بلومبرغ
تعدُّ إعادة تصميم ميدان صقلية، أمراً غريباً ومثيراً للاهتمام ضمن قائمة طويلة من مبادرات مدينة ميلانو العامة في إيطاليا خلال فترة الوباء. انتهت المدينة من تشييد الحديقة الصغيرة في غضون أسابيع قليلة خلال الخريف الماضي، وبتكلفة تقديرية بلغت 20 ألف يورو (23.6 ألف دولار).
كانت الساحة عبارة عن ممر طويل على يمين تقاطع شارع فيا سردينيا المزدحم مع أربعة شوارع سكنية، تكتظ كل صباح بالركاب، وبعد الظهر بالآباء الذين يقفون في صف مزدوج لاصطحاب أطفالهم من المدرسة. أما الآن، ومع إجبار السيارات على تحويل مسارها حول الساحة، فقد أصبح أحد كوابيس ميلانو المرورية التي لا تعدُّ ولا تحصى، مكاناً يلعب فيه الأطفال كرة القدم، ويجلس عمال التوصيل على دراجاتهم البخارية في انتظار تلقي المكالمات، في حين يلعب السكان تنس الطاولة في الجهة المقابلة للمباني السكنية.
وبينما الناس في حالة انشغال بالعمل بجد؛ تشهد مشروعات التخطيط الحضري في عصر كوفيد، مثل ساحة صقلية، زخماً كبيراً، إذ تهدف إلى تقليل الازدحام المروري، وتوفير مزيد من الساحات العامة للمقيمين في منازلهم أثناء الوباء، بالتزامن مع اقتراب الانتخابات المقرر إجراؤها في أكتوبر، إذ تستخدم أحزاب يمين الوسط في ميلانو تغييرات نمط الحياة بعد الوباء، لكسب تأييد الجمهور.
اقرأ أيضاً: المسافات المتقاربة فلسفة تطوير مدن المجتمعات الحضرية الجديدة
بناء برج سكني قد يكون أفضل للمناخ من إنشاء حديقة
لم تكن تلك التعديلات التي شهدتها مدينة ميلانو بالقوة نفسها للكثير من الخطط، مثل "مدينة 15 دقيقة" لعمدة باريس آن هيدالغو (التي تهدف إلى إعادة تصميم المدينة حتى يتمكَّن السكان من الحصول على معظم ما يحتاجون إليه في غضون ربع ساعة سيراً على الأقدام)، وخطة الساحات العملاقة في برشلونة، التي تهدف إلى تحويل الطرق بأكملها إلى مساحات مفتوحة. لكن السيارات ما تزال هي من تحدد القواعد في ميلانو.
اقرأ أيضاً: دراسة: الحياة في المدن الكبرى لا تجعلك مكتئباً
كانت التغييرات التي شهدتها المدينة أثناء فترة كوفيد لصالح المشاة مقابل السيارات الأقل وطأة. حتى بعض المشروعات الصغيرة، مثل إنشاء ساحة صقلية، تمَّ تصويرها لبعض الناخبين، وكأنَّ الحكومة تشنّ حرباً على السيارات.
استراتيجية تخطيط حضري
وضعت ميلانو في عام 2015 استراتيجية تخطيط حضري، تهدف إلى عدم اعتماد وسائل النقل على السيارات في ظل الحاجة الملحة إلى توفير مساحات للتنزه، التي تسارعت مع حلول كوفيد-19.
تراهن الحكومة المحلية على أنَّ التدخلات الصغيرة غير المكلفة، مثل ساحة صقلية، يمكن أن تعزز ذلك التحوُّل دون الحاجة إلى مشاريع بنية تحتية كبيرة. ويقول ماركو غرانيلي المسؤول عن التنقل والأشغال العامة في ميلانو، وهو عضو منتخب في مجلس المدينة: "أعطانا كوفيد سبباً قوياً للقول، إنَّه يجب أن نتدخل، وهو ما يدفعنا إلى الإسراع".
يشكِّل "الحزب الديمقراطي" بزعامة غرانيلي، الأغلبية في "ائتلاف يسار الوسط" الحاكم في ميلانو، الذي تولى السلطة عام 2016، واستمر في إدارة المدينة حتى انتشار كوفيد في شمال إيطاليا.
حاز الائتلاف على إشادة دولية لقيامه ببناء 30 "ساحة تكتيكية" بسرعة، مثل ساحة صقلية.
كان ذلك العام الماضي، مع ظهور الأقنعة، ووجود حاجة إلى التخفيف من تداعيات الأزمة، في حين لم يعد الآن يتم النظر إلى مبادرات مثل الساحات التكتيكية على أنَّها استجابة بسيطة للأزمة، وأصبح في العام 2021 يتعين على الحكومات المحلية في ميلانو، والمدن الأخرى امتلاك إرادة بشأن ما تريد القيام به، من إعادة هيكلة لتوزيع المناطق الخضراء في المدينة، والقيام بتجربة مجتمعية رأسية تهدف إلى إبعاد السكان عن السيارات بشكل دائم.
يتعيّن على المسؤولين القيام بذلك بالتزامن مع إعادة انتخابهم، لأنَّ معظم تلك التغييرات قد تستغرق سنوات. لذلك يخاطر حزب غرانيلي بالإقصاء في حالة عدم رضا سكان ميلانو عن النتائج، ومن المحتمل أن يقضي بنفسه على البرنامج.
أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها "إبسوس" منتصف أغسطس، حلول جماعة يمينية معارضة في المرتبة الثانية بعد الائتلاف الحاكم بفارق أربع نقاط فقط.
يخشى السكان من إزالة أماكن وقوف السيارات، وتخفيض حدود السرعة، وأي شيء يجعل القيادة أقل جاذبية
في حين يشكو بعض السياسيين والسائقين في ميلانو من أنَّ المدينة قد نفَّذت الإصلاحات بسرعة كبيرة جداً، نجد في المقابل، وعلى بعد 1200 ميل في الشمال الشرقي، حيث مدينة هلسنكي، قلقاً من تباطؤ الجهود المبذولة لتقليل عدد السيارات في المدينة، ووصف التنفيذ بالبطء الشديد. وتأتي تلك التغييرات مع تزايد الرغبة في الحد من انبعاثات الاحتباس الحراري، جنباً إلى جنب مع الدفع باتجاه تعزيز الكفاءة، وجعل مدينة هلسنكي مكاناً أفضل للعيش فيه. ولكن مع حركة المرور المزدحمة، وإن كان بوتيرة أقل من حركة المرور في ميلانو، يتحرَّك الفنلنديون بشكل أبطأ.
فنلندا والتنقل بالدراجات
وضعت العاصمة الفنلندية هدف زيادة الاعتماد على التنقل بالدراجة من حوالي 9% حالياً، إلى 20% بحلول عام 2035 (في أمستردام الآن 36% ولندن 2%). ومع ذلك، لم يكن النهج التدريجي للوصول إلى ذلك الهدف دائماً اختيارياً، إذ لم تستطع هلسنكي تحقيق هدفها التمويلي لمشروع البنية التحتية لركوب الدراجات إلا في العام الماضي. لكن المدينة تجنَّبت أنواع الصراعات التي تشهدها ميلانو وأماكن أخرى.
بدأت هلسنكي قبل عقد من الزمن في البحث عن أفكار في مدينة كوبنهاغن، جنة راكبي الدراجات في المناطق الحضرية، وذلك في ظل نمو سكان المدينة بما يتراوح بين 5 و8 آلاف سنوياً، مما دفع إلى زيادة الطلب على المساكن والمواصلات التي تربط تلك المنازل ببقية المدينة.
يقول أوسكاري كاوبينماكي، منسق التنقل بالدراجات في المدينة: "كان الأمر يتعلَّق بدمج التنقل بالدراجات بدلاً من بناء بنية تحتية للتنقل بالدراجات في المكان المناسب، إذ يكون هناك متسع لذلك".
مع تقدُّم التحوُّل الذي يعاني من نقص التمويل اللازم، يبدو أنَّ عدم الرضا عن التغييرات يتعلَّق في الغالب بالمعاناة من ذلك التقدُّم، وليس رفضاً للمبداً. فبعد سنوات من بطء تنفيذ البرنامج، فاز حزب العمدة بإعادة انتخابه في يونيو، إذ تمَّ تعيين نائب العمدة المسؤول عن التغييرات بين المرشَّحين الأكثر شعبية لمجلس المدينة.
يسعى صانعو السياسة في جميع أنحاء أوروبا إلى توفير التنقل المجاني الذي حصلت عليه السيارات والسائقون منذ ما يقرب من قرن، فقد أطلقت (وسرَّعت) الحكومات، من أنتويرب إلى زغرب، خططاً لتقليص حركة المرور بشكل كبير، من خلال تطوير البنية التحتية، وسن القوانين الجديدة، وإعادة تصميم المدن بهدف إعطاء أفضلية لوسائل النقل الأخرى. وتمَّ إلغاء أماكن وقوف السيارات، وأضيفت بدلاً منها ممرات للدراجات، حتى وصل الأمر إلى منع السيارات من المرور تماماً في بعض المناطق.
يقول جيل وارن الرئيس التنفيذي لـ "اتحاد راكبي الدراجات الأوروبي": "تستغل المدن فرصة الوباء لتسريع الأمور التي أرادت القيام بها، وربما لم يكن لديها إجماع واسع على القيام بها. يمكن أن يخشى السكان من إزالة أماكن وقوف السيارات، وتخفيض حدود السرعة، وأي شيء يجعل القيادة أقل جاذبية. كما أنَّ إبعاد الأشياء عن الناس يتسبَّب في إزعاجهم بشكل كبير".
برغم ذلك، إذا أتيحت الفرصة، يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تحظى بشعبية كبيرة.
كانت أمستردام تبدو كساحة معركة مزدحمة في السبعينيات. أما الآن، فالمدينة تملك خططاً واسعة للحدِّ من الاعتماد على السيارات، إذ تقوم بإلغاء 11 ألف مكان مخصص لوقوف السيارات. وفي باريس، تمَّت إعادة انتخاب هيدالغو بأغلبية ساحقة بعدما أضافت 30 ميلاً من ممرات الدراجات للمدينة في الربيع السابق، بسرعة ملحوظة. واجه اقتراح بحظر السيارات من وسط بونتيفيدرا في إسبانيا قبل عقدين من الزمن، معارضة قوية، لكن رئيس البلدية الذي نفَّذ الخطة أعيد انتخابه أربع مرات، كما تظهر استطلاعات الرأي عدم رغبة السكان المحليين في العودة إلى الوضع السابق مرة أخرى.
وفي ميلانو، حظيت مشروعات بسيطة، مثل ساحة صقلية، بشعبية على الفور لما تتمتَّع به من ألوان زاهية وتصميمات بسيطة. وتشتهر ميلانو بالأناقة والتاريخ -موطن كل من العشاء الأخير لدافنشي، ونصب "إل أو في إي" لماوريتسيو كاتيلان الذي يبلغ ارتفاعه 36 قدماً، ويظهر إصبع اليد الوسطى مرفوعة أمام مبنى البورصة. لقد أصبحت ميلانو نموذجاً لتحويل المأساة إلى فرصة.
اقرأ أيضاً: متاحف إيطاليا تفتح أبوابها مجدداً للسياح لجمع بيانات عمّا يعجبهم
الساحات التكتيكية
على الرغم من أنَّ الساحات التكتيكية بدأت في الظهور العام الماضي ضمن محاولة تسهيل التباعد الاجتماعي بين سكان المدينة البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة، الذين عانوا من الوباء، إلا أنَّها أصبحت في عام 2021 وسيلة أكثر وضوحاً لإقناع سكان المدينة بأنَّ ميلانو تستطيع أن تتحوَّل. تتمثَّل الاستراتيجية في إقناع السكان بالموافقة على خطط غرانيلي بتعديل طرقهم وإخراجهم من سياراتهم التي ما تزال تسيطر على شوارع ميلانو (وأحياناً أرصفة المدينة أيضاً). برغم كل ذلك، تبقى المدينة موطن سيارات "ألفا روميو" المكشوفة المثيرة. كما يقع مضمار سباق مونزا الأسطوري على بعد 12 ميلاً فقط منها، فيما يعمل صانع الإطارات "بريلي" (Pirelli) من ناطحة سحاب في وسط المدينة.
لكن، لا يمكن التعامل مع ميلانو ببساطة كأنَّها مدينة للسيارات. ففي هذه المدينة تتقابل عربات الترام الرومانسية المزينة بالخشب، وتنطلق من وسط المدينة التاريخي إلى الضواحي. وفيها تأسست "بيانكي" (Bianchi)، أكبر شركة للدراجات في إيطاليا، عام 1885. (صنعت بيانكي السيارات أيضاً لفترة من الوقت، لكنَّها تخلَّت عنها لصالح الدراجات). وهناك حي نافيغيلي المفضَّل للمشاة، حيث المقاهي الملاصقة للقناة، التي عادت لتزدحم بعد السماح بفتح المطاعم مرة أخرى. حتى ساحة لوريتو التي كانت تعاني من اختناق مروري، أصبحت للمشاة. كما أنَّ تلك الساحة التي كان من الصعب في الخمسينيات من القرن الماضي بعد عقد من تعليق جثة الديكتاتور بينيتو موسوليني هناك ليبصق عليها الجميع؛ أصبح المرور منها سيراً بعد أن أصبحت دائرة تتكوَّن من 4 حارات مرورية.
يقول غرانيلي: "التجارب تساعدنا، وتسمح للمواطن بتجنُّب التغيير الفوري من الأبيض إلى الأسود. القليل من التوعية، ومشاركة المواطنين لتحقيق شعار (دعونا نحاول القيام بشيء مستدام) ونجعلهم يدركون الآثار الإيجابية لذلك".
يقع مكتب غرانيلي في أحد المقرات الحكومية التي تستقبل وسائل النقل الحديثة، الذي يعدُّ من المواقع القليلة في ميلانو التي ترحب بالأشخاص الذين يصلون بالدراجة. يتطلَّب كل شيء في مدخل المبنى الطويل المربع، أن تسير خطوات إليه، ولا يتيح الوصول إليه بالسيارة أو باستخدام سيارة أجرة، إذ تمنع الأرصفة العريضة التوجه مباشرة إلى الباب الأمامي للمبنى، في حين يوجد جانب واحد لوقوف الدراجات. يقول غرانيلي، إنَّ مركبته ذات العجلتين مقفلة هناك، دون الإشارة إلى أنَّ بقية الجانب يكون فارغاً في الغالب بسبب قلَّة اعتماد الناس في ميلانو على التنقل بالدراجة.
يدرك غرانيلي أنَّ نجاح استراتيجية زيادة المناطق الحضرية، ستحدِّد ما إذا كانت ستكون لديه وظيفة في غضون أسابيع قليلة. وكذلك تدرك المعارضة ذلك، ولهذا تركِّز بشدة على تلك القضية، إذ يقول أندريا ساكي المرشح لمجلس المدينة عن حزب فراتيلي دي إيطاليا (إخوة إيطاليا) اليميني: "هناك ما يمكن اعتباره حركة خضراء كبيرة، لكنَّها ليست كذلك".
يبدو ساكي، ابن مسؤول سباقات الدراجات البخارية، وكأنَّه عازف غيتار موسيقى روكابيلي، وكاتب لمجلات السيارات الإيطالية، وهو يشير إلى أنَّ غرانيلي ليست لديه خلفية عن التخطيط الحضري -اعتاد رئيس إدارة النقل أن يكون له نشاط اجتماعي– كما يقول ساكي- وهو جالس على مقعد في ساحة صقلية، ويشير باستخفاف إلى الحدائق المليئة بالأشجار الصغيرة- إنَّ أنشطة زيادة المساحات الحضرية التكتيكية باختلاس الأموال العامة. واتهم غرانيلي بإنشاء مربعات صغيرة بتكلفة رخيصة للانتهاء من تعبئة ميزانية المدينة بأموال الإغاثة ضد كوفيد التي تلقتها من الاتحاد الأوروبي.
يشكِّك ساكي في تغير المناخ، ويرى أنَّ عوادم السيارات لا تضر بجودة الهواء في ميلانو. قد يكون ساكي في أي حقبة سياسية أخرى مجرد رجل في منتصف العمر، يرتاد السيارات، ويتذمر من عالم يتحرَّك من دونها. ولكن في العصر الحالي، قد يتمُّ انتخابه، ويكون مسؤولاً عن صياغة سياسة النقل في ميلانو، في ظل الصعود السريع لليمين المتطرف في إيطاليا الذي اكتسبت زعيمته جيورجيا ميلوني شهرة واسعة على خلفية خطابها السياسي الاستفزازي، على غرار ترمب، الذي تستهدف فيه المهاجرين، والأزواج من الجنس نفسه، واليسار الإيطالي.
يتهم ساكي مجلس المدينة اليساري باتباع تلك الإستراتيجية الخاصة بتغيير البنية التحتية أثناء كوفيد، لضمان البقاء في السلطة، إذ يقول: "عليك أن تمنح الناس الحرية في التحرُّك بالطريقة التي يريدون". كما علَّق على ساحة صقلية قائلاً، إنَّها قبيحة جداً، وهو محقٌّ في ذلك.
مساوئ التنفيذ السريع
يتزايد القلق بشأن الساحات التكتيكية بعد مرور عام على افتتاحها، إذ تزدحم ساحة صقلية بالناس بالفعل، لكنَّها تتداعى بسبب استخدامها. فقد تلاشى الطلاء المشرق والسريالي الذي ظهر في الصور على "إنستغرام"، في حين تتأرجح طاولة المنتزه بشكل مزعج، والعشب على طول الطريق إلى سردينيا غير مكتمل أو جذاب، بل يبدو كأنَّه غير طبيعي. ترى الكرات الخاطئة تنطلق من طاولات تنس الطاولة في كثير من الأحيان إلى الشارع، وتعيق حركة المرور، أو ينتهي الأمر بالكرة إلى ظلمة بالوعة الصرف. كذلك يدّعي ساكي أنَّ إعادة تصميم الساحة لم يخفف من قيادة السيارات. فقبل ذلك كان الآباء "يأتون ويوقفون سياراتهم، ويأخذون الأطفال من المدرسة. أما الآن، فمازالوا يأتون بالسيارات، لكنَّهم يقفون في منتصف الشارع".
نجحت الساحة في مجرد الحصول على موطئ قدم، ولكن مع تلاشي تداعيات كوفيد التي دعمت سياسة الساحات التكتيكية، تظهر مساوئ التنفيذ السريع للبرنامج التكتيكي، وعيوب التصميم الصغيرة التي تؤثِّر في أمور عادية، مثل الطريقة التي ترتد بها كرة تنس الطاولة (قلب الطاولة 90 درجة كان سيحل المشكلة إلى حد كبير).
يقول جيرونيمو لا روسا، رئيس "نادي السيارات في ميلانو"، وهو أحد أكبر مجموعات الضغط في إيطاليا: "أنا لست ضد الرؤية، ولكن أرفض أن تكون مثل طالبان، وتفرض عليَّ الأمور. فهذا ليس جيداً بالنسبة إليَّ".
ومع تلاشي تأثيرات كوفيد؛ أعرب بعض المواطنين العاديين عن استيائهم، مما يمثِّل إشارة تثير القلق لغرانيلي. لم يطلب راكبو الدراجات 37 ميلاً من ممرات الدراجات التي تمَّ إنشاؤها أثناء الوباء وسط ضجة كبيرة. وبدلاً من فصل الدراجات عن السيارات، تمَّ إنشاء ممرات بوضع خطوط صغيرة على جانب الشارع، مما يترك راكبي الدراجات معرَّضين لحركة المرور الفوضوية.
يقول أيزوف تيلزا مدير متجر "لا بيسكلاتيريا" (La Bicicletteria) للدراجات الذي يقع على بعد بضعة شوارع من ساحة صقلية: "إنَّهم سيئون حقاً". ويضيف أنَّ المواطنين في ميلانو، يريدون قيادة السيارات. ويقدَّر نمو مبيعات متجره بنحو 10 أضعاف في عام 2020، بعد إنفاق الحكومة الإيطالية أكثر من 215 مليون يورو لدعم الدراجات الهوائية، والدراجات الإلكترونية، والدراجات البخارية الكهربائية. لكنْ كل تلك الدراجات الجديدة ما تزال تعاني من سائقي السيارات العدوانيين في ميلانو.
يحتاج غرانيلي حتى يزيل مخاوف أمثال تيلزا، إلى أن يواجه مهمة صعبة في إقناع بقية ميلانو، بأنَّ الممرات التي تمَّ انشاؤها بشكل طارئ أثناء انتشار كوفيد، تعدُّ جزءاً مهماً من المستقبل. حتى الشارع الواسع أمام متجر تيلزا، ما يزال راكب الدراجة النادر معرضاً للسيارات. ولن يجرؤ أي شخص غير متمكِّن من ركوب الدراجة أن يمضي وسط زحمة السير بعد الظهر، كما أنَّ السماح للأطفال بالانتقال إلى المنزل من المدرسة هناك، يبدو وكأنَّه أمر غير مسؤول إلى حد كبير، وقد يتسبَّب في مأساة. يقول تيلزا: "في بعض الأحيان تريد أن تسأل المصمم كيف توصَّلت إلى هذا؟ هل ركبت دراجة من قبل؟".
صحيح أن هناك ثقافة تقاوم التغيير، لكن علينا أن نجعل المواطنين يفهمون الجوانب الإيجابية للتغيير
أهمية التأييد العام
بدأت هلسنكي طريقها في التحوُّل، وإعادة هيكلة التنقل داخلها منذ أكثر من عقد، واستغرقت 5 سنوات كاملة لدراسة الأمر مع مراعاة حساسية الإسكندنافيين، وسرعة غضب بعضهم قبل حتى إطلاق الخطة. وبعيداً عن استغلال كوفيد كخدعة للإسراع بالتغييرات؛ منح مسؤولو المدينة أنفسهم مزيداً من الوقت لكسب تأييد الناس.
لمسافة ميل ونصف الميل، يستمتع راكبو الدراجات الذين يتجهون إلى وسط المدينة من حي فاليلا الشمالي، بمسارهم الخاص بعرض 8 أقدام، وعلى مستوى منفصل عن طرق السيارات والمشاة. يأخذ الامتداد الجنوبي حارة من السيارات، وتفرض كاميرات المرور لوائح جديدة لا تسمح بمرور السيارات، مما يمنح راكبي الدراجات القدرة على التجول في متاجر السلع المستعملة، وصالونات الحلاقين، ومحلات البقالة في منطقة تتنقل فيها بين الطبقة العاملة والمهاجرة إلى الشباب من الهيبستر.
أشار عثمان شكيل، الذي يمتلك محل جزارة حلال بجانب مسار الدراجات الجديد، إلى أنَّ التغيير أضر بالأعمال التجارية، إذ يقول: "يأتي عدد أقل من الناس، لأنَّهم
لايستطيعون ركن سيارتهم، وهناك أماكن أخرى فيها موقف سيارات جيد، إذ يمكنهم التسوق".
تقول هيني أفينلامبي المدير التنفيذي لجماعة راكبي الدراجات في منطقة هلسنكي، وهي مجموعة مناصرة تضمُّ 1500 عضو، ردَّاً على العديد من الشكاوى مثل شاكيل: "المشكلة أنَّه لا توجد استمرارية لوسط المدينة". فعلى بعد ربع ميل من متجر شكيل شمال الجسر الذي يمثِّل الحدود غير الرسمية مع وسط المدينة، يجب على راكبي الدراجات الانضمام إلى حركة المرور مرة أخرى، لأنَّ الطرق يجب أن تكون أوسع لاستيعاب الحافلات المنعطفة. لذلك تصبح أقل جاذبية وأماناً، وتصيب أي شخص يسعى إلى التنقل بالدراجة بالإحباط.
تدرس المدينة ما إذا كان بإمكانها تمديد المسار إلى الجسر والجنوب، لكن حتى لو كان ذلك ممكناً، فلن يكتمل العمل قبل 3-4 سنوات. يعدُّ ذلك ضرورياً وجزءاً من الخطة، إذ تقول ميريديث غلاسر، المديرة بالإنابة لمعهد ركوب الدراجات الحضرية في جامعة أمستردام: "الاقتصاد، والتصميم، وقوانين استخدام الأراضي، وأنظمة إطفاء الحرائق.. كل هذه الأنظمة الصلبة جداً مترابطة ومبنية على أساس وجود السيارات، ولا يمكنك أن تتوقَّع اقتلاع نظام القرن بين عشية وضحاها".
تقول آني سينيماكي، نائبة رئيس البلدية من حزب الخضر، عندما شرعت المدينة التي يبلغ عدد سكانها 650 ألف نسمة في تغيير نمط التنقل داخلها في عام 2010: "اعتقد الناس أنَّ ركوب الدراجات ليس وسيلة نقل جادة، وقالوا لماذا نحتاج إلى كل هذه البنية التحتية للرجال في الخمسينيات من العمر الذين يرتدون الملابس الرياضية؟".
بدأ مسؤولو المدينة بإجراء استطلاعات لمعرفة سبب تحفيز الناس على ركوب المزيد من الدراجات. وقاموا بمراقبة حركة الدراجات، وتحليل طريقة وأسباب تغيّرها، كما قاموا بحساب العائد على الاستثمار في البنية التحتية لركوب الدراجات (أكثر من 7 إلى 1 في الفوائد الصحية والوقت الذي تم توفيره) في عام 2015 لزيادة نسبة التأييد. وبعد 4 سنوات من الدراسة، نشرت المدينة خطة ركوب الدراجات، التي تمَّ تحديثها في عام 2019.
في النهاية، قد يفيد الأسلوب المنهجي المدافعين مثل أفينلامبي، والمشكِّكين مثل شكيل.
أظهرت دراسة تلو الأخرى أنَّ راكبي الدراجات ينفقون بالفعل في الأعمال التجارية المحلية أكثر من سائقي السيارات، وأنَّ أصحاب الأعمال يبالغون في تقدير نسبة العملاء الذين يعتقدون بأنَّهم يصلون إلى متاجرهم بالسيارة. فعلى طول ميل من مسار الدراجة الذي يمر عبر متجر شكيل، لا توجد مساحة واحدة فارغة للبيع بالتجزئة، حتى بعد أكثر من عام من قيود التباعد الاجتماعي.
قال سينيماكي نائب رئيس البلدية، إنَّ التغييرات كانت أسهل في التنفيذ في هلسنكي مما قد تكون عليه في أي مكان آخر، نظراً إلى استخدام النقل العام على نطاق واسع. كما أنَّ جماعات ضغط راكبي السيارات في فنلندا ليست بالقوة الكافية. فهناك فقط مصنع سيارات واحد في البلاد يعمل فيه أقل من 5000 عامل، في حين يعمل في صناعة السيارات الإيطالية 250 ألف عامل.
اهتمام بكل وسائل النقل
لا يعني الحد من حركة مرور السيارات اعتماد الجميع على الدراجة في ظل الدعم الواسع لوسائل النقل العام، إذ تعد نسبة الرحلات في هلسنكي على الدراجة أقل بكثير مما هي عليه في أمستردام، أو أيضاً كوبنهاغن التي تعتبر منذ فترة طويلة المعيار الذهبي لقابلية ركوب الدراجات في المدن. لكنَّ نسبة الاعتماد على السيارات الخاصة هناك أقل أيضاً من المدينتين الأخريين، إذ يشكِّل النقل العام في هلسنكي الفارق.
لكن، برغم كل ذلك، تبقى مدينة هلسنكي مكاناً يتراوح فيه متوسط درجة الحرارة حول التجمد، وغالباً ما يغطي الثلج الأرض من ديسمبر إلى مارس، برغم محاولات المدينة تحسين الصيانة الشتوية لممرات الدراجات. ويخصص مجلس المدينة 20 مليون يورو فقط من استثمارها السنوي البالغ 200 مليون يورو في مجال النقل عن طريق ركوب الدراجات. ومع ذلك؛ فإنَّ الاعتماد على الدراجات يحظى بدعم الحكومة الوطنية الفنلندية كجزء من أجندة المناخ الخاصة بها.
يبقى لجماعة ضغط أصحاب الأعمال حضور، أو على الأقل لم يتم عزلهم بعيداً، إذ يشكِّك بعضهم في استعداد الفنلنديين للقفز على دراجاتهم بشكل متكرر لشراء البقالة، كما يفعل الدنماركيون والهولنديون، بدلاً من قيادة السيارة إلى السوبرماركت في رحلة تسوق كبيرة كل أسبوع، أو نحو ذلك.
يشير ماركو لاهتينن، مدير "غرفة التجارة في هلسنكي"، إلى أنَّه مع وجود ميناء شحن يعمل في المنطقة التجارية المركزية، لا تستطيع المدينة تحمُّل منع مرور الكثير من السيارات والشاحنات. ويقول: "ندعم الدراجات، لكن الطريق إلى وسط المدينة يجب أن يكون متاحاً. ويجب الاهتمام بجميع أنواع السلاسل اللوجستية، وهذا الأمر لا يتمُّ أخذه في الاعتبار عند وضع قواعد ركوب الدراجات".
إذا أظهرت هلسنكي حكمة التغيير البطيء والمستقر؛ فإنَّ ميلانو تقدِّم مثالاً على مسؤولي المدينة الذين يواجهون عواقب التحرُّك السريع. مع انحسار الوباء، لم يعد لدى غرانيلي رفاهية تبرير زيادة المساحات الحضرية بدلاً من السيارات كاستجابة للأزمة. وكان عليه أن يقنع سكان ميلانو بتقديم نموذج معدَّل من المدن، ويحثهم على إعادة ابتكار مدينتهم على المدى الطويل.
يراهن غرانيلي على أنَّه كلما كان الوضع الجديد لميلانو مستداماً، ويتضمَّن أفكاراً مثل ساحة صقلية، وممرات الدراجات الموسَّعة، وعدداً أقل من السيارات؛ زاد عدد الأشخاص الذين سيدعمون توجهاته، إذ يقول: "صحيح أنَّ هناك ثقافة تقاوم التغيير، لكن علينا أن نجعل المواطنين يفهمون الجوانب الإيجابية للتغيير".
السؤال هو ما إذا كان كوفيد قد غيَّر ميلانو بشكل كافٍ، أو ما إذا كان معارضون مثل ساكي يستطيعون إثارة الإحباط من التحوُّل الذي لم يكتمل بعد.
يعرف غرانيلي أنَّ العديد من الناخبين سوف يستمرون في قيادة سياراتهم إلى صناديق الاقتراع بدلاً من ركوب الدراجات أو المشي. ويقول: "خمس سنوات غير كافية لاكتمال الرؤية التي لدينا".
إنَّه على حق، لكنَّه مستمر لفترة طويلة في مجلس المدينة.