بلومبرغ
في ظل قمع الحكومة الصينية للأيغور في شينجيانغ، وسجنها لدعاة الديمقراطية في هونغ كونغ، وتضييقها على تايوان، قد لا تعتقد بأن على الولايات المتحدة أن تمتن للصين بأي حال من الأحوال.
ولكن، يتوجب علينا إرجاع الفضل لأصحابه، وبالتي ينبغي للأمريكيين الإعراب عن خالص تقديرهم للصين، والسبب في ذلك هو إصلاحها للسياسة الاقتصادية الأمريكية.
أقر مجلس الشيوخ الأمريكي في الثامن من يونيو قانون الابتكار والمنافسة، بأغلبية 68 صوتاً مقابل 32 صوتاً. وشارك في طرح القانون للتصويت زعيم الأغلبية، تشاك شومر، والسيناتور الجمهوري عن ولاية إنديانا، تود يونغ.
يُعرف القانون باسم "قانون الصين"، وقد سمي بذلك لسبب وجيه، حيث كانت الصين مصدر استلهامه الرئيسي، وهو ما جعله ممكناً. ويحاكي التشريع جوانب النموذج الاقتصادي الذي تقوده الدولة الصينية، مع تخصيص 250 مليار دولار لتمويل البحث العلمي، ودعم تصنيع أشباه الموصلات.
من خلال صعودها وسياستها الخارجية العدائية، ومن خلال الخوف والقلق اللذين تثيرهما حولها في واشنطن، استطاعت الصين الجمع بين الديمقراطيين والجمهوريين لاتخاذ إجراء ثنائي سوياً، وهما الطرفان اللذان لا يمكن التوفيق بينهما عادة.
انتقاد صيني وعودة أمريكية
انتقد المسؤولون الصينيون هذا القانون بالطبع، على الرغم من أنهم هم من تسببّوا به، ولو بطريقة غير مباشرة. فقد كان من الحتمي للولايات المتحدة، وغيرها من الدول، أن ترد على الدعم الصيني المكثف للصناعات المتطورة، بما في ذلك دعمها للسيارات الكهربائية، والذكاء الاصطناعي، والرقائق.
وتبنّت هذه الدول برامج حكومية مماثلة هي الأخرى. ولأنها غير قادرة على الضغط على الصينيين لتقليص هذا الدعم السخي -سواء من خلال المحادثات أو من خلال فرض التعريفات الجمركية- قررت الولايات المتحدة اتباع مبدأ انضم إليهم إذا لم تتمكن من التغلب عليهم.
وبينما اعترض متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية على قانون مجلس الشيوخ هذا، معتبراً أنه "يشوه مسار التنمية في الصين"، إلا أنه في الواقع يعدّ إشادة كبيرة بها، وشكّل أيضاً من جهة أخرى تقدماً كبيراً في السياسة الاقتصادية الأمريكية.
نجحت الصين حين فشل العديد من الاقتصاديين وصانعي السياسات، بإقناع واشنطن العاجزة أيديولوجياً، بأن الدولة يمكنها لعب دور إيجابي في التقدم الاقتصادي. وهو أمر لطالما كان السياسيون الأمريكيون يؤمنون به سابقاً. فقد ساهمت أموال دافعي الضرائب في بناء السكك الحديدية العابرة للقارات ونظم الطرق السريعة بين الولايات، وصناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
ولكن منذ ثورة ريغان، سيطر اليقين المطلق بالسوق الحرة على صنع السياسات الاقتصادية في الولايات المتحدة، وتلاشى استثمار الدولة في الاقتصاد. وبإمكان أي شخص يسلك الطريق السريع المتهالك لولاية نيو جيرسي أن يفهم العواقب المترتبة على هذا الموضوع. ومع ذلك، أصرّ العديد من السياسيين على إمكانية حل أي معضلة اقتصادية من خلال تقديم الإعفاءات الضريبية، على الرغم من الأضرار الواضحة للموضوع.
عودة الدولة للاستثمار في الاقتصاد
إن ما تغيّر حالياً، هو عودة الدولة للاستثمار في الاقتصاد. وعلاوة على مشروع قانون مجلس الشيوخ، الذي ستكون محطته التالية مجلس النواب. فقد وضعت خطة الوظائف الأمريكية للرئيس جو بايدن أيضاً تصوراً لحكومة نشطة، مع خطة مشابهة لنظيرتها الصينية كذلك. وخصصت الحكومة أيضاً 174 مليار دولار لإطلاق صناعة السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة. ويأتي ذلك فيما باتت تلك الأهداف النبيلة المدعومة من الدولة تشكل تحولاً مهماً عن الفكر الذي يؤمن بعدم إمكانية الإنسان بالتفوق الفكري على السوق. وبينما قد ينتقد بعض المحافظين المتعصبين تلك التحركات الجديدة. إلا أنه، وبفضل الصين، فإن المد الأيديولوجي بات ينقلب ضدهم.
اقرأ أيضاً: تفاصيل خطة بايدن الضخمة لاستثمارات البنية التحتية
يكشف هذا التحول في سياسة الولايات المتحدة، مدى عمق نفوذ الصين المتزايد في الاقتصاد العالمي. حيث ظهرت قوتها بالفعل في مجالي التجارة والتكنولوجيا. وهي الآن تدخل عالم الأفكار المعقد. وكانت الصين على مدى معظم القرنين الماضيين، قد اقتبست أفكارها من القوى الغربية، وذلك بدءاً من الدساتير وحتى عادات المواعدة.
وبُنيت الصين الحديثة، إلى حد كبير، على الفلسفات الوافدة للماركسية والرأسمالية. وعندما انفتحت على العالم في الثمانينيات وأدخلت إصلاحات السوق الحرة، كان صنّاع السياسة فيها متأثرين بشدة بالاقتصاديين الغربيين والنظرية الاقتصادية.
لكن هذه المرة، يبدو أن التيار الفكري قد بدء في الانعكاس، حيث رفضت إدارة الرئيس شي جين بينغ، بشكل عام، الدعوات إلى تحرير أعمق للسوق، مختاراً سيطرة الدولة بصورة أكبر. في غضون ذلك، راقب صانعو السياسات في جميع أنحاء العالم الصعود الفلكي للصين واكتشفوا أن بكّين قد ابتكرت صيغتها الخاصة لتعزيز الرخاء، وهي صيغة تستحق النسخ. ومن ثم، فإن قانون مجلس الشيوخ الجديد يكون مجرد نتيجة لذلك.
النموذج الآسيوي
على الرغم من أن سياسة الصين قد ذكّرت الولايات المتحدة بأن الإجراءات الحكومية ليست بالضرورة كلها سيئة، إلا أن النموذج الصيني يقدم تحذيرات من الإفراط في استخدام هذه السياسات أيضاً. كما أن المدافعين عن السوق الحرة محقون في إمكانية أن يسبب تدخل الدولة تشويه للاقتصاد، بقدر ما يمكنه تطويره. وعلى الرغم من الانبهار الأمريكي المستمر منذ سبعينيات القرن الماضي، بالسياسات الحكومية للصناعات الآسيوية، إلا أن آثارها النافعة، في كثير من الأحيان كانت مبالغاً فيها.
ففي اليابان، كانت الوزارات الحكومية تنتقي "القطاعات الرابحة" وترعاها بالحماية والتمويل. ويمكن وصف نتائج هذه السياسة، بأنها متفاوتة على أحسن الأحوال، حيث تضم في تاريخها قائمة طويلة من الإخفاقات، كما النجاحات أيضاً. وكذلك هو الحال مع الصين اليوم.
في الثمانينيات، نجح صعود اليابان بإقناع العديد من الخبراء الأمريكيين بأن صانعي السياسة في واشنطن يجب أن يتبنوا سياسات صناعية مماثلة بقيادة الدولة، وأن الشركات اليابانية الأكثر قدرة على المنافسة ستستمر في التغلب على الشركات الأمريكية، حتى تقوم الدولة بذلك. في ذلك الوقت، رفضت واشنطن محاكاة النموذج الياباني، واستناداً إلى المصائر المتباينة للاقتصادين، من الصعب القول إن ذلك لم يكن خياراً حكيماً.
كذلك، تكشف برامج الدولة المكثفة التي تقوم بها الصين، جوانب سلبية خفية للتدخل البيروقراطي في الاقتصاد. ففيما أدى الدعم الحكومي إلى تسريع تطوير بعض الصناعات، مثل الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية. أدى كذلك بفائض من القدرات الهائلة المهدرة والنفايات. كما أنتج هذا الدعم الحكومي شركات غير قادرة على المنافسة. وعلى سبيل المثال، تمخض ولع الصين بالسيارات الكهربائية عن 119 مصنعاً وفقاً لدراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في نوفمبر 2020. وهذا العدد من المصانع، بالطبع هو تكديس غير مستدام.
يمكن إرجاع العديد من المشاكل الاقتصادية الأكثر خطورة في الصين إلى هيمنة الدولة المبالغ فيها. وهذه المشاكل تتنوع من الديون المرتفعة، وانخفاض الإنتاجية، وفقاعات الملكية، والفساد المستشري. ومازال من غير الممكن تقييم المجموعة الحالية من السياسات الصناعية. إذ أنه ليس من الواضح على الإطلاق، ما إذا كانت الجهود المكلفة لابتكار تقنيات متفوقة عالمياً ستنجح. وعلى الرغم من رصد البلاد للكثير من الطاقة والعديد من المليارات، لا تزال الصين تعتمد على الرقائق المستوردة كما فعلت دائماً.
أهداف واسعة
بالنظر إلى كل ذلك، قد يُعد التوجه الأفضل بالنسبة للولايات المتحدة هو تجنب النزوع التكنوقراطي للصين في استهداف صناعات معينة، وشركات ذات رمزية وطنية. بدلاً من ذلك يمكن اللجوء إلى تحديد أهداف واسعة يمكن أن تعيد تشكيل الاقتصاد وتوجيهه.
وفي مقال لمجلة "فورين بوليسي" العام الماضي، أوضح الأمر بشكل جيد، كلٌ من جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الحالي لبايدن، وجينيفر هاريس، زميلة في "معهد روزفلت"، حيث كتبا: "بدلاً من التركيز على انتقاء القطاعات الصناعية الرابحة، هناك إجماع ناشئ على أن تركز الحكومات على المهام واسعة النطاق مثل هبوط الإنسان على سطح القمر، أو تحقيق انبعاثات صفرية، بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد، حيث تتطلب تلك المشاريع ابتكارات عبر العديد من القطاعات المختلفة". وقد صادف أن بايدن احتضن كلا المشروعين.
اقرأ أيضاً: مكاسب بايدن في خطة البنية التحتية ترفع حرارة المعركة الاقتصادية في الكونغرس
أخيراً، ربما ينبغي أن نشكر الصين مرتين، وذلك على إيضاحها للأمريكيين، ليس فقط الفوائد الاقتصادية المحتملة لتدخل الدولة في السياسات الاقتصادية، ولكن إلى مخاطر ذلك أيضاً. وكما كتب لي كلايد بريستويتز، مؤلف كتاب "العالم المقلوب رأساً على عقب: أمريكا والصين والصراع من أجل القيادة العالمية": "الموضوع يدور حول ثقة الصينيين الزائدة في الدولة، وثقة الأمريكيين الضعيفة بها". ويبقى الكثير ليتعلمه كل منهما بعد.