بلومبرغ
اعتادت أوروبا والعالم ثبات قبضة أنغيلا ميركل في إدارة ألمانيا على مدى 16 عاماً. لذا تركت انتخابات 26 سبتمبر، التي لم تخضها ميركل، من يخشون التغيير والفراغ بعد انتهاء عهدها الطويل في قلق، بيد أن قيادة ألمانيا في الوقت الراهن على الأقل ستكون بيد المستشارة ذاتها.
وضعت نتائج الانتخابات "الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني" بالصدارة، وإن يكن بفارق هزيل، وجعلت "الحزب الديمقراطي المسيحي" يترنح بعد أول هزيمة صريحة له منذ 1998، بينما تموضع حزبان صغيران للعب دور صانع الملوك.
استغرق تشكيل ائتلاف حاكم بعد الانتخابات الألمانية السابقة في 2017 ما يناهز ستة أشهر، رغم الانتصار الجليّ الذي احرزته المستشارة ميركل آنذاك.
ستبقى ميركل في سدة المستشارية لحين تسمية الحكومة العتيدة. حيث قال كارستن نيكل، المدير العام في شركة "تينيو" (Teneo) لاستشارات المخاطر السياسية: "لا أحد يريد تكرار تجربة 2017... لكن الجمع بين الأطراف يشكل تحدياً على الدوام".
صاحب الحظوظ
أعلن أولاف شولتس، زعيم "الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني" الذي تجتمع له أقوى الحظوظ لتولي السلطة، أنه يريد تشكيل حكومة بحلول عيد الميلاد. لكن ما يزال أمام شولتس طريق وعر قبل الجلوس على كرسي المستشارية، رغم انتصار حزبه الذي تسلل من الخلف. شولتس، الذي أزال النقاد اسمه من قوائم التوقعات في أغسطس الذي يداني زمننا الحاضر، رهن مصيره على ائتلاف ثلاثي مع "حزب الخضر" الذي يركز على المناخ و"الحزب الديمقراطي الحر" المؤيد للأعمال التجارية، وهي أحزاب ذات توجهات في أقصى التناقض حول الضرائب والديون ودور الدولة.
من جهة أخرى، ما يزال أرمين لاشيت، رئيس وزراء ولاية شمال الراين-وستفاليا سيئ الطالع الذي أصبح زعيماً للديمقراطيين المسيحيين بعد معركة داخلية طاحنة، يدافع جاهداً عن إمكانية التحالف مع "حزب الخضر" و"الحزب الديمقراطي الحر"، رغم أن هكذا تحالف لا يمكن أن يرى النور إلا إن انهارت محادثات شولتس. هناك احتمالات أخرى لتشكيل أغلبيات برلمانية أخرى، مثل إحياء التحالف "الكبير" بين أكبر حزبين في ألمانيا، لكن هذه المرة بقيادة الاشتراكيين الديمقراطيين.
لا تفويض لديه
تداني الرغبة السياسية بمثل هكذا تحالف الصفر، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته مجلة "دير شبيغل" بالتعاون مع شركة "سيفي" للاستطلاعات أن 63% من الألمان يدعمون شولتس مستشاراً، مقابل 24% فقط يفضلون لاشيت. فيما يكافح لاشيت لاحتواء الأضرار التي أتت من خسارته الانتخابية، لا يتضح مآله بعد بضعة أشهر، حيث بات بعض أعضاء حزبه يطالبون بتنحيه فيما أعلن حلفاؤه البافاريون أنه غير مفوض لتشكيل حكومة.
يضع هذا حزبين لهما تاريخ من العداء المتبادل في قلب جهود تشكيل الحكومة الجديدة. أمضت أنالينا بيربوك مرشحة "حزب الخضر" حملتها الانتخابية تنتقد بشدة خطط "الحزب الديمقراطي المسيحي" و"الحزب الديمقراطي الحر" لخفض الضرائب، مصرةً على أن مقترحاتهما ستترك ألمانيا معاقة حين يتعلق الأمر بالاستثمار في تقنية المناخ والاقتصاد الرقمي والتعليم.
بدوره، تعهد كريستيان ليندنر، رئيس "الحزب الديمقراطي الحر" الذي يريد تولي وزارة المالية ذات السطوة بعدم زيادة الضرائب. صفق له الجمهور إبان حملته الانتخابية حين انتقد الخضر وسماهم "حزب الحظر" ثم سخر من اقتراحهم تقديم دعم مالي لنقل البضائع على دراجات هوائية. كما أعلن ليندنر أمام حشد في دريسدن في 17 سبتمبر: "أن ألمانيا ليست بحاجة لمزيد من سياسات اليسار".
روائي بات سياسياً
كان ليندنر رغم ذلك هو من اقترح ليلة الانتخابات جولة محادثات أولية مع "حزب الخضر"، قائلاً إن الحزبين يمثلان "تجديداً" بعد أن طال أمد حالة الوضع الراهن إبان عهد ميركل. تبنى هذه المبادرة روبيرت هابك الشريك في زعامة "حزب الخضر"، الذي سبق أن شغل منصب وزير الطاقة في ولاية شلسفيغ هولشتاين، حيث ساعد هناك في تشكيل ائتلاف مع الديمقراطيين المسيحيين و"الحزب الديمقراطي الحر".
قال هابك، وهو روائي تحول لسياسي يحاول تصوير نفسه كصاحب فكر معاصر من خارج المشهد السياسي، إن تحالفاً من ثلاثة أحزاب سيتطلب من كل فصيل "أن يجد نفسه" بدل الانضواء تحت رايات الفئات السياسية المألوفة. قال في حديث مع الصحافة: "مرحباً يا ألمانيا، أما تزالين نائمة؟... ربما يأتي جديد والوضع رائع حقاً".
سيعقد الطرفان محادثات استكشافية للتأكد من وجود أرضية مشتركة بما يكفي لعقد مفاوضات، فإن كان ذلك، تبدأ فرق الخبراء برسم أهداف السياسة عبر أسابيع من اجتماعات ربما يغادرها طرف من الأطراف غاضباً معلناً الانسحاب، أو أنها تنتج مع مزيد من الحظ والجهد وحسن النية وثيقة بسماكة كتاب ترسم خريطة برنامج الحكومة العتيدة.
بعهدة ميركل
عندها يجتمع البرلمان للتصويت للمستشار الجديد. صرح شولتس في اليوم التالي للانتخابات قائلاً: "يتعين على الأحزاب أن تفي بتوقعات من صوت لها... عليك أن تجد حلاً يجعل جميع مؤيديك قادرين أن يقولوا أنا سعيد بهذا".
سيبقى أكبر اقتصاد في المنطقة بعهدة أطول سياسيي الكتلة الأوربية خدمةً إلى أن يحدث ذلك، أي تستمر ميركل مستشارة تصريف أعمال. بهذا ستمثل المستشارة الألمانية الوحيدة التي تركت منصبها طواعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الحكومة في اجتماعات مجلس الاتحاد الأوروبي، وربما في قمة "مجموعة العشرين" في روما في نهاية أكتوبر. كما أن هناك زيارة إلى إسرائيل قيد الإعداد، وستخاطب الأمة في الذكرى 21 لإعادة توحيد البلاد بعد سقوط جدار برلين، كما يرجح أن يحضر فريقها محادثات "مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2021" في جلاسكو الاسكتلندية في نوفمبر.
إذا استمرت مفاوضات تشكيل الائتلاف بالفعل حتى الأعياد، فإن الحكومة المقبلة ستمنح ميركل ما يشبه هدية عيد الميلاد، حيث تتخطى في 19 ديسمبر هلموت كول لتصبح المستشار الألماني الأطول خدمةً منذ أوتو فون بسمارك، وهو أول من شغل المنصب إلى أن أجبره القيصر فيلهلم الثاني على الاستقالة في 1890، قبل يوم واحد من بلوغ فترة خدمته 19 عاماً.
حتى لو سارت الأمور أسلس من المتوقع، واستعدت ميركل للتقاعد قبل ديسمبر، فإنها لم تعط أي إشارة تدل على أنها تأسف لقرارها، الذي أعلنته قبل حوالي ثلاث سنوات، بامتناعها عن السعي لولاية خامسة. قالت في مقابلة على الهواء في 8 سبتمبر إنها على الأقل في البداية تخطط "لعدم القيام بأي شيء وانتظار ما يأتي".