بلومبرغ
في أواخر شهر أغسطس، وقف عالم جيولوجيا يُدعى ديف فريدمان، في بقعة محددة بدقة من مناطق القطب الشمالي المنخفضة، وسط رياح قاسية ومساحة لا متناهية من مناطق السهول الجرداء. ثم بدأ العالم الجيولوجي في ضرب نتوء صخري بارز من التربة بمطرقة ثقيلة. فريدمان، البالغ من العمر 29 عاماً، يعمل لدى شركة تدعى "كوبولد ميتالز" (KoBold Metals)، وقد كانت العملية التي أوصلته إلى هذا الزوج من إحداثيات نظام التموضع العالمي (GPS) في أقصى شمال كيبيك (كندا) معقّدة، غيرَ أن الصخرة التي كان يضربها كانت لها رحلتها الخاصة. فقبل أن تصبح صخرة، كانت عبارة عن صهارة داخل القشرة الأرضية، وهي جزء من لسان منصهر يبلغ عرضه عشرات الأمتار، تدفق إثر تباعد اثنتين من الصفائح التكتونية قبل 1.85 مليار سنة. في البداية ذابت الصهارة والتهمت طبقات القشرة الأرضية التي تدفقت من خلالها. ولكن مع خمودها، اصطدمت في النهاية بمقاومة، حيث تجمّع السائل مثلما يتجمّع الدخان بمحاذاة السقف. وبعد زوال حرارته، تيبس السائل مشكلاً رفاً من الصخور البركانية يسميه علماء الجيولوجيا "البريدوتيت" (peridotite). وقد أسهمت الاصطدامات التكتونية، على مرّ العصور، في ارتقائه، وإمالته، وانثنائه، وكسره، ثم حطّمته الأنهار الجليدية. وفي أحد الأيام هبطت طائرة هليكوبتر من السماء، وأنزلت رجلاً نحيفاً ملتحياً يرتدي ملابس مصنوعة من نسيج الغور-تكس المقاوم للماء، وسترة تحذيرية، ويحمل حقيبة ظهر ومطرقة.
بعد ضربتين عنيفتين، انفصلت قطعة بحجم الكعكة عن بروز الطبقة الصخرية. فقام فريدمان بتثبيتها والنفخ فيها. ثم أمسك بالعدسة اليدوية المتدلية من سترته ونظر إلى سطح الصخرة الذي انكشف حديثاً، ممسكاً بها على بعد بضع بوصات من وجهه. كانت الحبوب الخشنة علامة جيدة، وكذلك بلورات الأعشاب البحرية الخضراء الزيتونية. من الواضح أن الصهارة قد بردت ببطء هنا، ما أتاح لها الوقت للتفاعل مع الصخور المجاورة وإخراج المعادن التي حملتها من القشرة الأرضية بطريقة عسيرة. يشرح فريدمان قائلاً: "عندما تغيّر تركيبة المصهور، فإن كل شيء يضطرب. كل شيء يغلي، وتعبث باستقرار المكونات، إنها حقاً بيئة فوضوية وحسب".
اقرأ المزيد: شركات السيارات تسعى لتأمين إمدادات المعادن النادرة بعيداً عن هيمنة الصين
في منتصف السطح، أضاءت نقطة نحاسية بحجم حبة الشيكولاته "إم آند إمز"، والتي أشار إليها فريدمان واصفاً إياها بـ"الفقاعة". وفي مكان قريب، داخل حدود مربع شركة "كيبولد"، الذي تبلغ مساحته 280 ميلاً مربعاً من مطالبات الاستكشاف، كان فريدمان يأمل في أن تكون هناك صخرة أكبر بكثير. ربما رواسب خام بحجم سيارة أو منزل، غنية بالنيكل والنحاس القابل للاستخراج، أو المعدن الأثمن، وهو الكوبالت. فوجود "كوبولد" يعتمد على فكرة أنه يمكنها العثور على خام معادن عالي الجودة في الأماكن التي لا يستطيع الآخرون العثور عليه فيها -وأيضاً فكرة أنه بمجرد حدوث ذلك، ستقوم الشركة بتغذية طلب عالمي متفجر.
على بعد خمسة وعشرين ميلاً جنوب مطالبات "كوبولد" الاستكشافية داخل مقاطعة كيبيك، كان الجانب الآخر من هذا الرهان يختمر في خزان زجاجي بأبعاد تقريبية لمبرد مياه مكتبي، ويحتضنه إطار معدني، حيث تتم تغذيته بأنابيب بلاستيكية رفيعة. وكان طلاب الدراسات العليا في جامعة تكساس، أوستن، الذين يعملون تحت إشراف كيميائي متخصص في المواد الخام يُدعى أروموغام مانثيرام، يدفقون أملاح كبريتات معدنية مذابة مختلفة في المحلول الموجود في الخزان، لحملها على الاندماج وتشكيل مادة صلبة ذات بنية مجهرية محددة. وإذا تمت معالجتها أكثر، فإن المادة الناتجة ستمدّ خلية بطارية قابلة لإعادة الشحن بالطاقة. لكن هذه البطارية، على عكس تلك المستخدمة حالياً في كل من سيارات "تسلا" و أجهزة "أيفون"، لن تحتاج إلى الكوبالت على الإطلاق.
تحوّل الطاقة
هناك مصطلح مبتذل للغاية لما يجب أن يحدث لمنع مناخ الكوكب من أن يصبح أكثر دفئاً وتطرفاً وغرابة، ألا وهو "تحوّل الطاقة". لقد أظهر الصيف المروّع لهذا العام بوضوح، مخاطر تحوّل الطاقة، مع درجات حرارة، وجفاف، وحرائق، وعواصف، وفيضانات كلها غير مسبوقة. كل ذلك بسبب الكربون الذي أطلقناه بالفعل في الهواء. لكن الأخبار اليومية المخيفة، حجبت حقيقة أنه كان هناك أيضاً تقدم تقني كبير في الجهود المبذولة لاستبدال الوقود الأحفوري خلال السنوات القليلة الماضية. فقد حدثت بعض أعظم التطورات في مجال البطاريات. وعلى مدى العقد الماضي، تضافرت التحسينات في كثافة الطاقة والتخفيضات في تكاليف التصنيع، لتخفيض سعر بطاريات السيارات الكهربائية بمقدار عشرة أضعاف تقريباً. ويتوقع المحللون في "بلومبرغ لأبحاث الطاقة المتجددة"، أنه في غضون ثلاث سنوات، ستنخفض التكلفة إلى أقل من 100 دولار للكيلوواط/ساعة -السعر الذي تصبح عنده السيارات الكهربائية رخيصة مثل السيارات التي تعمل بالبنزين- وستستمر في الانخفاض. وقد جعلت هذه التطورات ذاتها من الممكن تخزين الطاقة المتقطعة من الخلايا الشمسية ومزارع الرياح في بطاريات "بحجم شبكة الكهرباء"، ما يجعل الطاقة المتجددة أكثر قدرة على المنافسة، على أساس السعر وحده، مع محطات توليد الطاقة بالفحم والغاز الطبيعي.
نظراً لكون البطاريات تقنية مثل الرقاقات الدقيقة، وليست سلعة مثل النفط، فمن المنطقي أن يكون مسار تطور سعتها وتكلفتها أقرب إلى مسار الرقاقات المستمر في التطور مع مرور الوقت. لكن البطاريات تعتمد أيضاً على الصفات المحددة لعناصر معينة لتتمكن من العمل، حيث يتطلب تصنيع بطاريات الليثيوم-أيون، الأعلى أداءً في السوق اليوم، معدن الكوبالت، والذي يصعب الحصول عليه. فمعظم الاحتياطات المعروفة من المعدن الفلزي، تقبع تحت أرض الكونغو، وهي دولة ابتليت بالفساد والحروب المتكررة، حيث يتم التعدين غالباً في ظروف خطرة ومميتة، وليس من النادر أن يقوم الأطفال بأعمال التعدين فيها. ومن جهة أخرى، تمتلك الشركات الصينية معظم مناجم الكونغو. فالطاقة النظيفة، شأنها شأن الطاقة الملوثة، لها خصائصها الجيوسياسية أيضاً، مع الإشارة كذلك إلى أن سعر المعدن الأثمن، كان قد شهد تقلبات ضخمة في السنوات الأخيرة.
أنقر هنا للاطلاع على أسعار المعادن
"هناك كوبالت بداخل الكيلومتر العلوي من القشرة الأرضية المحيطة بالقارات، يكفي لبناء مليون سيارة كهربائية لكل شخص على هذا الكوكب"
حتى لو ظلت صناعة السيارات الكهربائية بالحجم الذي هي عليه اليوم (هناك ما يزيد قليلاً على 12 مليون مركبة كهربائية على الطريق)، فسيكون لزاماً على صانعي البطاريات إيجاد بدائل. ومن ثم، فإن استبدال 1.2 مليار سيارة تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي في العالم - كما سنحتاج أن نفعل في العقود القادمة ليكون لدينا أي أمل في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة- سوف يتطلب شيئاً أكثر تأثيراً. لكن حل مشكلة المناخ، يقتضي حل مشكلة البطاريات. وحل مشكلة البطاريات، يقتضي حل مشكلة الكوبالت.
من بين الشركات التي بزغت لتحقيق ذلك، هناك من يركز على إعادة تدوير الكوبالت من البطاريات المستهلكة، بينما يعيد آخرون التفكير في معالجة الخامات لجعل الرواسب التي كانت هامشية ذات يوم، أكثر فعالية من حيث التكلفة. وقليل من هذه الشركات، تحاول تعدين قاع المحيط. لكن على أبسط المستويات، فإن كل المناهج تدور حول العثور على المزيد من المعادن، كما تحاول "كوبولد" أن تفعل، أو معرفة كيفية استخدام معادن أقل، مثل مختبر "مانثيرام". كل الأساليب مكملة لبعضها بعضا بالطبع، لكنها تعتمد أيضاً على مفاهيم مختلفة للمستقبل، وتشخيصات مختلفة للمشكلة. ورغم كونها مقسمة للعمل على أهداف متوازية، وفي بعض الأحيان متقاطعة، إلا أنها كلها تشترك في السباق ذاته مع الوقت.
مستقبل مختلف
يقول مانثيرام بينما يجلس في مكتبه الكائن بالطابق التاسع في أوستن، ويعلو رأسه صف من براءات الاختراع وأرفف الكتب الزاهية بالنماذج الخشبية والمعدنية للجزيئات: "قصتي هي أنني لا يجب أن أكون هنا". لقد وُلد مانثيرام عام 1951 لأبوين لم يحصلا على أي تعليم رسمي، في قرية صغيرة تسمى أمارابورام، في تاميل نادو، بالقرب من الطرف الجنوبي للهند. وتوفي والده، الذي باع الحطب لكسب لقمة عيشه، بعد شهرين من ولادته -لا يعرف مانثيرام سبب وفاته- ولم تتزوج والدته ثانيةً أبداً. وبدلاً عن ذلك، ركزت طاقتها على طفلها الوحيد. ثم سمعت والدته عن مدرسة كاثوليكية في القرية المجاورة، وأرسلته إلى هناك. يتذكر مانثيرام قطعه "ميلين للذهاب، وميلين للعودة، عبر الغابة! لم يكن هناك طريق ممهد، ولم تكن هناك توقعات أرصاد جوية". عندما تخرّج من المدرسة الثانوية، كانت والدته تطمح لأن يفتح متجراً عاماً في أمارابورام. لكن أحد أساتذته أقنعها بأن ابنها يتمتع بقدرات تؤهله لمستقبل مختلف. استقل الثلاثة -المعلم والأم والابن- الحافلة إلى كلية صغيرة على بعد 40 ميلاً، حيث رتّب المعلم لقبول الشاب الموهوب.
في أواخر السبعينيات، ركّز مانثيرام على أنواع أكسيد المعادن، عندما كان يسعى إلى الحصول على درجة الدكتوراه في الكيمياء من المعهد الهندي للتكنولوجيا في مدراس، وهي فئة من المواد تجعلها تركيبتها الجزيئية فعالة عبر مجموعة واسعة من التطبيقات العملية. في ذلك الوقت تقريباً، كان الفيزيائي الأمريكي الشاب، جون جوديناف، قد بدأ للتو في التفكير في أن أنواع أكسيد المعادن قد تكون مفيدة في صناعة بطارية قابلة لإعادة الشحن. وصدف أن كان جوديناف أحد المشرفين على بحث مانثيرام لنيل درجة الدكتوراه. وبعد بضع سنوات وظّفه كباحث ما بعد الدكتوراه في مختبره في جامعة أكسفورد. وعندما وظفت جامعة تكساس جوديناف بعيداً عن إنجلترا، ذهب معه مانثيرام.
تتمثل إحدى طرق التفكير في التفاعلات الكيميائية في تنقل الإلكترونات. فالعناصر التي تميل إلى التخلص من الإلكترونات (مثل الصوديوم) تتفاعل مع العناصر الأخرى التي تميل إلى اكتسابها (مثل الكلور) ويتحولان، في هذه الحالة، إلى ملح الطعام. وبالمثل، فالبطارية عبارة عن تقنية للتدخل في منتصف تفاعل مشابه وتحويل اتجاه الإلكترونات للقيام بالعمل. يتكون الطرف السالب لخلية البطارية، أو الأنود، من مواد تتطلع إلى التخلص من الإلكترونات، بينما يتكون القطب الموجب، أو الكاثود، من مواد تتطلع إلى الحصول عليها. يوجد بين الاثنين فاصل منقوع في محلول متأين، وهو منيع للإلكترونات، ويحبط رغبة المادتين في التفاعل. لكن عندما يتم توصيل البطارية بمصباح يدوي أو جهاز تحكم عن بعد في التلفزيون، فإن دوائر هذا الجهاز تشكل حلقة تصل طرفي خلية البطارية ببعضهما. وتتدفق الإلكترونات من الأنود وعبر الأسلاك، ما يؤدي إلى تشغيل الجهاز أثناء شق طريقها الملتوي إلى الطرف الموجب الآخر لخلية البطارية. ثم تقوم الذرات المتأينة التي فقدت تلك الإلكترونات برحلة متوازية لتنتقل مباشرة عبر غشاء الإلكتروليت لموازنة شحنة الإلكترونات المتراكمة في الكاثود. (وإلا، فستتوقف العملية)
عند إعادة شحن الهاتف، يتم عكس هذه العملية، حيث يجبر التيار الكهربي من الشاحن الإلكترونات على العودة إلى الأنود، وهذا يجذب الأيونات مرة أخرى عبر الإلكتروليت لتتحد معها. وعندما تكون جاهزة للتفاعل مرة أخرى، يتم فصلها، وإرسالها في مساراتها المختلفة. تعتبر الأقطاب الكهربائية، الكاثود والأنود، أساسية في كل هذا، إذ يتعين عليها التعامل مع الإلكترونات وأيونات الليثيوم، بالكوادريليونات، أثناء شحن البطارية وتفريغها، بينما تظل دون تغيير كيميائياً، وعليها القيام بذلك مراراً وتكراراً.
بداية استخدام الليثيوم
في عام 1977، حصل كيميائي إنجليزي يدعى إم. ستانلي ويتينغهام، وكان يعمل حينئذ في شركة "إكسون للأبحاث والهندسة" (Exxon Research and Engineering)، على براءة اختراع لبطارية قابلة لإعادة الشحن باستخدام الليثيوم كأيون متنقل نشط. وكان من بين الاكتشافات التي قام بها جوديناف وطلابه مثل مانثيرام، أن التكوينات الكيميائية للكوبالت ذي الطبقات البلورية القوية، عندما ترتبط بالأكسجين تكون فعالة كمادة كاثود بصورة تكاد تكون فريدة من نوعها. أيضاً يعمل أكسيد النيكل ذو الطبقات بشكل مشابه، ولكن من الصعب جداً العمل به، كما أن كفاءته ستتراجع بسرعة أكبر من الكوبالت. أيضاً، تتمتع الكاثودات القائمة على الكوبالت بميزة أخرى، إذ إنه بفضل الاستقرار الحراري للعنصر، فإنه من غير المرجح أن تشتعل من تلقاء نفسها. كانت شركة "سوني" (Sony) قد تبنّت تصميم جوديناف القائم على أكسيد الكوبالت. وفي عام 1991، أصدرت الشركة كاميرا فيديو كانت الأولى من بين العديد من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية التي يتم تشغيلها بتلك البطارية. (من الصعب تخيل كثرة استعمال جهاز "أيفون" إذا كان عليك الاستمرار في استبدال البطاريات). ثم في عام 2019، فاز ويتينغهام وجوديناف وأريكا يوشينو من "سوني" بجائزة نوبل في الكيمياء بالتشارك عن عملهم. وقد طلب جوديناف، آنذاك 97 عاماً، من مانثيرام إلقاء محاضرة نيابة عنه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل.
من جانبه، كان مانثيرام قلقاً بشأن الكوبالت منذ أوائل التسعينيات، عندما تولى إدارة مختبره الخاص في جامعة تكساس. يعتبر هذا المعمل الآن واحداً من المعامل الرائدة عالمياً في مجال أبحاث بطاريات الليثيوم- أيون. وتشمل قائمة المعامل الرائدة أيضاً جيف دان، الفيزيائي في جامعة دالهوزي الكندية، ويانغ كوك صن، المهندس الكيميائي بجامعة هانيانغ في سيول. لقد شق عملهم طريقه بالفعل إلى السوق، حيث تستخدم المركبات الكهربائية المختلفة تركيبات كيميائية متنوعة للبطاريات، ولكن بشكل عام، انخفضت كمية الكوبالت فيها مع كل تصميم جديد. يمكن للعملاء الأقل اهتماماً بعامل القدرة والمدى شراء سيارات كهربائية بتصميم كاثود مختلف باستخدام فوسفات حديد الليثيوم، وهو تصوّر، تم تطويره من قبل مانثيرام وجوديناف في الثمانينيات. وعلى الرغم من ذلك، فقد فشلت محاولات دامت لسنوات لإزالة الكوبالت من الكاثودات بالكامل، دون أن يؤدي ذلك إلى تدهور أداء البطارية.
اكتشاف الكوبالت
تاريخياً، كان يخشى من الكوبالت قبل السعي إلى الحصول عليه. فقد عثر عمّال المناجم في العصور الوسطى في ساكسونيا على خام يشبه الفضة للوهلة الأولى، لكن كانت تنبعث منه أبخرة سامة عند صهره. من الناحية التقنية، كانت تلك الأبخرة السامة من الزرنيخ والكبريت التي يتحد بها الكوبالت، ولكن عمال المناجم معذورون لعدم تبيّنهم الفرق. لذلك، أطلقوا على الصخور السامة التي لا قيمة لها اسم "كوبولد" تيمناً بنوع أسطوري من العفاريت كان يُعتقد بأنه يسكن المناجم. في ثلاثينيات القرن الثامن عشر، عندما عزل الكيميائي السويدي جورج براندت المعدن، استعار الاسم ذاته. وعندما أسس كيرت هاوس وجوش غولدمان، اللذان التقيا للمرة الأولى كطلاب دكتوراه في قسم الفيزياء بجامعة هارفارد، شركتهما في أكتوبر 2018، استعارا اسم "كوبولد" أيضاً. اقترب سعر الكوبالت من 100 ألف دولار للطن المتري في وقت سابق من ذلك العام، لكنه في خضم انهيار شهد انخفاضاً بمقدار الثلثين قبل أن يرتفع في النهاية إلى حوالي 50 ألف دولار. وكانت الشركة الناشئة قد جمعت الأموال من صندوق رأس المال الاستثماري "أندريسن هورويتز" (Andreessen Horowitz)، بالإضافة إلى صندوق "بريك ثرو إنيرجي فينتشرز" (Breakthrough Energy Ventures) للطاقة النظيفة الذي أسسه بيل غيتس، والذي يضم من بين مستثمريه جيف بيزوس وراي داليو ومايكل بلومبرغ (مالك بلومبرغ، الشركة الأم لبلومبرغ بيزنس ويك، وأحد مستثمري صندوق "أندريسن هورويتز"). لم تكشف شركة "كوبولد" عن حجم رأس المال الذي جمعته، لكن شركة "بيتش بوك" (PitchBook) لأبحاث أسواق رأس المال، قدّرت الأموال التي جمعتها الشركة الناشئة بنحو 23 مليون دولار. يقول هاوس، الرئيس التنفيذي لشركة "كوبولد"، إن الشركة "مولت وخصصت أموالاً تزيد على 100 مليون دولار".
يسعى هاوس جاهداً إلى التأكيد على أن شركته لا تبحث فقط عن الكوبالت. فالقيام بذلك لن يكون أمراً منطقياً. عادةً ما يختلط الكوبالت برواسب أكبر من خام المعادن الأخرى، بما في ذلك عناصر النيكل والنحاس، وأحياناً مجموعة المعادن البلاتينية. وعلى الرغم من أن الكوبالت حالياً يعد المعدن الأثمن بين المعادن التي تدخل في صناعة الكاثودات، والأكثر أهمية في سلسلة التوريد، فإن بناء ما يكفي من مجموعات نقل الحركة لأسطول سيارات عالمي في حقبة ما بعد محركات الاحتراق الداخلي، سيتطلب الكثير من المعادن مثل النيكل والليثيوم بالنسبة إلى الكاثودات، والنحاس للأسلاك، والعناصر الأرضية النادرة للمغناطيسات القوية التي تحوّل الطاقة الكهربائية للبطارية إلى عزم دوران. اجمع كل ذلك، واطرح منه احتياطيات العالم المعروفة، وستحصل على 10 تريليونات دولار فيما يسميه هاوس "المعادن المفقودة".
من المهم أن تفهم بالضبط ما يعنيه ذلك، فالكوبالت ليس معدناً نادراً في واقع الأمر. يشير هاوس إلى أن "هناك ما يكفي من الكوبالت في الكيلومتر العلوي من القشرة الأرضية المحيطة بالقارات لبناء مليون سيارة كهربائية لكل شخص على هذا الكوكب". لكن معالجة الكميات الضئيلة التي يتم اقتفاء أثرها، والتي تضم كل ذلك تقريباً، ستكون عملية مدمرة من الناحية الاقتصادية. يتعلق استكشاف المعادن بالعثور على الأماكن التي تسببت فيها التقلبات والتحولات الجيولوجية في تكوين تركيزات خام كبيرة للغاية، بحيث يكون من المربح تعدينها بأسعار المعادن الحالية، ومع أساليب الاستخراج والتكرير الحالية. وبحسب غولدمان، الذي يشغل منصبي المدير المالي ورئيس قسم التكنولوجيا في شركة "كوبولد" فإن "ما تحتاجه هو أن تذهب الطبيعة وتنظف النحاس والكوبالت من كمية كبيرة من الصخور، ثم تخلق صخوراً جديدة تكون تركيزات المعادن فيها تقريباً 1% نحاس أو 1% نيكل أو 1% كوبالت، وهذا حقاً أمر غير مألوف".
"كل منجم جديد هو منجم جيد لأنك لم تر التأثيرات بعد"
إن ما يجعل العثور على هذه الرواسب أمراً صعباً، هو الإشكالية الأساسية ذاتها التي واجهها صائدو المعادن منذ العصر البرونزي، وهي أن سطح الأرض معتم. وحتى العصر الحديث، كانت الاكتشافات المعدنية تتم عن طريق اكتشاف الرواسب التي تبرز من الأرض، ومن مثل ذلك النتوءات الملونة باللون الأحمر من الحديد المؤكسد أو النحاس الأخضر، ولا تزال مثل هذه الاكتشافات قيد الإنتاج. على سبيل المثال، تم تعدين كتلة (Kupferschiefer) الرسوبية الضخمة في شمال وسط أوروبا بشكل مستمر منذ عام 1200م على أقل تقدير، ومن المحتمل أن تكون المنطقة قد خضعت للتعدين قبل ذلك بآلاف السنين.
ومن الناحية التقنية، يمتلك مستكشفو اليوم ترسانة من الأدوات الجديدة للتنبؤ بما يكمن تحت الأرض، سواء كانت أساطيل من الأقمار الصناعية تجمع الصور الطيفية والبيانات الخاصة بمجال الجاذبية، أو الملفات العملاقة للكشف عن المعادن التي تقطرها المروحيات. لكن حتى مع كل ذلك، فإن الغالبية العظمى من الاكتشافات حتى الآن كانت على سطح القشرة الأرضية أو بالقرب منه. وفي السنوات الأخيرة، بغض النظر عن مقدار الأموال التي تم إنفاقها على الاستكشاف، فإن الاكتشافات تقل بشكل مطرد. يقول غولدمان: "لقد وصلنا إلى مرحلة استنفدنا فيها تقريباً منهجيات الاستكشاف التي سمحت لنا باكتشاف رواسب الخام التي يسهل العثور عليها".
وفقاً لتشخيص "كوبولد"، فإن المورد المحدود ليس خام المعادن، وإنما القدرة المعرفية البشرية. فعندما تبتعد الرواسب عن السطح، تصبح الإشارات القادمة من تحت الأرض متفرقة وخافتة للغاية، بحيث يتعذر تجميعها معاً، حتى من قبل أفضل الجيولوجيين. كما تميل الرواسب المعدنية إلى التواجد في أماكن نائية وذات طبيعة عدائية، فضلاً عن كون المعلومات الموجودة حول باطن الأرض مجزأة وغير متسقة، وخاطئة في كثير من الأحيان. قد يكون جمع البيانات الجديدة عن طريق إرسال طائرة تحمل مقياساً للمغنطة "مغنيتومتر"، أو شحن جهاز حفر إلى القطب الشمالي لثقب حفر استطلاعية، مجرّد عملية بطيئة ومكلفة للغاية. يقول هاوس: "هذه بيئات ذات بيانات متفرقة"، حتى بالنسبة إلى شركة علوم بيانات. ويضيف: "هذا يختلف بشكل كبير عن شركات التواصل الاجتماعي، حيث يقدم الناس لهم المعلومات طوال الوقت، بحيث تغمرهم البيانات".
يتمثل نهج "كوبولد"، في أخذ هذا النوع من الجيولوجيين الذين يقودون جهود الاستكشاف تقليدياً وربط خبراتهم بمناهج علوم البيانات. ولذلك، أنشأت الشركة قاعدة بيانات خاصة بها من المعلومات الجيولوجية التي تحصل عليها من المصادر العامة والخاصة في جميع أنحاء العالم. ويشمل ذلك كل شيء، بما في ذلك الأبحاث الأكاديمية، والنتائج الكيميائية لثقب الحفر، والقياسات من الأجهزة المحمولة جواً والأقمار الصناعية، والتقارير الميدانية المكتوبة بخط اليد، والتي بالكاد تمكن قراءتها ويتم فك شفرتها باستخدام تقنية التعرف الضوئي على الحروف. تقول جوان وود، مديرة هندسة البيانات في الشركة: "لا يحاول الناس تسهيل استخلاص هذه البيانات أو تيسير استهلاكها. لأنهم إذا وجدوا شيئاً مثيراً للاهتمام بشكل أساسي، فإنهم يفضلون عدم مشاركته مع المجال العام". لقد أُتيح البحث عبر قاعدة بيانات "كوبولد" لعلمائها الجيولوجيين وعلماء بياناتها. ويعد ذلك الكنز الدفين من البيانات، بمثابة القوام الذي تدرّب عليه الشركة خوارزمية قوية للتعلم الآلي للبحث عن المعادن الخام.
بالنسبة إلى عالِم بيانات، فإن هذه الأنواع من المشكلات تتمتع بجاذبية خاصة. يأتي موظفو "كوبولد"، البالغ عددهم 35 موظفاً، من شركات مثل "غوغل" و"مايكروسوفت" و"سلاك" (Slack)، وعادةً ما يكونون مبرمجين حاصلين أيضاً على درجة الدكتوراه في العلوم الفيزيائية. وعند سؤالهم عن سبب انضمامهم إلى الشركة الناشئة، ذكروا الرضا بشأن تسريع انتقال الطاقة، بالطبع، لكنهم ذكروا أيضاً فرصة معرفة ما إذا كانوا على حق بالفعل بشأن شيء ما. الجدير بالذكر، أن شركة "كوبولد" لا تصنع برمجيات لتبيعها لشركات أخرى. وإلى ذلك، تغامر الشركة الناشئة بمطالباتها الاستكشافية، إما بشكل فردي أو في إطار مشروعات مشتركة، في حوالي 20 منطقة عبر أستراليا وكندا ومنطقة كوبربيلت في وسط أفريقيا وغرينلاند والولايات المتحدة. وفي أوائل سبتمبر، أعلنت "كوبولد" عن تحالف استكشافي مع "بي إتش بي غروب" (BHP Group)، وهي ثاني أكبر مجموعة تعدين في العالم. إما أن تستخرج هذه المشروعات معادن خام، أو أنها لن تفعل. يقول جيف كايرز، أستاذ الجيوفيزياء بجامعة ستانفورد والشريك البحثي والمساهم في الشركة: "ما أحبه في (كوبولد)، هو أنها ستواجه عواقب تعلم الآلة".
خوارزمية لترشيد البحث
كان كايرز قد عمل مع "كوبولد" على تطوير خوارزمية لتحديد حجم وشكل كتلة المعادن الخام باستخدام أقل عدد ممكن من ثقوب الحفر. وقد طور جيك إيدمان، عالم فيزياء الغلاف الجوي ومدير الشركة للتعلم الآلي، خوارزمية مماثلة لتصميم تحركات الطائرات على ارتفاع منخفض أثناء عملية المسح الكهرومغناطيسي (المروحية مع كاشف المعادن العملاق)، وتسييرها بناءً على ما تعثر أو لا تعثر عليه. يقول إم. ستيفن إندرز، وهو خبير في الصناعة يبلغ من العمر 45 عاماً، ويرأس قسم هندسة التعدين في كلية كولورادو للمناجم: "أعلم أن نهجهم ناجح، لأنني قمت به يدوياً. لقد ذهبت إلى مناطق في غرب أفريقيا وأمريكا الجنوبية ومناطق أخرى من العالم بصحبة فرق من علماء الجيولوجيا وكل هذه البيانات. إن عملية الاستكشاف تتطلب عمالة مكثفة بهذه الطريقة". ويجادل إندرز بأن السرعة والكم الذي يمكن أن تستكشف به "كوبولد"، "من المحتمل أن يكونا قويين للغاية".
أشرق فجر اليوم قبل الأخير من صيف فريدمان في شمال كيبيك بضباب كثيف، بحيث لا يمكن لأي من مروحيات كوبولد المستأجرة -واحدة للجيولوجيين وأخرى للملف الكهرومغناطيسي- أن تحلق. لذلك، أمضى فريدمان معظم اليوم في غرفة الاجتماعات بالطابق الثاني من الفندق الصغير الذي استأجرته "كوبولد" في قرية كانغيكسوجواك. من وقت إلى آخر، كان الضباب ينقشع لبضع دقائق كاشفاً عن المرتفعات المكسوة بالثلوج عبر الخليج. تناثرت أجهزة الكمبيوتر المحمولة وأجهزة قياس الحساسية المغناطيسية المحمولة حول طاولة المؤتمرات، وشغل صندوق من بطاريات "إنرجايزر" القلوية كرسياً واحداً (ذات أنود من الزنك، وكاثود من ثاني أكسيد المنغنيز، إذا كنت تتساءل)، بينما استقرت المطارق الثقيلة على الأرض. وكانت عينات الصخور الخشنة الداكنة موجودة في كل مكان: على عتبات النوافذ، وتحت المجهر، وبمحاذاة الجدران في أكياس الحبوب البيضاء التي سيتم إرسالها بداخلها جنوباً ليتم تحليلها كيميائياً.
في وقت مبكر من المساء، كان فريدمان يتحدث مع مارك توبينكا، كبير علماء "كوبولد"، حول أحدث التوقعات من خوارزمية التعلم الآلي للشركة، "إم إل" (ML) كما أطلقوا عليها. كان توبينكا يعمل في منطقة الخليج، مثل العديد من موظفي الشركة البعيدة تماماً الآن (ينتشر موظفون آخرون في جميع أنحاء الولايات المتحدة وفي أماكن نائية مثل زامبيا). وقد تباطأ الحوار عبر تطبيق "زووم" (Zoom) نظراً لتأخر زمن الوصول الذي تسبب به الإنترنت المتقطع في فندق "أوبيرج كانغيكسوجواك". كان الاثنان يناقشان منجلاً ممزقاً على الخريطة سلطت الخوارزمية الضوء عليه على أنه موقع واعد.
قال فريدمان: "نعم، أعتقد بأنه إسكر (كثيب يُخلفه نهر جليدي)". لن يكون ذلك واعداً، إذ إنه، كتكوين نشأ عن نهر جليدي يتخلص من الصخور التي تم نقلها من مكان لآخر، فلن يكون لديه الكثير ليبوح به عما كان يكمن بباطن الأرض حيث يتواجد حالياً. واعتقد توبينكا بأن الأمر يستحق التدقيق، فقط لمعرفة سبب تركيز "إم إل" عليه.
في وقت متأخر من صباح اليوم التالي، تلاشى الضباب. فحلقت مروحية الجيولوجيين غرباً على طول نهر باتجاه إحدى مناطق مربع المطالبة الاستكشافية على بعد 60 ميلاً. كان المشهد في الأسفل مليئاً بطيات الأشجار الداكنة وبحيرات مياه الجليد الذائبة. وقبل أسبوعين، كانت حيوانات الرنة في كل مكان، لكنها هاجرت الآن إلى الجنوب. وترقباً للدببة القطبية، قام فريدمان بإنزال عضوين من فريقه لاجتياز سلسلة طويلة من التلال. على بعد أميال قليلة، جلس الطيار بالقرب من بحيرة صغيرة محاطة بكتل الجليد الطافية، والتي، حتى وقت قريب، كانت لتظل متجمدة طوال الصيف، بينما شق فريدمان طريقه حولها، حيث كان يحدق في العينات من خلال عدسة يده، ثم يقوم بإدخال التفاصيل إلى جهاز لوحي من سامسونغ.
كانت المحطة التالية لفريق الجيولوجيين فوق ممر منخفض عبارة عن قطعة أرض على شكل إسفين أربكت "إم إل"، فقام فريدمان بفحص الصخور هناك ووضعها في أكياس لمحاولة تحديد السبب. بعد ذلك، ذهب الفريق إلى تلة توهجت باللون الأحمر الواعد في الخريطة التنبؤية لخوارزمية "إم إل". عندما وصل فريدمان إلى هناك، أصبح متحمساً. كانت العينات المتعددة التي أخذها تحتوي على معادن خام صلبة بداخلها -نثرت بين الحبوب أو تجمعت في فقاعات. في فترة ما بعد الظهيرة، جعل فريدمان الطيار يحلق باتجاه التكوين الصخري الذي ناقشه مع توبينكا. قال في سماعة رأسه: "إنه بالتأكيد إسكر".
كانت المحطة الأخيرة في اليوم -والصيف- على مرأى من نتوء كان فريدمان قد أكده سابقاً كموقع "من المحتمل" أنه يحتوى على خام المعادن، فأراد أن يرى أبعاد هذا التكوين الصخري. ومن ثم، سار على منحدر ضحل وتسلقه مرة أخرى، حيث تشكل قراءاته لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مضلعاً يمكن إعادة إدخاله إلى الخوارزمية، كجزء من بين مليارات البيانات الأخرى. في غضون ذلك، خرج جروان من ثعالب القطب الشمالي من عرينهما لمشاهدة ما يحدث، حيث جذبتهما الضوضاء المختلفة للنشاط البشري.
التعدين والأثر البيئي
إذا عثرت "كوبولد" على ما تبحث عنه، فستزداد هذه الضوضاء. ستقوم الشركة إما بتشكيل شراكة مع أو بيع اكتشافاتها إلى شركة تعدين عملاقة، بل لأكبر شركة في هذا المجال، حيث تقوم شركة "غلينكور" (Glencore) بتعدين النيكل والكوبالت في المنطقة بالفعل. من ناحية أخرى، تعد لوائح التعدين في كندا أكثر صرامة من مثيلاتها في الكونغو، لكن العملية ذاتها لا تختلف في كلا البلدين. سيكون المنجم عبارة عن حفرة مفتوحة إذا كان الخام قريباً بدرجة كافية من السطح "التعدين السطحي"، أو حفرة عميقة إذا لم يكن كذلك، تحيط بها قرية صناعية وتغذيها طرق تقطع أشجار التندرا. قد يؤدي استخراج الخام إلى ترك بحيرة من المخلفات عالية الحمضية التي يمكن أن تسمم التربة والمياه المحيطة إذا لم يتم عزلها بعناية. كما يقول بايبال سامبات، مدير برنامج التعدين في منظمة "إيرث وركس" (Earthworks) لمراقبة البيئة: "كل منجم جديد يعتبر منجماً جيداً، لأنك لم تر التأثيرات بعد. إن حفر المناجم في الواقع مشروع خطير".
لدى عودتهم إلى كانغيكسوجواك في تلك الليلة، حزم الفريق أمتعته. وفي وقت متأخر من صباح اليوم التالي، سافروا إلى مدينة ساغينيه، كيبيك، على بعد 900 ميل جنوباً، حيث ذهب كل في اتجاه مختلف. ونقلت طائرة من طراز "كينغ إير" الباحثين، فيما حملت أخرى الصخور. لقد كان شهراً ناجحاً. فقد اكتشف فريدمان وخوارزمية "إم إل" الكثير من الصخور المرتقب احتواؤها على خام المعادن. يقول هاوس إنه من شبه المؤكد أنه في الصيف المقبل سيعودون هناك لثقب حفر الاستطلاع المحسنة خوارزمياً عبر تخفيف التربة الصقيعية دائمة التجمد.
إذا سارت الأمور على ما يرام، فقد تجد المعادن المكتشفة في إطار مطالبات شركة "كوبولد" الاستكشافية في كيبيك طريقها إلى بطاريتها الأولى في غضون بضع سنوات من اكتشافها. لكن غالباً ما تتراوح هذه الفترة بين عقد أو عقدين. يقول إندرز من كلية كولورادو للمناجم: "يستغرق تحويل الاكتشاف إلى منجم عامل، وقتاً طويلاً، حتى في حالة نجاحه". بحلول ذلك الوقت، يأمل مانثيرام في أن يكون قد أسهم في تغيير الكيمياء الأساسية للكاثودات.
بطاريات بدون كوبالت
في يوليو 2020، نشر مانثيرام، بالتعاون مع أحد طلاب الدراسات العليا تحت إشرافه، ستيفن لي، وباحثة ما بعد الدكتوراه، وانغدا لي، دراسة توضح أنه بإمكانهم صنع كاثودات خالية من الكوبالت -مصنوعة من النيكل والمنغنيز والألمنيوم- والتي تعمل أيضاً بنفس كفاءة نماذج الكاثودات المصنوعة من تركيبات النيكل والكوبالت والألمنيوم أو النيكل والمنغنيز والكوبالت، المستخدمة على نطاق واسع اليوم. ووفقاً للدراسة، فقد خزنت البطاريات الخالية من الكوبالت قدراً كبيراً من الطاقة، وتم شحنها بالسرعة ذاتها، وتمتعت بالاستقرار الحراري ذاته. وكتب مؤلفو الدراسة، أنها "تفتح مجالاً جديداً لتطوير مادة الكاثود للجيل القادم من بطاريات الليثيوم-أيون الخالية من الكوبالت عالية الطاقة". وعليه، قام مانثيرام بتأسيس شركة "تكس باور" (TexPower) لمحاولة تسويق تلك الاكتشافات الكيميائية.
اقرأ أيضاً: الألمنيوم يقفز لأعلى مستوى في 13 عاماً مسجلاً 3 آلاف دولار للطن
يستبدل التصميم الجديد الكوبالت المتبقي في الكاثود بالنيكل. وللقيام بذلك، كان على مانثيرام أن يكتشف طريقة للتعويض عن القيود المستعصية لهذا الأخير. وبشكل أساسي، فإن أكاسيد الفلزات التي تدخل في الكاثودات لا يتم تركيبها بقدر ما يتم تكوينها. بالعين المجردة، يتم إدخال بعض مساحيق السلائف في خزان الخلط، ثم يترسب مسحوق مختلف. ولكن من خلال المجهر الإلكتروني، فإن كل حبة من المسحوق الجديد هي عبارة عن مجموعة من الجسيمات الأصغر. وإذا قمت بتكبير المقياس أكثر، ستظهر البنية المسامية لتلك الجسيمات، الأمر الذي يسمح لأيونات الليثيوم بالحركة ذهاباً وإياباً، بينما يمنع أيضاً التدهور الذي يصاحب الشحن والتفريغ المتكرر لأطول فترة ممكنة. إن حمل العناصر المتعددة على الترسب خارج الخزان في الوقت ذاته، وبالنسبة والشكل المناسبين تماماً، أمر صعب للغاية. وقد استغرق الأمر سنوات من التلاعب بكل جانب من جوانب العملية لإتمامها بشكل صحيح -مدى سرعة تغذية الخزان بالمكونات، ومدى سرعة تقليبها، ودرجة الحرارة وتوازن الأس الهيدروجيني للمحلول (درجة الحموضة)، وما هي الكواشف الكيميائية المضافة. وبالطبع، ما هو مزيج المعادن الذي يجب استخدامه في المقام الأول.
40 عاماً للتعلّم
بمجرد أن يجف الخليط، يتم إدخال ملح سلف الكاثود إلى الفرن مع الليثيوم والأكسجين. ولكن في حين يسهل "طهي" الكوبالت، فإن إخضاع النيكل للإجراء ذاته يعد أكثر صعوبة، إذ ينبغي مراقبة درجة الحرارة بدقة ودفق الأكسجين فوق المسحوق بالمعدل والضغط المناسبين تماماً حتى يتفاعل بشكل صحيح. عندما يحدث ذلك، فإنه لا يزال يشكل مسحوقاً آخر (أسود في هذه المرحلة) والذي يتم لصقه على ورق الألمنيوم، ما يشكل الكاثود. يقول مانثيرام: "كان أكسيد نيكل الليثيوم معروفاً في الثمانينيات عندما صنع جوديناف أكسيد الليثيوم كوبالت. لكن الجميع استبعده قائلين إننا لا نستطيع تصنيعه، وإنه لا يعمل. لقد استغرق التعلم ببطء 40 عاماً".
نظراً لأنه يتم العثور على الكوبالت والنيكل واستخراجهما معاً، فإن استبدال أحدهما بالآخر لن يضر بـ"كوبولد" كثيراً. لكنه، قد يضر بطموح مانثيرام المطلق. ووفقاً للكيميائي المخضرم، فإن ما يحتاجه العالم حقاً هو بطاريات مصنوعة من عناصر لا يلزم تعدينها على الإطلاق. فالمحيطات مليئة بالصوديوم، والكبريت منتج ثانوي صناعي واسع الانتشار. هناك بطاريات في السوق صُنع كلا قطبيها من تلك المواد، لكن حساسيتها لدرجة الحرارة وميلها للتآكل يجعلاها غير عملية بالنسبة إلى العديد من الاستخدامات، بما في ذلك كبطاريات للسيارات. قد لا يكون أمام مانثيرام 40 عاماً أخرى لمعرفة ذلك، لكنه صبور.
في نهاية المطاف، يخلص الاختلاف بين النهجين إلى الحدود التي يعتقد المرء أنها قابلة للتأثر بالقدرات البشرية الإبداعية وأيها ليست كذلك. يقول هاوس: "الكوبالت جيد حقاً" بينما يتحدث إلى كاميرا الكمبيوتر المحمول من الفناء الخلفي لمنزله في نورث باي بكاليفورنيا، وهو يشير بجهاز "أيفون" الخاص به "لا يوجد نيكل ببطاريته على الإطلاق". ونظراً للحرية التي تتمتع بها في عدم القلق بشأن تكاليف البطارية -على عكس السيارة الكهربائية، فهي تمثل جزءاً صغيراً من التكلفة الإجمالية للهاتف- فقد اختارت شركة "أبل" كاثوداً مصنوعاً من الكوبالت بالكامل. يقول هاوس: "من الواضح أنهم سيعملون على تحسين الأداء، وكثافة الطاقة، وطول عمر البطارية، ومعدل شحنها، وكل هذه الأشياء". ويخلص إلى القول: "يجب علينا المحاولة بكل الوسائل لإيجاد بدائل، لكن الفيزياء هي ما هي عليه. لا يزال الكوبالت أفضل".
يقول دان، زميل مانثيرام، والباحث في مجال البطاريات ضاحكاً: "المحصلة النهائية حقاً هي أنه سيكون من المفيد للغاية بالنسبة إلينا أن يكون لدينا جدول دوري جديد يحتوي على بعض العناصر الإضافية للاختيار من بينها". ويستطرد دان: "عليك أن تفكر، حسناً، ما هي العناصر التي يمكنني العمل بها والموجودة على الكوكب بالقدر المطلوب؟ ثم يصبح الجدول الدوري الذي يمكنك استخدامه في الواقع صغيراً جداً".
لا مكان لليقين
بالطبع، يعد المستقبل، الذي نستهلك فيه احتياطيات العالم المعروفة حالياً من الكوبالت -والنيكل والليثيوم- لصناعة مليارات السيارات الكهربائية، هو السيناريو الأفضل من نواحٍ عديدة. إنه يفترض القدرة على التكيف السريع والواسع والمتضافر التي لم يظهرها جنسنا البشري دائماً. وهذا يبدو مبشراً بشكل خاص، كونه صادراً عن العقليات الاحتمالية في "كوبولد"، التي تؤمن، دون هوادة، بأنّ الاحتمالات هي التي تسيّر الحياة ولا مكان لليقين. عندما أذكر ذلك إلى هاوس، يجيب قائلاً: "لا أعرف ما إذا كنا سنعمل على كهربة أسطول المركبات بالكامل، أو كهربة الاقتصاد بأسره. لكنني أعلم أنه يتعين علينا فعل ذلك تماماً إذا أردنا حقاً حل مشكلة تغير المناخ". إنه يود أن يكون جزءاً من ذلك، ولكن، كما يشير: "كشركة، لسنا مضطرين لحل مشكلة الاحتباس الحراري لنكون شركة ناجحة. سوف تفشل شركة (كوبولد) أكثر مما ستنجح. ولكن إذا حالفها الصواب مرة واحدة فقط، فإننا سنجني مليارات الدولارات". وقد بدا هاوس أكثر ثقة بشأن ذلك.