ويُعَدّ من كبار السنّ حسب معايير العملات المشفرة. تظهر سجلات الممتلكات أنه كان يوزع وقته بين ميلانو وموناكو، إذ يطل منزله على البحر الأبيض المتوسط. تظهر الصور رجلاً طويل القامة وسيماً بشعر طويل مجعد ووشاح ملفوف حول رقبته. عمل عارضاً في معرض للصور في معرض فني في ميلانو عام 2014، وظهر أمام المرآة ووجهه نصف مغطى بكريم الحلاقة، وتظهر عيناه تعبيراً يوحي بأنه لم يتعرف على نفسه. كان العرض يدور حول نقاط تحول، وفي مقابلة قال إن كل هذا بدأ عام 1992، عندما ابتعد عن حياته المهنية كجراح تجميل. وقال: "بدا عملي وكأنه عملية احتيال واستغلال للنزوات".
عمل في مجال الإلكترونيات غير المتطورة، وأسس سلسلة من شركات التكنولوجيا التي استوردت رقائق الذاكرة وصناديق التلفاز، وأطلق موقعاً للتسوق عبر الإنترنت في إيطاليا ورخّص تقنية حماية النسخ لأقراص "دي في دي" (DVD) للبالغين، وفقاً لبيان صحفي يعلن عن مشهد إضافي خاص في فيلم "هارلوتس الشاب في الاحتجاز" (Young Harlots: In Detention) في عام 2008.
في عام 2012، استثمر في "بيتفينكس" (Bitfinex)، ثم في بورصة ناشئة أسسها شاب فرنسي نسَخ شفرة المصدر من ملف قديم. وسرعان ما أصبح الرئيس الفعلي للشركة. في المشاركات المبكرة على منتدى " بيتفينكس"، دعا ديفاسيني العملاء الذين يشتكون بالمتذمّرين. سأل أحدهم: "هل تنفث (أنت) الهواء الساخن من فمك أم أنك نسيت تشغيل عقلك؟". لكن مقارنة مع البورصات الأخرى، التي كانت تتجه نحو الانهيار بعد سرقة أو فقدان أموال العملاء، كانت "بيتفينكس" موثوقة للغاية. وبعد سرقة نحو ثلث أموالها في عملية اختراق في عام 2016، دفعت البورصة المبالغ للعملاء.
كافحت "بيتفينكس" و"تيذر" منذ البداية للوصول إلى النظام المالي المنظم. ولجأتا إلى سلسلة من الحلول الهشة للإبقاء على حساباتهما المصرفية مفتوحة. هناك "كثير من حيل القط والفأر"، كما قال بوتر خلال محادثة عبر الإنترنت مع المتداولين. ولكن مع تداول مزيد من الأشخاص على "بيتفينكس"، وقبول البورصات الأخرى لعملة "تيذر"، أصبح من الصعب العمل بعيداً عن الأنظار. بحلول مارس 2017، كانت عملات "تيذر" بأكثر من 50 مليون دولار قيد التداول. في الشهر التالي، أغلقت البنوك التايوانية حسابات "تيذر" و"بيتفينكس" فيها، ما جعل المديرين التنفيذيين لدى ديفاسيني في غاية اليأس، لدرجة أنهم فكروا في استئجار طائرة ونقل حمولات النقود إلى خارج البلاد، وفقاً لشخص كان على دراية بالخطة.
في النهاية، وجدوا شركة ناشئة في بورتوريكو، تدعى "نوبل بنك إنترناشيونال" (Noble Bank International)، كانت مستعدة للعمل معهم. نفخ مؤسسها، جون بيتس، الذي التقيته في مانهاتن، دخان سيجارته الإلكترونية، وأوضح أن "تيذر" كانت شركة مشروعة، أو على الأقل كانت مشروعة عندما كان مصرفياً. وأضاف: "خلال الوقت الذي كانت فيه حسابات (تيذر) مفتوحة لدى (نوبل)، كنا نحتفظ بأكثر من 98% من احتياطياتهم النقدية ونتسلّم كشوفاً شهرية لحساباتهم الأخرى ونتحقق منها".
العلاقة مع "بيتفينكس"
منذ البداية، استقطبت العملات المشفرة المتشككين الذين لديهم الحماس ذاته مثل المناصرين الذين التقيتهم في ميامي، وفي أبريل من عام 2017 بدؤوا القدوم إلى "تيذر". في ذلك الشهر، ادعى ناقد مجهول على "تويتر" يستخدم اسم "بيتفينكس إيد" (Bitfinex’ed) أن "تيذر" ليست مدعومة بأي شيء على الإطلاق. وسأل عن المكان الذي تحتفظ فيه الشركة بأموالها ولماذا لا تصدر بيانات مالية خاضعة للتدقيق المحاسبي. غرد "بيتفينكس إيد" على "تويتر" قائلاً عن العملات المشفرة: "إنها مثل عملات لعبة (دايف آند باسترز)/ (تشيك آند تشيز) حرفياً". جرى تداول هذه الادعاءات، وأخرى مثلها، في جميع أنحاء عالم العملات المشفرة، ووصلت في نهاية المطاف إلى واشنطن، حيث فتحت لجنة تداول السلع الآجلة ومكتب التحقيقات الفيدرالي تحقيقات في الأمر.
في الوقت ذاته، ازدهر تداول العملات المشفرة وازدادت شعبية العملة المستقرة، وأصبح ما قيمته أكثر من مليار دولار منها قيد التداول بحلول نهاية عام 2017. في ذلك العام، ووفقاً للعرض المقدم للمستثمر، حققت "بيتفينكس" ربحاً قدره 326 مليون دولار. كان نصيب ديفاسيني منها أكثر من 100 مليون دولار. أدى ذلك إلى جعل "تيذر" و"بيتفينكس" أكبر عملاء "نوبل"، وشعر بيتس بأن ديفاسيني كان يعرض البنك للخطر من خلال السماح بانتشار شائعات حول احتياطيات "تيذر". وأخبرني أنه حث ديفاسيني على استئجار شركة محاسبة لإجراء تدقيق كامل لطمأنة الجمهور، لكن ديفاسيني قال إنّ "تيذر" ليست بحاجة للذهاب إلى هذا الحد للرد على النقاد.
ربما كان لدى ديفاسيني سبب لحذره، فلطالما عرض موقع "تيذر" الإلكتروني تعهداً نصه: "دائماً ندعم كل (تيذر) بنسبة 1 إلى 1، من خلال العملة التقليدية التي نحتفظ بها في احتياطياتنا". لكن، وفقاً لبيتس، أراد ديفاسيني استخدام هذه الاحتياطيات للقيام باستثمارات. في حال استثمار احتياطيات "تيذر" البالغة مليار دولار في ذلك الوقت، وإن حققت عائدات بنسبة 1% على سبيل المثال سنوياً، فسيمثل ذلك ربحاً سنوياً يبلغ 10 ملايين دولار. رأى بيتس في هذا تضارب مصالح بالنسبة إلى ديفاسيني، لأن أي مكاسب استثمارية ستذهب إلى ديفاسيني وشركائه، لكن من المحتمل أن يخسر مالكو "تيذر" كل شيء إن لم تَسِر الاستثمارات كما يجب. عندما اعترض بيتس اتهمه ديفاسيني بالسرقة. قال بيتس: "أراد جيانكارلو معدل عائد أعلى. ودعوته مراراً إلى التحلي بالصبر والقيام بالعمل مع المدققين".
شراء الحصص
أراد زعيم "تيذر" سحب أموال الشركة من "نوبل"، ولم يوافق بوتر، لذلك اشترى ديفاسيني وشركاؤه الآخرون حصته في يونيو 2018 مقابل 300 مليون دولار. في الشهر ذاته، استقال بيتس من منصبه في "نوبل" متذرّعاً بأسباب صحية وعائلية. اتهمه شركاؤه لاحقاً في المحكمة بإنفاق أموال الشركة على فنادق راقية ورحلات على متن طائرات خاصة، وقال إنّ السفر كان لغرض العمل. على أي حال، نفّذ ديفاسيني ما يريده وسحب ودائعه، وانهار البنك بعد فترة وجيزة.
واجه ديفاسيني أزمة أخرى ذلك الصيف. كانت بورصة "بيتفينكس" التي يملكها قد عهدت بمبلغ 850 مليون دولار لخدمة تحويل الأموال البنمية، "كريبتو كابيتال" (Crypto Capital)، وهي واحد من الحلول التي استخدمتها لمشكلاتها المصرفية، وفقاً للوثائق التي جرى الكشف عنها لاحقاً في دعوى قضائية رفعها المدعي العام في نيويورك. لكن فجأة، رفضت "كريبتو كابيتال" إعادة الأموال إلى "بيتفينكس"، ما جعلها غير قادرة على الدفع للعملاء الذين يريدون سحب أموالهم، كما تُظهِر الوثائق. كان وضعاً خطيراً؛ إذا اكتشف الجمهور الأمر فقد يؤدي ذلك إلى سحب أموال جماعي. لذلك قدم ديفاسيني أعذاراً مختلفة للعملاء، في الوقت الذي كان يتوسل "كريبتو كابيتال" لإرسال بعض المال.
نُشرت محادثاته كجزء من الدعوى، وكتب ديفاسيني إلى مؤسس "كريبتو كابيتال" في عام 2018: "نحن نشهد عمليات سحب ضخمة ولم نعُد قادرين على مواجهتها بعد الآن ما لم نتمكن من تحويل بعض الأموال". وفي مرة أخرى قال: "أرجو أن تفهم أن كل هذا قد يكون خطيراً للغاية على الجميع، على مجتمع العملات المشفرة بأسره". تبيَّن في ما بعد أن المدّعين العامّين في بولندا صادروا حسابات "كريبتو كابيتال". وزعموا لاحقاً أن "كريبتو كابيتال" عملت على غسل أموال العملاء، ومن بينهم كارتيلات المخدرات الكولومبية. اتهم المدعون الأمريكيون أوز يوسف، أحد مديريها، بالاحتيال المصرفي، ولم يردّ على الاتهامات في المحكمة (قال هوغنر، محامي "تيذر" و"بيتفينكس"، إن "كريبتو كابيتال" خدعت الشركات للاعتقاد بأنها كانت تعمل وفق اللوائح).
اللجوء إلى الاحتياطيات
بدلاً من الكشف عن الإعسار الذي تواجهه "بيتفينكس"، ملأ ديفاسيني الفجوة بقروض من احتياطيات "تيذر"، ما ترك العملة المستقرة غير مدعومة جزئياً. في فبراير 2019، راجعت "تيذر" تعهدها بالدعم بنسبة 1 إلى 1، وتغيير النص على موقعها على الإنترنت ليصبح: "كل (تيذر) مدعومة بنسبة 100% دائماً باحتياطياتنا، التي تشمل العملة التقليدية وما يعادلها من النقد، ومن وقت إلى آخر قد تتضمن أصولاً أخرى ومبالغ من القروض التي تقدمها (تيذر) لأطراف أخرى، قد تشمل كيانات تابعة". أشار هذا التغيير إلى أن "تيذر" كانت تُقرض من احتياطياتها، لكنّ عدداً قليلاً من الأشخاص لاحظ ذلك حينها. لم تصبح هذه القروض معروفة للجمهور إلا في أبريل 2019، عندما رفعت نيويورك دعوى قضائية ضد "تيذر"، في محاولة لإجبارها على تسليم الوثائق.
ما يثير الدهشة أنه رغم فقدان ديفاسيني كثيراً من أموال عملائه، فإنّ عالم العملات المشفرة لم يفقد الثقة به. في مايو 2019، قام ائتلاف من كبار المتداولين بإنقاذ "بيتفينكس"، واستثمروا مليار دولار إضافياً في الأعمال التجارية. استخدمت البورصة هذه الأموال لسداد القروض إلى "تيذر هولدينغز". في العام التالي، عندما شاع تداول العملات المشفرة خلال الوباء، نمت الشركة بشكل كبير، وباعت 17 مليار "تيذر". في هذا العام باعت أكثر من 48 ملياراً حتى الآن.
في فبراير، وافقت "تيذر" على دفع 18.5 مليون دولار لتسوية دعوى نيويورك دون الاعتراف بارتكاب مخالفات. اعتبر مناصروها هذا تأييداً لـ"تيذر" -هل يمكن للمدعي العام للولاية أن يحسم الأمر إذا كانت "تيذر" عملية احتيال واسعة النطاق؟- ولكن التحقيقات استمرت في واشنطن. في وقت سابق من هذا العام، أرسل المدّعون العامّون من وزارة العدل الأمريكية رسائل إلى ديفاسيني والمديرين التنفيذيين الآخرين في "تيذر" لإبلاغهم بأنهم أهداف تحقيق جنائي في احتيال مصرفي. تدرس الحكومة ما إذا كانوا قد خدعوا البنوك قبل سنوات لفتح حسابات. وقالت الشركة في بيان: "تُجري (تيذر) روتينياً حواراً مفتوحاً مع وكالات إنفاذ القانون، بما في ذلك وزارة العدل، كجزء من التزامنا التعاون والشفافية".
الآثار الورقية
لم تكشف "تيذر" بعدُ عن المكان الذي تحتفظ فيه بأموالها. كانت المؤسسة المالية الوحيدة التي وجدتها ولديها استعداد للقول إنها تعمل حالياً مع الشركة هي "ديلتيك بنك آند ترست" (Deltec Bank & Trust) في جزر الباهاماس. التقيت رئيس البنك، جان شالوبين، في مكتب "ديلتيك"، في الطابق العلوي لمبنى من ستة طوابق تحيط به أشجار النخيل في جزء جميل من ناسو. في الماضي، شارك شالوبين في إنشاء الرسوم المتحركة "المفتش غادجيت" (Inspector Gadget)، وهناك لوحة للشرطي السايبورغ الذي يرتدي معطفاً من الثمانينيات معلقة على باب مكتبه، وهناك أغلفة لمجلات تصور زوجة تشالوبين، عارضة الأزياء السابقة، وابنته المغنية، على أحد الرفوف. الآن، يمتلك شالوبين مسحة من الشعر الأحمر ويرتدي نظارات دائرية بلا إطار. عندما جلسنا، سحب كتاباً عن الاحتيال المالي، بعنوان "ثقة في غير محلها"، من فوق الرف، وقال بغموض: "الناس يفعلون أشياء مضحكة من أجل المال".
أعدَّ لنفسه كوباً من الشاي وأخبرني أنه أتى إلى جزر الباهاما في عام 1987 بعد أن باع "دي آي سي إنترتينمنت" (DIC Entertainment) أول استوديو رسوم المتحركة له. جعلته عملية البيع هذه ثرياً، واشترى قلعة خارج باريس ومستعمرة وردية في جزر الباهاما، أصبحت في ما بعد منزل الشرير في فيلم جيمس بوند "كازينو رويال" (Casino Royale) لعام 2006. عمل في بنك "ديلتيك"، ثم أصبح صديقاً لمؤسسه المسنّ.
تضاءلت أصول البنك، الذي كان يدير الأعمال المصرفية الاستثمارية في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، إلى بضعة مليارات من الدولارات. استثمر شالوبين فيه، وأصبح في النهاية أكبر المساهمين. غالباً ما يجري تصوير البنوك الباهامية في الأفلام على أنها ملاذ لغاسلي الأموال، لكن تشالوبين قال إن ميزة "ديلتيك" كانت خدمة العملاء، لا السرية. قرر البحث عن عملاء في مجالات أعمال جديدة، مثل التكنولوجيا الحيوية، وتحرير الجينات، والذكاء الصناعي، التي كانت أصغر من أن تحظى باهتمام شخصيّ من البنوك الكبرى. وكانت العملات المشفرة من هذه المجالات. وقال: "كان التعامل بالعملة المشفرة بمثابة تحذير (إياك، إنها خطيرة للغاية). حسناً، إذا تعمقت قليلاً، فستدرك أن الأمر ليس كذلك في الواقع".
قال إنّ عميلاً أثرى من "بتكوين" قدّمه إلى ديفاسيني في عام 2017. أعد ديفاسيني غداءً من الريزوتو لشالوبين، وأُعجب بصراحته. عندما اكتشفا أن ديفاسيني نشأ في القرية الإيطالية ذاتها التي تنحدر منها والدة تشالوبين، بدآ الاتصال بعضهما ببعض مثل "كوجينو" التي تعني "ابن العم". اشترى ديفاسيني منزلاً بالقرب من شالوبين في جزر البهاما، واشتريا معاً قطعة أرض على الواجهة البحرية بين العقارين واقتسماها. أخبرني شالوبين أن "تيذر" تعرضت لإساءات غير عادلة. وقال: "ليس هناك مخطط خفي أو مؤامرة. إنهم ليسوا إنرون أو مادوف. عندما تكون هناك مشكلة، فإنهم يصلحونها بشرف".
قال تشالوبين إنه حقق في أمر "تيذر" لشهور قبل أن يتخذ الشركة عميلاً في نوفمبر 2018، ووقّع خطاباً يشهد فيه على أصولها. وفوجئ بأن النقاد ما زالوا مصرّين على أن عملة "تيذر" غير مدعومة بالنقود. قال: "بصراحة، كان أهم ما يُقال في ذلك الوقت هو أن المال غير موجود، لكننا نعلم أن المال موجود. كان هنا تماماً".
لكن عندما سألت تشالوبين عما إذا كان يعلم على وجه اليقين إن كانت أصول "تيذر" آمنة تماماً الآن، ضحك وقال إنه سؤال صعب. يحتفظ مصرفه بالنقود والسندات منخفضة المخاطر للغاية لصالح "تيذر"، لكن الشركة بدأت مؤخراً في استخدام بنوك أخرى للتعامل مع أموالها. الآن ربع هذه الأموال فقط، نحو 15 مليار دولار تقريباً، لا تزال مع "ديلتيك". قال: "لا أستطيع التحدث عما لا أعرف. يمكنني فقط التحكم في ما لدينا".
قروض لشركات صينية
بعد أن عُدت إلى الولايات المتحدة، حصلت على مستند يوضح احتياطيات "تيذر هولدينغز" بالتفصيل. وورد فيه أنها تشمل مليارات الدولارات في قروض قصيرة الأجل لشركات صينية كبيرة، وهو أمر تتجنب صناديق أسواق المال القيام به. كان ذلك قبل بدء انهيار "مجموعة تشاينا إيفرغراند" (China Evergrande Group)، واحدة من أكبر شركات التطوير العقاري في البلاد. علمت أيضاً أن "تيذر" قدمت قروضاً بمليارات الدولارات لشركات عملات مشفرة أخرى، وقبلت "بتكوين" كضمان، ومن بينها شركة "سيلسيوس نتورك" (Celsius Network)، وهي شركة عملاقة شبه مصرفية للمستثمرين في العملات المشفرة كما أخبرني مؤسسها أليكس ماشينسكي. وقال إنه يدفع سعر فائدة من 5% إلى 6% على قروض تبلغ قيمتها نحو مليار "تيذر". ونفت "تيذر" امتلاكها أي ديون على شركة "إيفرغراند"، لكن هوغنر محامي "تيذر" رفض الإفصاح عما إذا كانت "تيذر" تملك أوراقاً تجارية صينية أخرى. وقال إنّ الغالبية العظمى من سنداتها التجارية تتمتع بتصنيفات مرتفعة من شركات التصنيف الائتماني، وإنّ قروضها المضمونة منخفضة المخاطر، لأن على المقترضين الدفع بعملة "بتكوين" التي تساوي أكثر مما اقترضوه. وقالت الشركة في بيان نُشر على موقعها على الإنترنت بعد نشر القصة: "جميع رموز (تيذر) مدعومة بالكامل، كما أظهرنا باستمرار".
من المحتمل أن تكون استثمارات "تيذر" في الصين والقروض المدعومة بالعملات المشفرة كبيرة. وإذا قام ديفاسيني بمخاطرة كافية لكسب عائد بنسبة 1% على كامل احتياطيات "تيذر"، فمن شأن ذلك أن يمنحه وشركاءه ربحاً سنوياً يبلغ 690 مليون دولار. ولكن إذا فشلت هذه القروض، حتى ولو بنسبة صغيرة، فإن قيمة "تيذر" واحد ستصبح أقل من دولار واحد، ما سيشكل لدى أي مستثمرين يمتلكون "تيذر" حافزاً لاسترداد أموالهم، وإن قام الآخرون بذلك أولاً فقد ينضب المال. سيصبح الأمر بمثابة سحب جماعي للأموال.
يناقش المسؤولون الذين اجتمعوا في يوليو في وزارة الخزانة تنظيم شركة "تيذر" مثل بنك، الأمر الذي سيجبر ديفاسيني على الكشف عن مكان الأموال أخيراً، أو حتى تقويضها من خلال إصدار عملة رسمية مستقرة في الولايات المتحدة. الغريب هو أن معظم المشاركين -على الأقل حالياً- في سوق العملات المشفرة، بمن فيهم بعض المشغلين الكبار والمتطورين للغاية، لا يهتمون بأي من المخاطر. في الشهر الماضي فحسب، اشترى المتداولون 3 مليارات دولار على شكل عملات "تيذر" جديدة، ومن المفترض أنهم أرسلوا مليارات الدولارات الأمريكية الجيدة تماماً إلى البنك الذي يملكه من شارك في ابتكار "المفتش غادجيت" في جزر الباهاماس مقابل الرموز الرقمية التي أطلقها الممثل في فيلم "مايتي داكس" ويديرها مسؤولون تنفيذيون تستهدفهم الولايات المتحدة بتحقيق جنائي.
لهذا الوضع ما يوازيه في أيام العمل المصرفي الجامح، فالعملاء الذين يتعاملون مع شركات ليست بنوكاً ليسوا مدهوشين، فقد كانت الأوراق النقدية المسطحة هي المال الوحيد الذي يمكنهم العثور عليه. لكن ذلك انتهى عندما بدأ الرئيس أبراهام لينكولن، في الأيام الأولى للحرب الأهلية، بطباعة النقود الورقية الفيدرالية وفرض ضريبة باهظة على العملات الأخرى. سقطت الأوراق المالية العشوائية، التي كانت تغذي اقتصادات المدن الحدودية ذات يوم، في حالة من الإهمال. أعطاها البعض للأطفال ليلعبوا بها. وفي المناطق الريفية استُخدمت ورق جدران.