بلومبرغ
تتسم ذاكرة أسواق المال بأنها قصيرة الأمد بشكل مقلق، فالحلم بالمستقبل يُعد قوة أكبر بكثير من الركون إلى الماضي.
ما عليك إلا إلقاء نظرة على ما حدث في سوق العملات المشفرة، حين قدّمت الحكومة الأميركية سام بانكمان فريد، المؤسس المشارك لبورصة "إف تي إكس"، للمحاكمة في دعوى ناجحة، وذلك في إحدى أكبر الجرائم المالية في التاريخ.
واصلت أسعار العملات المشفرة تعافيها القوي من الانهيار الذي شهدته العام الماضي، وذلك عوضاً عن إقبال شديد على البيع وسط أحداث تُذكرنا بقوة بحجم الخطأ في التقدير الذي وقع فيه الجميع خلال فقاعة الأصول الرقمية بشكل عام، وأثناء صعود إمبراطورية بانكمان فريد بشكل خاص.
يعتبر قطاع العملات المشفرة جاهزاً في الواقع لأن يكون أفضل فئات الأصول أداءً في 2023، وذلك في ضوء اتجاه سوق السندات التقليدية نحو ما قد يكون العام الثالث من الخسائر، وهو أمر غير مسبوق، وفيما تتمسك المؤشرات العريضة لسوق الأسهم بعوائد غير مشجعة بعد السوق الهابطة التي شهدها العام الماضي.
ارتفع سعر "بتكوين" هذا العام بأكثر من الضعفين، كما أن بعض العملات المشفرة الأصغر، مثل "سولانا"، أفضل أداء منها.
تدفقات الاستثمارات تعود مجدداً، إذ أضاف المستثمرون 807 ملايين دولار إلى المنتجات المتداولة في البورصة التي تركز على العملات المشفرة على مدى العام الماضي، ليصبح إجمالي أصولهم نحو 10 مليارات دولار، وفقاً لبيانات جمعتها "بلومبرغ".
تشير دلائل على أن الإقراض في السوق يتزايد، إذ يدفع الطلب على اقتراض العملات المشفرة أسعار الفائدة لأكثر من 10% بالنسبة لبعض العملات المستقرة المصممة لتتبع قيمة الدولار الأميركي.
متاعب القطاع لم تنته
رغم ذلك، فإن إدانة بانكمان فريد لا تُنهي مشكلات قطاع العملات المشفرة أمام القضاء بأي حال من الأحوال. وجّه المدعون العامون الأميركيون ذاتهم لدو كوون، المؤسس المشارك لـ"تيرافورم لابس" (Terraform Labs)، تهمة تدبير عملية احتيال مزعومة العام الماضي، محت 60 مليار دولار على الأقل من القيمة السوقية لعملتي "تيرا دولار" (Terra USD) و"لونا" (Luna)، في ما اعتُبر أحد العوامل التي أدت لأزمة بورصة "إف تي إكس".
اقرأ أيضاً: محكمة ترفض خروج عملاق التشفير السابق دو كوون من السجن بكفالة
ألقت السلطات القبض على أليكس ماشينسكي، الرئيس التنفيذي السابق لـ"سلسيوس نتوورك" (Celsius Network)، في يوليو الماضي، ووجهت إليه تهماً في ما يتعلق بما يزعم المدعون أنها "خطة احتيالية" لتضليل العملاء، قبل انهيار شركة إقراض العملات المشفرة بديون تفوق مليار دولار. أصرّ ماشينسكي على أنه بريء من التهم الموجهة إليه.
كما سُجن سو تشو، المؤسس المشارك لصندوق التحوط المفلس "ثري أروز كابيتال" (Three Arrows Capital)، خلال سبتمبر في سنغافورة، إذ ضغط القائمون على التصفية بأقصى قوة ممكنة، بعد أشهر من السجال حول تحديد أماكن أصول الشركة المنهارة.
في تلك الأثناء، تواجه كلّ من "جيميناي تراست" (Gemini Trust)، التابعة للأخوين وينكلفوس، و"جينيسيس غلوبال هولدكو" (Genesis Global Holdco)، التابعة لـ"ديجيتال كارنسي غروب" (Digital Currency Group)، دعاوى قضائية رفعها كل طرف على الآخر، بالإضافة إلى إجراءات قانونية من الهيئات التنظيمية، حول الشراكة القائمة على الإقراض والاقتراض بينهما.
كل ذلك يثير التساؤل التالي: ما الأمر الذي قد يكون إيجابياً في مستقبل هذه السوق بما يطغى على كل هذه السلبيات؟.
دفع تزامن كل هذه القضايا الجنائية وحالات الإفلاس والإجراءات من جانب الهيئات التنظيمية، إلى إثارة الأمل في نفوس الكثيرين في القطاع بأن هذه التطورات في المحاكم ستمثل نهاية عهد الفوضى في قطاع العملات المشفرة، وتؤشر لقدوم مرحلة أكثر نضجاً وأقل فوضوية.
تحول مأمول
تظهر التوقعات لهذا التحول المأمول بشكل واضح في قطاع صناديق المؤشرات المتداولة، التي شهدت هذا العام انضمام عملاقة الاستثمار "بلاك روك" للسباق المزدحم على صندوق متداول للمعاملات الفورية في "بتكوين".
هناك اعتقادات على نطاق واسع أن الموافقة على إنشاء صندوق متداول أو أكثر لـ"بتكوين" وشيكة، وذلك بعد أن ألغت محكمة في أغسطس الماضي، رفض لجنة الأوراق المالية والبورصات لمقترح "غرايسكيل إنفستمنتس" (Grayscale Investments) لتحويل صندوق الاستثمار الخاص بالشركة إلى صندوق متداول.
يعود جانب كبير من صعود "بتكوين" على الأقل هذا العام، إلى آمال بأن إنشاء صندوق متداول سيفتح الباب أمام مصدر جديد للطلب من جانب المستثمرين (والمستشارين الماليين) ممن كانوا يحجمون سابقاً عن التفاعل مع منصات الاستثمار المتخصصة في العملات المشفرة. ورغم وجود العديد من المشككين، فإن إمكانية اعتبار العملات المشفرة أفضل فئات الأصول أداءً، تعني أن الخوف من تفويت الفرص قد بدأ يظهر.
اقرأ أيضاً: بتكوين تخترق 36 ألف دولار وسط آمال بالموافقة على صناديق تداولها
لا يمكن معرفة ما إذا كان تحول قطاع العملات المشفرة إلى حقبة أكثر نضجاً وتقليدية ما بعد "إف تي إكس" مجرد تفكير قائم على التمنيات أم لا، فالوقت وحده كفيل بتحديد ذلك، ولكن هناك علامات على أنه لن يحدث دون بعض الاحتكاكات.
ووجهت لجنة الأوراق المالية والبورصات مذكرة استدعاء لـ"باي بال هولدينغز" (PayPal Holdings) بعد إعلانها عن خطتها لتطوير عملة مستقرة. كما أن "كوين بيس غلوبال" (Coinbase Global) غارقة في صراع يكاد يكون وجودياً مع لجنة الأوراق المالية والبورصات، التي رفعت دعوى قضائية على أكبر البورصات المشفرة الأميركية في يونيو الماضي بسبب مزاعم بإخفاقها في التسجيل لدى الهيئة كشركة وساطة وبورصة وشركة مقاصة.
آمال متضائلة
تتضاءل الآمال بأن المشرعين في الولايات المتحدة سيمررون مشروعات قوانين لتوفير الوضوح القانوني المطلوب بشدة لقطاع العملات المشفرة، نظراً للاختلال الواضح في الكونغرس.
وحتى لو حدث ذلك، فليست هناك قائمة طويلة بالأمثلة التي تشير إلى أن الحكومات تحول دون حدوث فقاعات الأصول المالية أو دورات الركود الصعبة التي تليها حتماً.
في جميع الأحوال، فإن السوق تتولى هذه المهمة عادةً وفقاً لتوقيتاتها الخاصة، بما في ذلك خسارة العملات المشفرة تريليوني دولار من قيمتها العام الماضي، وهو ما أدى لانهيار إمبراطورية "إف تي إكس" التابعة لبانكمان فريد.
اقرأ أيضاً: كيف تغيرت صناعة التشفير بعد عام من انهيار "إف تي إكس"؟
كتب إريك فورهيس، أحد أوائل أنصار العملات المشفرة، على منصة "إكس" بعد أن أدانت هيئة المحلفين بانكمان فريد: "دعونا نتذكر أن (بانكمان فريد) أدار البورصة الآمنة التي خضعت لضوابط، ولم تفضح أي هيئة تنظيمية أمره. بل كان الفاعل هو السوق، التي ليست نبعاً ضخماً للابتكار فحسب، بل أيضاً أفضل جهة قائمة على تحقيق الانضباط والعدالة".
وفيما يجلس بانكمان فريد في زنزانة داخل سجن في بروكلين بنيويورك، منتظراً أن يعرف عدد السنوات التي سيقضيها خلف القضبان، لديه من الوقت ما يكفي للتحسر على إخفاقاته في طموحه القديم سعياً إلى "الإيثار الفعّال"، وهي فلسفة تحفز على كسب مليارات الدولارات في قطاع العملات المشفرة لكي يتمكن يوماً ما من التبرع بهذه المبالغ كلها لصالح قضايا من شأنها أن تجعل العالم مكاناً أفضل.
يجدر به ألا يقسو على نفسه بشدة، إذ ربما كان نسف عصر الفوضى في قطاع العملات المشفرة هو أبلغ ما كان بوسعه أن يفعله على الإطلاق تحقيقاً للإيثار الفعّال.