بلومبرغ
اعتاد الناس على وقوع أحداث غير اعتيادية في أسواق العملات المشفرة. غير أن شيئاً لم يكن يستطع أن يهيئ "وول ستريت" لاستقبال المشهد الذي استيقظت عليه في الثامن من سبتمبر، عندما فوجئت برئيس بورصة أصول مشفرة قيمتها 50 مليار دولار، يوبخ جهازاً تنظيمياً قوياً في 21 تغريدة من الشتائم. كان برايان أرمسترونغ، الرئيس التنفيذي لشركة "كوين بيس غلوبال" (Coinbase Global)، يتّهم "هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية" بأن "سلوكها مريب"، وأنها تعتمد على "تكتيك الترويع والترهيب" بعد أن منعت شركته فعلاً من طرح منتج جديد يسمح للمستخدمين بإقراض العملة المشفرة بسعر فائدة يبلغ 4%. كان متابعو "فاينانس تويتر" (Finance Twitter) في ذهول ودهشة – إذ لا بد من أن تكون لدى مسؤول في شركة عامة، طريقة أفضل من تلك التي يستفز ويغضب بها هيئة لديها القدرة على دعم أو تدمير صناعته؟
اقرأ أيضاً: تحقيق هيئة الأوراق المالية والبورصات يُغرِّم "شواب" 200 مليون دولار
غير أنه في عالم الأموال المشفرة الذي يتسم بالاستقطاب (نحن ضدهم)، لا حصانة حتى لمراقبي أسواق الأوراق المالية من موجة التعبير العلني عن الغضب. وقد صاحبت تغريدات أرمسترونغ تدوينة كشفت فيها شركة "كوين بيس" أن "هيئة الأوراق المالية والبورصات" (SEC) أرسلت إليها لائحة اتهام – ما يعني أنها قد تتخذ إجراءً قانونياً – وفتحت تحقيقاً رسمياً في المنتج المقترح بشأن تقديم القروض. ويقدم برنامج الإقراض "كوين بيس ليند" (Coinbase Lend) سعراً للفائدة، أعلى من السوق للعملاء الذين يسمحون للشركة باستخدام أرصدتهم المشفرة في تقديم القروض.
اقرأ المزيد: "كوين بيس" للعملات المشفرة تتطلع لجمع 1.5 مليار دولار من طرح سندات
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الأجهزة الرقابية إجراءات صارمة ضد العملات المشفرة: فقد أغلقت تقريباً فترة ازدهار الطرح الأولي للعملات في عام 2018. غير أن ما حدث كان مشاحنة علنية غير اعتيادية مع "هيئة الأوراق المالية والبورصات" بالنسبة إلى شركة تشفير كبيرة وشهيرة – صدام قد يعرقل منتجاً كانت الشركة تأمل في أن يلقى نجاحاً وسط المستثمرين. وقد شهد كذلك أشد تصريحات "هيئة الأوراق المالية والبورصات" لهجة، في ظل رئيسها غاري غنسلر، الذي تولى قيادتها في أبريل، وتعهد بزيادة الضوابط التنظيمية على العملات المشفرة.
يقول ستيفان ووليت، الرئيس التنفيذي لشركة "إف آر إن تي فايننشال" (FRNT Financial)، والذي شارك في تأسيسها كمنصة لأسواق رأس المال تركز على العملات المشفرة: "إن غنسلر، يمكنه إذا أراد ذلك أن يركز عملياً على وضع ضوابط تنظيمية لسوق العملات المشفرة طوال فترة توليه رئاسة الهيئة".
"لقد ردّوا بالقول إن منتج الإقراض ورقة مالية. حسناً، يبدو هذا الأمر غريباً. كيف تكون عملية الإقراض ورقة مالية؟"
إطار قانوني قديم
تعمل "هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية"، التي تأسست خلال فترة الكساد الكبير، في إطار قانوني يعتقد كثير من مناصري التشفير أنه عتيق وقد تجاوزه الزمن. (تشير "كوين بيس" إلى ذلك في نموذج "س-1" (S-1)، وهو نموذج تسجيل تقدمه الشركات قبل طرحها طرحاً عاماً، يقول إن الكثير من القواعد التنظيمية والرقابية وضعت قبل دخول الإنترنت ولا تعالج مسألة التشفير). وتعتقد الهيئة بأن أي ورقة مالية تقع في دائرة اختصاصها.
يرى معلقون أن بعض الجوانب في برنامج شركة "كوين بيس" يمكن أن تجعله خاضعاً لاختصاص "هيئة الأوراق المالية والبورصات". وحتى تتوصل إلى هذا القرار، تعتمد الهيئة على قاعدة قانونية أقرتها المحكمة العليا بالولايات المتحدة في أربعينيات القرن الماضي، تختبر ما إذا كان المنتج يتضمن: "استثماراً لأموال في مؤسسة عامة يتوقع منها تحقيق أرباح يتم استخلاصها من جهود آخرين". واستناداً إلى ما سرده أرمسترونغ من مناقشته مع الهيئة الرقابية، فإن هذا يكفي لأن تقع بورصة العملات المشفرة في شباكها. والتزاماً بالدقة، نقول إنه لا يوافق على النتيجة.
قال أرمسترونغ لمتابعيه الذين يتجاوز عددهم 825 ألفاً: "لقد ردّوا بالقول إن منتج الإقراض ورقة مالية. حسناً، يبدو هذا الأمر غريباً. كيف تكون عملية الإقراض ورقة مالية؟ لذلك نطلب من (هيئة الأوراق المالية والبورصات) أن تساعدنا في أن نفهم ونشاركها الرأي. لكنهم يرفضون الرد علينا". بعض المعارضين على تويتر، حيث تدور معظم الحوارات المتعلقة بالتشفير، سخروا من شتائمه. فشركة "كوين بيس" شركة عامة مدرجة في البورصة ولها سمعة طيبة، ولديها رئيس مسؤول عن شؤونها القانونية هو بول غروال، كان يعمل قبل ذلك محامياً لدى شركة "فيسبوك" وموظفاً في إحدى محاكم الاستئناف في الولايات المتحدة في بداية حياته المهنية. يقول تيم سوانسون، رئيس معلومات السوق لدى شركة "كليرماتيكس" (Clearmatics)، وهي إحدى شركات "البلوك تشين" في لندن: "إن قولهم : (لماذا لا نعرف؟) يبدو كما لو أنهم يتطلعون إلى محكمة الرأي العام كي تساعدهم على الخروج من قاعة المحكمة".
تهديد بالملاحقة القضائية
جاء تهديد "هيئة الأوراق المالية والبورصات" بملاحقة شركة "كوين بيس" قضائياً، بعد شد وجذب بين محامي الشركة والهيئة الرقابية لمدة طويلة، بحسب مصدرين مطلعين على التفاصيل طلبا عدم الكشف عن هويتهما في مناقشة أمور سرية. ومن الشائع أن تجرب الشركات المالية خططاً سرية مع الأجهزة التنظيمية قبل أن تتخذ خطوات للأمام، وغالباً ما تؤدي هذه المباحثات إلى إدخال تعديلات على المنتج حتى تتم الموافقة عليه. وفي هذه الحالة، لم تشر "هيئة الأوراق المالية والبورصات" أبداً إلى ارتياحها إلى خطط "كوين بيس"، بحسب المصادر. ورفض ممثلون عن "هيئة الأوراق المالية والبورصات" وعن شركة "كوين بيس" التعقيب.
بينما كانت تتم مناقشة منتج "كوين بيس لند" وراء الستار، كان غنسلر يتعهد علناً بانتهاج سياسة أعنف تجاه العملات المشفرة. وفي مقابلة مع "بلومبرغ بيزنيس ويك" في يوليو الماضي، قال غنسلر إن المنصات التي تتشارك الأصول قد تتعرض لإلغائها وفقاً لقواعد الهيئة وكذلك تلك التي تقدم خدمات الاقتراض والإقراض للعملات المشفرة. كما أعرب عن قلقه إزاء الشركات التي تروّج للحصول على فائدة بأسعار محددة على أصول مشفرة، قائلاً: "لا يتعلق الأمر هنا فقط بالالتزام بالقانون، وإنما يتعلق بكيفية حماية المستثمرين".
في 14 سبتمبر، وأمام اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ، تحدث غنسلر بعمق في شأن أحد مخاوفه إزاء وجود بورصات مثل بورصة "كوين بيس"، دون أن يناقش برنامج الإقراض "كوين بيس لند" تحديداً. وقال للجنة: "إن العملات المستقرة هي رموز يمكن تحويلها إلى ورقة مالية"، وذلك من دون أن يذكر عملة بعينها. والعملات المستقرة – أو (Stablecoins) – هي عملات مشفرة مربوطة إما بالدولار الأمريكي أو بعملة تقليدية أخرى. وقال عن "كوين بيس" إن هذه البورصة قد يكون عندها "عشرات من العملات المشفرة الي يمكن تحويلها إلى أوراق مالية".
أعمال مصرفية وهمية
قال روبرت هوكيت، الأستاذ في "مدرسة كورنل للقانون" (Cornell Law School)، إن الأجهزة التنظيمية على دراية بحالات الأعمال المصرفية الوهمية، وهي الأنشطة شبه المصرفية التي تنمو باستمرار ومن دون ضابط إلى حد كبير، حتى تبلغ مستوى لا يمكن للمسؤولين تجاهله. وقد حدث ذلك مع صناديق الاستثمار النقدية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وأضاف هوكيت، الذي كان يعمل محامياً لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي لولاية نيويورك: "إننا أمام لعبة القط والفأر بصورة منتظمة، ما تقوله الأجهزة التنظيمية هو: دعونا لا ننتظر أزمة أخرى قبل أن يظهر القط. واسمحوا لنا في هذه المرة أن ندع القط يصطاد الفأر في اللحظة التي يخرج فيها من جحره بدلاً من الانتظار حتى يأكل نصف مخزون المؤن".
لا يعرف أحد شيئاً عن برنامج "كوين بيس لند" بخلاف المنشور على موقعها الإلكتروني (الذي يركز بشكل أساسي على سعر الفائدة السنوي بنسبة 4%)، غير أن المحللين لديهم فكرة عن الطريقة التي قد تعمل بها: يقوم العملاء بإيداع عملة مستقرة "ستيبل كوين" عند "كوين بيس"، التي تقوم بعد ذلك بإعادة إقراض هذه العملات للمؤسسات المشاركة في السوق – مثلاً صناديق التحوط أو بورصات أخرى – التي يمكنها بدورها أن تستخدم هذه العملات في بيع أصول على المكشوف، أو الاستثمار التحوطي، أو كجزء من معاملات مركبة. وفي مقابل ذلك، تقوم هذه المؤسسات المشاركة في السوق بدفع سعر فائدة لبورصة "كوين بيس" أعلى من الذي تمنحه لعملائها، وتربح "كوين بيس" من فروق الفائدة.
إن الحافز الذي يجذب العملاء الذين يملكون "ستيبل كوين" في محافظهم لدى بورصة "كوين بيس" واضح تماماً: سوف تكون محظوظاً إذا وجدت حساب ادخار تقليدياً يدر عليك عائداً يزيد على 0.6% سنوياً. فأسعار الفائدة على الودائع البنكية التقليدية تنخفض غالباً عن 0.5%، بينما يبلغ سعر العائد على سندات الحكومة التي تستحق بعد 10 سنوات نحو 1.30% تقريباً. ويستطيع المستثمرون في العملة المشفرة أن يجدوا أسعار فائدة أعلى على منصات أخرى (سعر الفائدة في سوق الإقراض المباشر على منصات مثل "بيت فينيكس" (Bitfinex) يبلغ نحو 8%)، غير أن مارك بالمر، المحلل لدى شركة "بي تي آي جي" (BTIG)، يقول إن مدفوعات الفائدة تتناسب مع المخاطر المتوقعة على العملة المحددة وكذلك مع سيولتها. ولدى منصة "كوين بيس" 68 مليون مستخدم، كما أنها تقدم عملة دولارية، أي مربوطة بالدولار الأمريكي.
غياب الضمانات
غالبا تتركز مخاوف المعارضين والأجهزة الرقابية على المخاطر التي تتضمنها، ومنها التقلبات الشديدة في أسواق العملات المشفرة وغياب أي ضمانات أو تأمينات ضد الخسائر. (تقول شركة "كوين بيس" إن العملات المشفرة التي يقرضها لها العملاء – أي أصل المبالغ – تكون مضمونة من قبل الشركة). وهي ليست ابتكاراً جديداً تماماً: فشركة "بلوك فاي" (BlockFi)، وشركات تشفير أخرى، تقدّم برامج قروض منذ سنوات. إن القواعد، في نظر جيش أنصار التشفير، لا تتلاءم ببساطة مع آخر الابتكارات.
يقول ماكس شاتسو، شريك لدى شركة القانون "ستارك آند ستارك" (Stark & Stark) التي تمثل المؤسسات المالية: "كثير من الناس يتساءلون عما إذا كان ينبغي لقوانين صدرت في عام 1933 وأحكام قضائية منذ عام 1946، أن تحكم التكنولوجيا الجديدة. غير أن هذا هو واقع الأمور. والقانون هو القانون. والسابقة القضائية سابقة قضائية".
يقول مؤيدو التشفير، ومنهم شركة "كوين بيس"، إنهم يرحّبون بزيادة مشاركة الأجهزة الرقابية والتنظيمية. فرغم كل شيء، إذا كان رئيس "هيئة الأوراق المالية والبورصات" الأمريكية يشغل نفسه تماماً بمجال نشاطهم، فيجب أن يرى بنفسه كيف نمت العملات المشفرة نمواً هائلاً وغيّرت من طبيعة سوق المال. كما أن تطوير إطار تنظيمي وقواعد أوضح لعملها، سوف يسمح لهذا المجال بالتطور، وهذا أمر حاسم ليس بالنسبة إلى شركات التشفير فحسب، بل كذلك بالنسبة إلى الأطراف الأخرى التي قد تشترك في منتج من منتجات القروض.
يقول بالمر من شركة "بي تي آي جي": "عندما يرتطم شخص بجدار للمرة الأولى، تسيل منه الدماء. ولدينا الآن عدد من روّاد الأعمال في فضاء العملة المشفرة الذين يصطدمون بالجدار ويحاولون أن يعبروه إلى الجانب الآخر، حيث يأملون في الرؤية الواضحة".