بلومبرغ
إن حكاية مصرف "مونتي دي باسكي دي سيينا" (Banca Monte dei Paschi di Siena) تصلح لأن تكون أطول مسلسل درامي في قطاع التمويل الإيطالي. تعود جذور البنك العريق إلى 1472، حيث أسس بدايةً كممول للنشاط الزراعي والتجاري في جمهورية سيينا، ثم توسع لاحقاً إلى شتى أنحاء شبه الجزيرة.
لننظر كيف كان حاله بعد بضعة قرون، لقد أصبح "باسكي دي" أحد أكبر بنوك إيطاليا بحلول الوقت الذي مهد فيه التوسع الطموح قبل الأزمة المالية لعام 2008 المسرح المالي لمأساة. انخرط كبار مديريه في مشاكل من شأنها إغراقهم في سنوات من الإجراءات القانونية مع معاناة "باسكي" من خسائر بالمليارات في صفقات باهظة، واستحوذت الدولة على حصة مسيطرة في البنك في 2017.
حالياً، تهدف الحكومة الإيطالية إلى كتابة نهاية جديدة لملحمة "باسكي" عبر دمجه مع أحد منافسيه، وهي صفقة من شأنها أن تتمخض عن ثالث أكبر مصرف في البلاد، فضلاً عن تأمين حقوق التفاخر لرئيسة الوزراء جورجا ميلوني لكونها تمكنت من حل مشكلة لا تلوح لها نهاية في الأفق، بينما فشل عدد من أسلافها في تحقيق ذلك.
غير أن تلك الخطة ينقصها تفصيل مهم واحد فقط هو: من سيشتريه؟
التزام بالخصخصة
لا تتمتع الحكومة بسلطة رسمية لإجبار أي مقرض آخر على شراء حصتها البالغة 64% في "باسكي". رغم أن البنك يبدو في وضع مستقر الآن، إلا أن ماضيه المثقل بالفضائح وإهلاكه ما قدره 18 مليار يورو (19 مليار دولار) من أموال جديدة ضخت فيه خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، كلها أمور تصعب بيعه.
قال ماسيميليانو رومانو، الشريك في شركة "كونسينتريك" (Concentric) للاستشارات: "لا أرى مجالاً لبيع (مونتي باسكي) في المدى القريب. البيئة الاقتصادية تتدهور، وهناك عدد قليل من النظراء الذين يستطيعون تحمل تكاليف صفقة نقدية بالكامل".
علقت إدارة ميلوني آمالها على المنافسين من نفس الحجم، حيث ستُبقي خطة البيع "باسكي"ـ الذي يمكن اعتباره أقدم بنك في العالم ـ تحت مظلة الملكية المحلية مع الامتثال للهيئات الناظمة في الاتحاد الأوروبي التي سمحت بالتأميم بشرط إعادة خصخصة البنك الإيطالي، محددةً سقفاً زمنياً مبدئياً لتحقيق ذلك هو 2021، لكنها مددته حتى 2024.
أصبح مصرف "باسكي" في حال أفضل كثيراً مقارنةً بما كان عليه قبل بضع سنوات. كانت عوامل مثل إرساء استراتيجية الإصلاح بقيادة الرئيس التنفيذي لويجي لوفاليو، وتعاظم العائدات الناجمة عن الإقراض على خلفية الزيادات في أسعار الفائدة؛ قد وضعت البنك على المسار الصحيح لتحقيق أرباح سنوية تجاوزت مليار يورو لأول مرة منذ 2007.
قال فيليبو ألواتي، رئيس قطاع التمويل في شركة "فيدراتيد هيرميس" (Federated Hermes) للاستثمار ومقرها لندن: "لم تشب تنفيذ عملية التحول شائبة. لقد حان الوقت للدفع من أجل إعادة الخصخصة".
كخطوة انتقالية، تخطط الحكومة لطرح ما يصل إلى 15% من أسهم "باسكي" للاكتتاب في نطاق ضيق وتسعى للاستعانة بمستشارين لإتمام عملية البيع، وفقاً لأشخاص على دراية بالموضوع طلبوا عدم كشف هوياتهم لكونهم يناقشون مفاوضات سرية. أضاف الأشخاص المطلعون أن من شأن تلك الخطوة توفير وقت للحكومة وإظهار التزامها بالامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي، فيما تجعل الحصة المتبقية أقل تكلفة بالنسبة لأي شريك محتمل.
مخاوف الشراة
تتلخص قائمة المستحوذين المحتملين وفق رؤية الحكومة الإيطالية في مصرفين، ولا يبدو أنّ أياً منهما حريص على إقامة شراكة مع "باسكي". حرص أولهما، وهو مصرف "بي بي إم" (BPM) في ميلانو، على صياغة بيان يعرب فيه عن عدم اهتمامه بأي استحواذات فور بروز تكهنات حول شراكة محتملة مع نظيره الإيطالي.
رجح فينشنزو لونغو، الخبير الاستراتيجي في شركة "أي جي ماركتس" (IG Markets) لاستشارات وخدمات التداول، أن ذلك يرجع، جزئياً على الأقل، لشعور القائمين على إدارة "بانكو بي بي إم" بالقلق حيال تراجع سعر سهم ثالث أكبر تكتل مصرفي للأفراد والشركات في إيطاليا لدى ارتباطه بمصرف "باسكي" الذي عصفت به الاضطرابات فيما مضى. قال لونغو: "ما يزال (باسكي) يحمل وصمة عار. لذلك، قد ينزعج المساهمون إذا اعتقدوا أن البنك يدرس إبرام صفقة الاستحواذ".
لم يعلن المرشح الآخر، وهو مصرف "بي بي إي أر" (BPER) في مودينا، ما إذا كان يُحتمل أن يتقدم بعرض للاستحواذ على الحصة المعتزم طرحها للبيع، لكنه مازال يتعامل مع العملية المعقدة التي خاضها للاندماج مع مصرف "كاريجه" (Carige) العام الماضي.
كانت "يونيبول غروبو" (Unipol Gruppo)، وهي المستثمر الرئيسي في البنك سالف الذكر، قد ضاعفت حصتها في بنك "بوبولاري دي سوندريو" (Popolare di Sondrio)، ما زاد من التكهنات حول أن الأخير هو هدف "بي بي إي أر" التالي للاستحواذ وليس "باسكي". مع ذلك، رفضت "يونيبول غروبو" ومصرف "بي بي إي أر" التعليق على الموضوع.
الموعد النهائي
سيجد أي من المرشحين صعوبة في دفع تكلفة شراء "باسكي" نقداً بالكامل. غير أن البديل المتمثل في مبادلة بعض أسهم الشاري بأسهم في البنك المراد خصخصته من شأنه أن يحول الحكومة إلى مالك في المصرف الذي سيستحوذ عليه. منطقياً، لا يرجح أن يرحب أي من المصرفين بأن تصبح الدولة مالكةً لحصةٍ فيه، وبما أنها ستظل مالكةً لجزء من "باسكي" فعلياً؛ فإن مثل هذه الصفقة من شأنها أن تخاطر بانتهاك تعهد الحكومة بالتخارج وخصخصة البنك.
كانت خطة حكومية لدمج "باسكي" مع بنك آخر قد انتهت قبل عامين بإحراج رئيس الوزراء آنذاك، ماريو دراغي، عندما انسحب بنك "يوني كريديت" (UniCredit) من المفاوضات. تملك البنوك الأجنبية، التي لديها عمليات كبيرة في إيطاليا مثل "بي إن بي باريبا" و"كريدي أجريكول"، كثيراً من النقد في متناولها وربما يمكنها تحمل تكاليف الاستحواذ. غير أن بيع مصرف مهم مثل "باسكي" لمقرض أجنبي يبدو أنه يتعارض مع الميول القومية للحكومة الحالية.
بادرت الحكومة لإنقاذ المصرف الأقدم عالمياً لأول مرة في 2009، بعد اتفاقٍ توقيته كان كارثياً دفعه إلى حالة من الفوضى إثر اندلاع الأزمة المالية. في العقد التالي، تكبد "باسكي" خسائر تجاوزت 20 مليار يورو، عندما استنفد الأموال النقدية التي ظل المساهمون ودافعو الضرائب يجرفونها نحوه عبر جولات تمويل مختلفة.
أُدين مديرو "باسكي" بالتواطؤ مع مصرفيين من "دويتشه بنك" و"نومورا هولدينغز" في 2019 بتهمة إخفاء الخسائر عبر عمليات معقدة لتداول المشتقات المالية، لكن المحكمة قضت ببراءتهم العام الماضي مع صدور حكم محكمة الاستئناف بأنه ما من أساس للمحاكمة. وقد تقدم المدعون باستئناف ضد حكم البراءة.
لا يسهّل الموعد النهائي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي الأمور، إذ قد يفضل المشترون المحتملون الانتظار حتى اقترابه، ما يزيد يأس الحكومة من إبرام صفقة والسماح للشاري بالحصول على شروط محابية.
قال فرانشيسكو غاليتي، مؤسس شركة "بوليسي سونار" (Policy Sonar) لاستشارات المخاطر السياسية في روما: "يبدو الأمر وكأنه معاناة شديدة... مع مرور الوقت، ستحتاج الحكومة إلى مواصلة العمل على جعل العرض أكثر جاذبية إذا كانت تأمل في إتمام عملية البيع".