بلومبرغ
شنّ النواب في مجلس العموم في بريطانيا هجوماً على نويل كوين، كما لو أنه نيفيل تشامبرلين العصر الحديث (تشامبرلين كان رئيس وزراء بريطانيا بين 1937 و1940). سأله بعض أعضاء البرلمان أين كانت أخلاقياته ومواقفه من الحكم الاستبدادي، وبينما أقرّ أحد النواب بأن المقارنة مع ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي قد تكون "جنونية"، فإنه سأل عما إذا كان بالإمكان أن تصل دولة ما إلى درجة من "الشرّ والخبث" قد تدفع كوين إلى الانسحاب منها.
على الأرجح كان كوين يتوقع استقبالاً فيه نوع من المودة، ربما حتى بعض كلمات التهنئة، إذ كان قد عُيّن حديثاً رئيساً تنفيذياً لمصرف "إتش إس بي سي" الذي يمتد تاريخه إلى 156 عاماً، ويعدّ الأكبر في المملكة المتحدة، ومن بين الأكبر في العالم.
اقرأ أيضاً: بريطانيا تحقق في علاقة رئيس وزراء سابق بعقود حكومية مع "غرينسل"
بعد ظُهر ذلك النهار من شهر يناير، برز ملصق لمسرحية "ريتشارد الثاني" خلف النائب البريطاني الذي كان يؤنب كوين عبر تطبيق "زووم". ولعلّ تلك الصورة العائدة إلى مسرحية شكسبيرية تتناول السلطة والغدر، تمثل خير تمثيل مجريات الأحداث التي شهدتها لجنة العلاقات الخارجية في ذلك اليوم.
اقرأ المزيد: "الأربعة الكبار" في هونغ كونغ يخسرون 6.7 مليار دولار بسبب التضييق على العقاريين
فبعد تلقي أمر صادر عن شرطة هونغ كونغ، جمّد مصرف "إتش إس بي سي"، الذي يترأسه كوين، حسابات ناشطين مؤيدين للديمقراطية كانوا يشاركون في الاحتجاجات المناهضة لقمع الصين للحريات في هونغ كونغ، في خطوة أثارت غضب بعض أعضاء اللجنة البرلمانية، ما دفعهم إلى المطالبة بالتحقيق.
رد فعل المحاسِب
كوين البالغ من العمر 59 عاماً، الذي أمضى حياته المهنية في "إتش إس بي سي"، هو محاسب في الأصل، ولذا جاءت ردة فعله كمحاسب. أجاب عن الأسئلة بصوت هادئ ورصين، قائلاً: "انطلاقاً من وظيفتي كمصرفيّ، لست في موقع يخوّلني أن أحكم على دوافع أو مشروعية أمر قضائي صادر عن جهاز معنيّ بتطبيق القانون". وأضاف: "أنا لست سياسياً".
بالطبع قوبلت خطوة كوين برد فعل ساخط في مسقط رأس "إتش إس بي سي" في لندن، إلا أنها كانت محطّ ترحيب الحزب الشيوعي الصيني، إذ أثنت صحيفة "غلوبال تايمز" المملوكة من الدولة على وقوف كوين بوجه حملات التشهير التي يقودها السياسيون الغربيون الذين وصفتهم الصحيفة بـ"المجموعة من الأشخاص العاديين المتعجرفين".
تجسد ردة الفعل المتناقضة هذه بين الدولتين الأزمة الوجودية التي يواجهها مصرف "إتش إس بي سي" ورئيسه، فأكثر من أي مؤسسة مالية، وربما بقدر الشركات الأخرى، يقف المصرف حائراً ما بين قيم الغرب ونهضة الصين. فاسم المصرف يختزل تاريخاً من الماضي الاستعماري البريطاني، إذ إن "شركة هونغ كونغ وشنغهاي للخدمات المصرفية" (Hongkong & Shanghai Banking Corp)، المعروفة اختصاراً بـ"إتش إس بي سي"، ترمز إلى زمن كانت الشركة تقود فيه الصين، فيما كانت بريطانيا تقود معظم أرجاء العالم.
اقرأ أيضاً: أزمة الوقود البريطانية.. إلى متى؟ أجوبة أهمّ خمسة أسئلة
إمبراطورية مصرفية
مع ذلك، لا يزال مصرف "إتش إس بي سي" يملك إمبراطورية على الرغم من انحسار حجمها، إذ يضمّ 40 مليـون عميل في أكثر من 60 دولة حول العالم، وتقـدر أصـوله بنحـو 3 تريليـونات دولار، وهو رقم يعتبر بين الأضخـم في العالـم، ما يضعه في مصـافّ مصـارف "جيه بي مورغان تشيس" و"سيتي غروب" و"بنك أوف أميركا"، إذ يطمح قادة هذه المصارف إلى جانب رؤساء عديد من الشركات العالمية إلى الاستفادة من النموّ الذي تحققه الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وفي غضون ذلك هم ملزمون أن يوازنوا ما بين الأرباح الموعودة وتشديد الصين سطوتها على الشركات العاملة في البلاد.
لدى بنك "إتش إس بي سي" كثير على المحك في الصين، وربما أكثر من عديد من الشركات الأخرى وأكثر من أي مصرف آخر غير صيني، فقد كانت عمليات المصرف في الصين وهونغ كونغ قد حققت له أرباحاً بـ10.8 مليار دولار قبل احتساب الضرائب في العام الماضي، ما أسهم بشكل كبير في تعويض الخسارة التي مُني بها في أوروبا.
يتجذر تاريخ "إتش إس بي سي"، وسرّ وجوده في الشرق، لكن منذ عام 2017 فقدت أسهمه نصف قيمتها، لتصبح الأسوأ أداءً بين أسهم البنوك الكبرى، ويُعزى ذلك جزئياً إلى المخاوف حيال إشكالات واجهها المصرف مع الحكومة الصينية.
بالتالي، حرص كوين على التزام نهجٍ تصالحيّ تكنوقراطيّ تجاه الصين، وتجاهل تحذيرات السياسيين البريطانيين ورجال الأعمال أصحاب المليارات، من أمثال جورج سوروس الذي اعتبر الاستثمار في الصين "خطأ مأساوياً" سوف يؤدي إلى "صحوة عنيفة".
لكن بالنسبة إلى "إتش إس بي سي"، أيّ قرار للانسحاب من الصين سيكون أشبه بقرار الرئيس التنفيذي لمصرف "بنك أوف أميركا" التخلي عن الولايات المتحدة. وقد كان كوين واضحاً في ذلك في أثناء جلسة الاستماع التي عقدها النواب الغاضبون، فلدى سؤاله عما إذا كان مستعداً للانسحاب على خلفية انتهاكات الصين لحقوق الإنسان، أجاب: "إذ كان السؤال إذا ما كنت مستعداً للتخلي عن هونغ كونغ، فالإجابة هي لا". وأضاف: "لدينا التزام كبير كمؤسسة".
يقدم كوين صورة غير اعتيادية عن القائد في عالم المال والأعمال، فهو ليس مصرفياً نبيلاً اعتاد قراءة التاريخ والأدب في أوكسبريدج، ولا من المشاركين الدائمين في متندى دافوس. فكوين نشأ في بيرمينغهام، ثاني أكبر مدينة في المملكة المتحدة، والمعروفة بتاريخها المجبول بالصناعة، كما أنه ينتمي إلى عائلة من عمّال البناء تتحدر من أيرلندا، حتى إن وظيفته الأولى كانت الحفر في مواقع الإنشاءات. نال شهادته في المحاسبة من معهد بيرمينغهام بوليتيكنيك المهني، وهو يعشق لعبة الرغبي التي يفضلها عادة أبناء الطبقة الوسطى، وغالباً ما يحضر المباريات التي تقام في ملعب "تويكينهام" في لندن. ويتسم كوين بوجه مربع الشكل وجسم مكتنز، فيبدو أشبه بلاعب رغبي، إلا أن صديقاً له يقول إنه عمل مؤخراً على إنقاص وزنه حتى يظلّ قادراً على تولي وظيفته بشكل مناسب.
المسيرة المهنية
بدأ كوين مسيرته المهنية في عام 1987 في شركة "فوروورد ترست غروب" (Forward Trust Group) التابعة لمصرف "ميدلاند بنك" (Midland Bank) في بيرمينغهام. وكان يعمل في قسم غير باهر، هو تأجير المعدّات. بعد ذلك بخمس سنوات، اشترى مصرف "إتش إس بي سي" مصرف "ميدلاند"، وبالتالي أصبح كوين يعمل لصالحه. وحين بات تأجير السيارات والقطارات ركيزة مهمة في القطاع المالي المتخصص، قاد كوين أقساماً في الولايات المتحدة وأوروبا، قبل أن ينتقل إلى آسيا لإدارة الشؤون المصرفية التجارية.
في هونغ كونغ، كسب كوين سمعة كمدير تنفيذي قادر على تعزيز التواصل بين الأقسام، بشكل خاص في خضمّ المعارك بين أقسام الشؤون المصرفية التجارية في "إتش إس بي سي" والأقسام المعنية أكثر بـ"وول ستريت". لم يكن كوين يعرف أحداً هناك، ولم يكن يتكلم لا الصينية المندرينية ولا الكانتونية، إلا أنه تمكّن من كسب الموظفين لصفه بفضل خبرته المالية وأخلاقياته في العمل، حسب مدير تنفيذيّ كبير مطلع على الوقت الذي أمضاه كوين في آسيا.
اقرأ أيضاً: البنك الدولي يرفع توقعات نمو الاقتصاد الصيني ويخفضها لآسيا بسبب "دلتا"
"إذ كان السؤال إذا ما كنت مستعداً للتخلي عن هونغ كونغ، فالإجابة هي لا". وأضاف: "لدينا التزام كبير كمؤسسة".
مع ذلك، غالباً ما كان يُتغاضى عن كوين أو يُهمَّش، ففي خريف عام 2015 صدرت مذكرة بالاستبدال به رئيساً للشؤون المصرفية التجارية في منطقة آسيا المحيط الهادي من دون الإشارة إلى وجهته التالية. وقد ظنّ بعض المعنيين، خطأً، أنه سوف يُستبعد. وبعد ذلك بسنتين، حين كان يتبوأ منصب الرئيس الدولي للشؤون المصرفية، لم يأخذ مجلس الإدارة اسمه في عين الاعتبار حين شغر منصب الرئيس التنفيذي، حسب مصدر مطلع.
عيّن مجلس الإدارة جون فلينت في هذا المنصب، إلا أن الرجل الذي قضى هو الآخر مسيرته المهنية الكاملة في "إتش إس بي سي" لم يتمكن من الاحتفاظ بمنصبه لأكثر من 18 شهراً، فالمصرف كان يمرّ بأزمة، وقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تدهور مكانته في أوروبا، إذ مرّت أعماله بفترة ركود، فيما لم تدرّ عملياته في الولايات المتحدة ما يكفي من الأرباح. في غضون ذلك، أثارت عدائية الصين تجاه الشركات الغربية قلق المستثمرين.
البحث عن بديل
في أغسطس عام 2019، عيّن مصرف "إتش إس بي سي" كوين في منصب الرئيس التنفيذي المؤقت للمصرف، فيما واصل مجلس الإدارة البحث عن بديل. وعلى الرغم من أن كوين كان المرشح الوحيد من داخل المؤسسة، فإن المصرف حاول تعيين ثلاثة أشخاص على الأقل من الخارج، بينهم جان بيير موستيير الذي كان يترأس "يوني كريديت" الإيطالية في حينها، والذي رفض العرض، حسب أشخاص مطلعين على المفاوضات. وقد استغرق الأمر حتى مارس 2020 ليطلب رئيس مجلس إدارة "إتش إس بي سي" مارك تاكر من كوين أن يصبح الرئيس التنفيذي الأصيل.
حتى هذه اللحظة، لا يزال مسؤولون حاليون وسابقون رفيعو المستوى في المصرف، طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم بما أنهم يعبّرون عن مخاوف شخصية، يشككون فيما إذا كان كوين هو فعلاً صاحب القرار، إذ يقولون إن تاكر، وهو رئيس تنفيذي سابق لشركة تأمين كان يتردد كثيراً على الصين، هو مَن يتخذ القرارات الحاسمة.
قد ينزعج رؤساء تنفيذيون آخرون إذا ما جرى تصويرهم بدلاء احتياطيين، أو إذا ما تناولتهم مثل هذه النميمة، إلا أن كوين -الذي رفض إجراء مقابلة معه لإعداد هذا المقال- لا يتأثر بسهولة وليس مغتراً بنفسه، حسب ما يقوله عنه أصدقاؤه وزملاؤه، حتى إنه في إحدى إطلالاته عبر الإنترنت لم يعلّق على أهمية لقاء عُقد في يونيو مع الأمير تشارلز في اجتماع قادة مجموعة السبع في كورنويل، إذ قال: "كنّا العرض الافتتاحي".
سلوك متواضع
يعمل كوين على نشر هذا السلوك المتواضع في أرجاء "إتش إس بي سي" أيضاً، إذ فكك الأجنحة التنفيذية في الطابق الـ42 من مقرّ المصرف في كاناري وارف في لندن، وبدل الجلوس في مكتبه الخاص ذي الموقع المتميز والنوافذ الزجاجية الممتدة من الأرضية إلى السقف والمطلّة على المدينة، سيستخدم كوين مثل كلّ الموظفين الآخرين مكاتب العمل المشتركة، إذ يجلس في وسط أي طابق من الشركة. أمّا مكتبه فهو عبارة عن جهاز كمبيوتر وكرسي يبدوان أشبه بقطع أثاث من "أيكيا". وبينما كلّف سلفه فريق إعداد أفلام وثائقية كي يتبعه وينقل رؤيته، يفضّل كوين التعبير عن آرائه من خلال موقع التواصل الاجتماعي "لينكد إن".
"نويل رجل المهام الصعبة، الذي كان عليه التحرك والتنفيذ".
يندرج كلّ ذلك في إطار واحدة من إستراتيجيات كوين الأساسية كرئيس تنفيذي، والمتمثلة في العمل بحزم على خفض التكلفة، إذ كان قد أعلن في فبراير عام 2020 عن عزم البنك إلغاء 35 ألف وظيفة، بواقع 15% من القوى العاملة فيه، وقد تباطأ تنفيذ هذه الخطوة لفترة وجيزة حين جعل وباء كورونا هذه الإجراءات غير شعبية.
يرى آلان زيمان، رئيس مجلس إدارة مجموعة "لان كواي فونغ" (Lan Kwai Fong Group)، إحدى كبريات الشركات المؤجرة في منطقة الحانات في هونغ كونغ، أن كوين يفهم بعمق السوق المصرفية الصينية بفضل السنوات التي أمضاها في هونغ كونغ. وفي رأيه، كوين هو القائد الذي تجرأ على القيام بالخطوات الصعبة التي رفض الآخرون القيام بها. وقال زيمان، وهو عميل لدى بنك "إتش إس بي سي" منذ عقود، إن "نويل رجل المهام الصعبة، الذي كان عليه التحرك والتنفيذ".
الخروج من أمريكا
في شهر مايو الماضي، وافق بنك "إتش إس بي سي" على بيع 90 من فروعه في الولايات المتحدة، ما يعني خروجه من السوق المصرفية واسعة النطاق في البلاد. وفي يونيو، أعلن البنك عزمه التخلي عن قطاع التجزئة المصرفية في فرنسا، ما سيكبده خسارة بقيمة 3 مليارات دولار. كما أعلن كوين عزمه خفض "البصمة المكتبية" للمصرف بنسبة 40%، بحيث يتشارك كلّ موظف المكتب مع زميل له، وهو يخطط لخفض السفر لدواعي العمل إلى النصف. وفي مقابلة مع تليفزيون "بلومبرغ" في سبتمبر، غرّد كوين خارج سرب الرؤساء التنفيذيين الآخرين في "وول ستريت" لدى سؤاله ما إذا كان الموظفون سيعودون إلى المكاتب كما في السابق، مجيباً بـ"لا" حاسمة.
في ظلّ كل هذا التوفير في التكلفة، وصلت النتائج المالية إلى مرحلة من الاستقرار، إلا أن أسعار أسهم "إتش إس بي سي" بالكاد تحركت هذا العام، فيما حلقت أسهم بعض المصارف الكبرى الأخرى وبدت السوق متجهة إلى الصعود.
تعليقاً على ذلك، يرى إيان غوردن، المحلل المصرفي في شركة "إنفيستيك سيكوريتيز" (Investec Securities) أن كوين يقوم بالخطوات الصحيحة، إلا أن تحقيق النتيجة قد يستغرق سنوات. وقال غوردن: "التقدم فعليّ، ولكنه صعب جداً".
يقع مقرّ "إتش إس بي سي" في وسط المدينة في هونغ كونغ، بارتفاع 48 طابقاً، إذ يتمتع بإطلالة كاشفة على ميناء المدينة. ويشتهر هذا المبنى في الأوساط المعمارية بالأرتيوم المشمس وخريطة الأرضية المرنة، وتبنّيه لأسلوب فينغ شوي. وقد شُيّد باستخدام قوالب صلب مسبقة الصنع شُحنت من المملكة المتحدة. ولدى إنجاز بنائه في عام 1986، كان واحداً من أغلى الأبراج المكتبية في العالم، مجسداً التزام "إتش إس بي سي" تجاه الصين.
تركيز على هونغ كونغ
يسعى كوين إلى تعزيز مكانة هذا المقرّ وكلّ ما يمثله، فقد نقل أهم المديرين التنفيذيين المسؤولين عن 90% من أعمال "إتش إس بي سي" إلى هونغ كونغ، فيما خفض أعداد الموظفين في أماكن أخرى، وتعهد باستثمار 6 مليارات دولار في آسيا. وهو يقول إنه يسعى إلى إقناع الصينيين الذين انضموا مؤخراً إلى الطبقة الميسورة بأهمية الخدمات المصرفية والاستثمار والتأمين. ولهذه الغاية يخطط لتعيين 5 آلاف مخطط ثروات في خلال السنوات الخمس المقبلة. وكان مصرف "إتش إس بي سي" قد وافق في شهر أغسطس على شراء أعمال شركة "أكسا" (Axa) في مجال التأمين في سنغافورة مقابل 575 مليون دولار. وقال كوين إنّ على المستثمرين أن يتوقعوا أن يشتري البنك شركات عدة أخرى في آسيا، بقيمة نصف مليار دولار لكلّ منها.
يوجّه كوين نظره إلى الأثرياء الجدد، في وقت أعلن فيه الرئيس الصيني شي جين بينغ العزم على مكافحة انعدام المساواة، إلا أن كوين لا يرى تعارضاً في ذلك. وقال في المقابلة مع تليفزيون "بلومبرغ": "الجميع مهتم بالصين كفرصة لتحقيق الثروة". وأضاف: "حين نفكر بثراء الصين لا نعني فاحشي الثراء فحسب، بل ثراء الجميع".
لا يستطيع الرئيس التنفيذي أن يخاطر بإثارة حفيظة شي، إذ سبق لـ"إتش إس بي سي" أن أغضب الحكومة الصينية بسبب تعاونه مع تحقيق وزارة العدل الأمريكية حول تعاملات شركة "هواوي تكنولوجيز" (Huawei Technologies) مع إيران الخاضعة لعقوبات اقتصادية. وكانت منغ وانزو المديرة المالية لشركة "هواوي"، التي حاربت ضد ترحيلها من كندا إلى الولايات المتحدة، قد توصّلت إلى اتفاق مع المدّعين الفدراليين، إذ أقرّت بأنها ضللت مصرف "إتش إس بي سي" حول تعاملات شركة الاتصالات مع إيران، حسب وثائق المحكمة. وفي حال التزمت منغ الاتفاق فإن الحكومة سوف تسقط الاتهامات الموجهة ضدّها.
اقرأ أيضاً: انتهاء أزمة "هواوي" بعد إطلاق سراح مديرتها والمواطنين الكنديين
اتفاق بين القضاء الأمريكي والمديرة المالية لـ"هواوي" لحل التُّهم الجنائية ضدها
في خلال زيارة إلى هونغ كونغ في يناير عام 2020، شاهد كوين من كثب شغف المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، في الوقت الذي بدأت فيه الصين حملتها لتضييق الخناق على منطقة كانت لفترة طويلة تتمتع بحكم ذاتي. طلب كوين في حينها من 30 ألف موظف العمل من المنازل، وتحدث في جلسة الاستماع البرلمانية في يناير عن مشاهدته أشخاصاً كانوا يقتلعون حجارة الأرصفة ويرمونها من فوق الجسور.
قانون لسحق المعارضة
بعد ذلك بخمسة أشهر، فرضت الصين قانون الأمن القومي في هونغ كونغ، الذي منحها سلطات واسعة لسحق المعارضة. وقف عندها بنك "إتش إس بي سي" محتاراً ما بين المخاطرة بإغضاب الصين، أو التخلي عن القيم البريطانية. في حينها، أعلن بيتر وونغ، مسؤول البنك التنفيذي الأعلى في آسيا، دعمه للصين، ما أثار غضب المتظاهرين والنواب البريطانيين على حدّ سواء.
اقرأ المزيد: "قبضة الصين" تجبر المدخرين في هونغ كونغ على البحث عن "ملاذ" لأموالهم
مع ذلك، لم يرضِ هذا الموقف الصين تماماً، ففي شهر سبتمبر 2020 أفادت صحيفة "غلوبال تايمز" التابعة للحزب الشيوعي الحاكم بأنه يمكن وضع البنك على قائمة "الهيئات غير الموثوقة" التي تعاقب الشركات التي تلحق الضرر بالأمن القومي. وما لبثت في الشهر ذاته أن انهارت أسهم المصرف إلى أدنى مستوى لها منذ 25 عاماً. وقد أعلن "إتش إس بي سي" في بيان أنه واثق من مكانته في الصين، مشيراً إلى أنه المصرف الأجنبي الأول على صعيد اكتتاب الديون الحكومية وتوفير التداول في السوق الثانوية.
انصاع بعدها المصرف لطلب الشرطة في هونغ كونغ، وجمّد حسابات ناشطين مؤيدين للديمقراطية، بينهم تيد هوي، وهو مشرّع سابق في هونغ كونغ، شكا الأمر مباشرة إلى كوين الذي قال له إنه لم يكن أمامه أي خيار آخر بعد أن تسلّم الأمر من الشرطة. وقال هوي في يناير: "وضع هذا البنك العالمي خدمات الزبائن في موضع مخزٍ بسبب تملقه السياسي".
إذا صحّ أنه لم يكن أمام "إتش إس بي سي" أي خيار آخر غير الانصياع للصين، كما يقول كوين، فإن بريطانيا في مأزق هي الأخرى، فمصرف "إتش إس بي سي" من أهم الشركات في المملكة المتحدة، ويشكل 4% من مؤشر "فوتسي 100" للشركات الأكثر قيمة المتداولة في بورصة لندن، أي واحدة من النسب الأكبر بين الأسهم، ويعتمد كثير من المتقاعدين على عوائد أسهمه.
يقدم النائب المحافظ توم توغيندهات أفضل مثال على التوازن الذي تحاول بريطانيا أن تحافظ عليه، ففي شهر يناير ترأس لجنة العلاقات الخارجية، وكان من بين النواب الذين وجّهوا انتقادات إلى المصرف على خلفية تجميد حسابات المتظاهرين. ويعتبر توغيندهات صورة مصغرة عن المؤسسة البريطانية، فهو يحمل شهادة ماجستير من جامعة كامبردج، وكان قد تابع تعليمه في مدرسة خاصة نخبوية (عمل توغيندهات لصالح "بلومبرغ نيوز" من عام 2000 إلى 2003). يحمل توغيندهات الجنسيتين البريطانية والفرنسية، وهو ضابط سابق في الجيش، خدم في العراق وأفغانستان.
انقلاب الأدوار
قبل قرن من الزمن، كان شخص مثله يقود الإمبراطورية البريطانية. وفي ذلك الوقت كان مصرف "إتش إس بي سي" يقود عملياً الاقتصاد الصيني، فحتى عام 1928 كان "إتش إس بي سي" يتصرف كما لو أنه المصرف المركزي في الصين، لدرجة أنه كان يجمع الضرائب.
اليوم انقلبت الأدوار، فبعد شهرين من جلسة الاستماع فرضت الصين عقوبات على توغيندهات وغيره، إذ اتهمتهم بـ"نشر الأكاذيب والمعلومات المغلوطة عن خبث". وبعد فترة وجيزة من ذلك قال توغيندهات لأحد الصحفيين إنه يتعاطف مع كوين، ويدرك أهمية مصرف "إتش إس بي سي" وحاجته إلى تحقيق الأرباح، والتحديات الناجمة عن الموازنة بين مصالح الشركات وحقوق الإنسان.
وأضاف: "هذه قرارات صعبة، ليس بالنسبة إليهم فحسب، بل أيضاً بالنسبة إلى أي أحد يتعامل مع الصين". وقد كشف توغيندهات عن أمر آخر أيضاً، فعلى الرغم من امتعاضه من علاقة "إتش إس بي سي" مع الصين، لكن في أي مصرف فتح حسابه الشخصي؟ في "إتش إس بي سي" طبعاً.