بلومبرغ
ماذا يحدث بالتحديد عندما نغيّر رأينا؟ في إطار بحثيّ عن إجابة لهذا السؤال، وجدت نفسي مؤخراً مستلقية ذات صباح على ماسح ضوئيّ فاخر للدماغ، يُعرف باسم جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي (Fmri)، وأنا أشاهد الرسوم المتحركة في مركز وايزمان بجامعة ويسكونسن في ماديسون. على الجانب الآخر من الشاشة الزجاجية، يراقبني فنيّ وعالِمَا أعصاب، أو بشكل أكثر دقة يراقبون عقلي.
اقرأ أيضاً: هل "الحلمة الأرجوانية" العملاقة هي الأنف الرقمي للمستقبل؟
على الرغم من أن الرسوم كاريكاتيرية فإن هذا العمل هو عمل جادّ، إذ يُعَدّ فَهْم الأساس العصبي للإقناع موضوعاً محيراً للعلماء والأطباء، وبالطبع (بشكل أقل نبلاً) للشركات والسياسيين وأي شخص آخر يحاول إقناع الآخرين بالقيام بما يطلبه، لكن العلم صعب بما يكفي ليقترب من حدود الخيال العلمي. وعلى عكس مناطق الدماغ التي تتحكم بالحركة، وعلى رأسها القشرة الحركية في الفص الأمامي، تنتشر الأجزاء التي تتحكم بالتفكير والإقناع. فلا يوجد ربع في الدماغ يضيء جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي عندما نفكر: "ها، أعتقد أنك على حق".
محاولة فك الشفرة
الجدير بالذكر أن علماء الأعصاب الرواد يحاولون فك شفرة الإقناع، فهُم يريدون عزل أنواع مختلفة من التفكير عالي المستوى (على سبيل المثال، هل يمكن فصل الخلايا العصبية المستخدمة في التحليل عن تلك المستخدمة في الذاكرة؟) كما يسعون إلى معرفة ما إذا كان بالإمكان تحديد اللحظة التي يغيّر فيها الشخص رأيه. وهناك فكرة واحدة اكتسبت رواجاً، ألا وهي دراسة تأثيرات البيئة والعلاقات الشخصية في انفتاحنا على رسالة معينة.
اقرأ المزيد: احذر.. عطورك قد تخفي أسرارًا خطيرة
لهذا السبب جعلني عالِمَا الأعصاب كريس كاسيو ومات مينيتش أشاهد مقاطع فيديو بلهاء، إذ أرادا معرفة ما إذا كنت سأتفاعل بشكل أقل إيجابية مع صورة صناديق إعادة التدوير المرتبة والمصنفة بدقة في حال شاهدتُ للتّو الدبّ المتحرك من الفيلم الكوميدي "تيد" (Ted) لعام 2012 وهو يرمي القمامة من نافذة السيارة، أو شاهدتُ ستوي وبريان من البرنامج التليفزيوني "فاميلي غاي" (Family Guy) وهما يرسوان بقاربهما الصغير في جزيرة مكونة من القمامة. وكان الهدف من هذه الصور هو إقناع عقلي بربط أكوام القمامة بشعور الحياة الطبيعية.
بالمثل، ماذا سيحدث في حال عُرض عليّ نص حول تحمّض المحيطات بعد مشاهدة شخصية مارج سيمبسون وهي تقطع الأشجار في الغابة، أو صور لأشخاص يمارسون الرياضة بعد مشاهدة الشخصيات في مسلسل "فيلادلفيا دائماً مشمسة" (It’s Always Sunny in Philadelphia) وهم جالسون على الشاطئ لتناول وجبة خفيفة من لحم الخنزير المغمور بالنبيذ؟ طبعاً ما من حاجة إلى إقناعكم بأن ذكوراً أمريكيين قد اختاروا هذه المقاطع.
45 متطوعاً
أُجريَت التجربة على 45 متطوعاً (باستثنائي، إذ لن تُتضمَّن قراءاتي في النتائج النهائية)، وسيُعِدّ كاسيو ومينيتش الدراسة بناءً على النتائج الأولية.
يركز العمل على قشرة الفص الجبهي البطني والجسم المخطط البطني، اللذين يبدوان مهمّين عندما نتحدث عن شيء ما، إذ تنشط هاتان المنطقتان عندما نقرر ما إذا كان شيء ما له قيمة، وعندما نريد الحصول على القبول أو الموافقة من الآخرين.
كما يتحقق كاسيو ومينيتش، اللذان يعملان في مختبر التواصل والدماغ والسلوك في كلية الصحافة والتواصل الجماهيري بالجامعة، أيضاً من مناطق اكتشاف النزاعات، مثل القشرة الحزامية الأمامية الظهرية، والفص الجزيري الأمامي، لمعرفة ماذا يحدث عندما تتعارض الرسالة مع معتقداتنا. هذا واهتم مينيتش، وهو طالب دكتوراه وعدّاء شغوف، بهذا السؤال بعد سنوات من الاستخفاف بفكرة الركض حافي القدمين، ثم وجد نفسه في هرولة من دون حذاء لمسافة 8 أميال بعد قراءة كتاب "خُلِق ليركض"، ليسأل: "ماذا كانت تلك العملية المعرفية؟". لقد عاد إلى الجري مرتدياً الأحذية.
اقرأ المزيد: هل يمثل العلاج المناعي بصيص الأمل للقضاء على السرطان؟
بينما كنت مستلقية على الماسح الضوئي وأنا أشاهد الصور ومقاطع الفيديو على شاشة الكمبيوتر، كانت لدى الباحثين فكرة جيدة عن المناطق التي ستشترك في العملية الإدراكية. كما حذرا من استخلاص استنتاجات تستند فقط إلى عقلي، إذ يقول كاسيو، مدير المختبر: "العقول الفردية فوضوية، ونحن مهتمّون بما هو متسق بين الناس".
في الحقيقة، شاهدت الرسائل -معظمها شرائح تحتوي على نص- وصنّفتها بنقرة بيدي اليمنى على مقياس من 1 إلى 4، إذ إن 4 هي الأكثر إقناعاً. ثم نظرت إلى الرسوم المتحركة، وشاهدت ونقرت على مزيد من الرسائل. ومن ناحية أخرى، كان هناك زر إنذار في حالة أُصِبت بما يُعرف بـ"رهاب الأماكن المغلقة المفاجئ" (كما يعلم أي شخص خضع للتصوير بالرنين المغناطيسي جيداً، فإن هذه الأجهزة ضيقة).
خرائط للدماغ
فضلاً عن ذلك، وعلى عكس الأفلام، لم يتمكن كاسيو ومينيتش من رؤية النتائج على الفور. بل تحتم عليهما تحليل البيانات خلال الأيام القليلة التالية، ومن ثم صياغة خرائط الدماغ. وقد أظهرت البيانات أنني عندما شاهدت بعض المقاطع التي جعلت السلوك غير الصحي أو غير الأخضر يبدو طبيعياً، ثم رسالة مقنعة حول البيئة أو الصحة بناءً على ما سأخسره، على سبيل المثال، بسبب عدم ممارسة الرياضة أو إعادة التدوير، فقد أظهرت مناطق الدماغ المرتبطة بالقيمة والقبول نشاطاً أقل. ولكن عندما أظهرت لي هذه المقاطع رسائل أبرزت الأوجه الإيجابية، أضاءت تلك المناطق.
بعبارة أخرى: الرسائل المقنعة لها صدى حتى عندما تتعارض مع الأعراف الاجتماعية، وذلك في حال جرى تأطيرها في سياق المكاسب بدلاً من الخسائر. وهذا مهم لمعرفة كيفية إقناع الناس عندما يقاوم المجتمع فكرة ما. على سبيل المثال، قد يجعل مدير الأصول الإعلانات قائمة على جميع رحلات السفر، والمطاعم، وعمليات إعادة تصميم المنزل التي قد تنتظر المستثمرين الذين يتطلعون إلى التقاعد المبكر، بدلاً من التفكير في المستقبل السيئ المحتمل لأولئك الذين لا يساهمون في خطط الادخار.
هل هذا تلاعب؟ نعم، من حيث التعريف. هل هو مخيف؟ بالتأكيد يمكن أن يكون الأمر كذلك، بافتراض أن علماء الأعصاب قدموا نموذجاً عملياً للإقناع. وما زال أمامهم طريق طويل.
الفص القذالي (المنطقة الصفراء، أعلى اليسار)
الهيكل المسؤول عن الإدراك البصري، بما في ذلك اللون والحركة والشكل. والتنشيط هنا يوضح أنني كنت أنظر إلى الأشياء.
المنطقة الحركية التكميلية (أعلى الوسط)
مرتبطة بالتحكم في الحركة، وقد أضاءت، ربما لأنني أخذت كلمات الفني على محمل الجد عندما أدخلني في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، وقال: "حاولي ألا تتحركي".
قشرة الفص الجبهي الظهري (أعلى اليمين)
يشير النشاط هنا إلى التفكير في ما يفكر فيه الآخرون، ما يسميه علماء الأعصاب "التفكير العقلي". وهذا يعني أنه كان بإمكاني التفكير في المصادقة الاجتماعية التي سأحصل عليها من خلال الاستجابة لنداءات إعادة التدوير، وممارسة الرياضة بشكل أكبر، وما شابه.
جذع الدماغ (أسفل الوسط)
يتعامل مع الوظائف الأساسية مثل التنفس، وليس العمليات عالية المستوى مثل الإقناع، إذ تضيء أجزاء من الدماغ بشكل عشوائي في بعض الأحيان. كما قال لي أحد الباحثين، إن "العقول الفردية فوضوية".
قشرة الفص الجبهي البطني (أسفل اليمين)
هنا يولي باحثو الإقناع أكبر قدر من الاهتمام، ويرتبط هذا الهيكل بمعالجة المكافآت والتقييم الإيجابي، إذ يتحدث علماء الأعصاب عن إيجاد شيء ذي قيمة هنا، ويشير النشاط إلى أنني وجدت الرسائل مقنعة.