بلومبرغ
استهل رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون زيارته الرسمية إلى واشنطن في ديسمبر بالتذمر، فقد قال إن القضاء على جزء كبير من قطاع الصناعة في أوروبا ليس من صالحالولايات المتحدة. كما حذّر رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، الذي زار البيت الأبيض في 26 أبريل، من اتساع "حرب اقتصادية" يسعرّها الدعم الحكومي والامتيازات الضريبية التي قد تسبب أوضاعاً أسوأ في جميع الدول.
أعرب الرئيسان عن قلقهما إزاء التداعيات الدولية لتنافس الولايات المتحدة مع الصين، وتجاه سياسات الرئيس جو بايدن التي ترفع شعار "صنع في أميركا". كوريا الجنوبية ودول أوروبا، شريكات الولايات المتحدة في التجارة وكذلك الأمن، من بين أكثر البلدان عرضة للتأثر ببرنامج إدارة بايدن ثنائي الهدف الذي يدعم القطاعات الصناعية الاستراتيجية مثل السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، فيما يسعى لإعاقة جهود الصين للتقدم في المجالات نفسها لأغراض عسكرية.
استعراض القوة
تغيّر السياسة الصناعية القائمة على استعراض القوة، التي انتهجها الولايات المتحدة أخيراً، شكل سلاسل الإمداد العالمية، إذ تتيح قوانين وافق عليها الكونغرس الأميركي العام الماضي ما مجمله نحو 420 مليار دولار من التمويل لتحفيز إنتاج الرقائق محلياً ودفع تقنية الطاقة النظيفة.
إن أضفنا إلى ذلك مشروع قانون البنية التحتية الذي أقره بايدن في 2021، وهو يقضي بأن يُصنع كل الحديد والصلب ومواد البناء الأخرى المستخدمة في مشروعات الأشغال العامة الأميركية على أرض الولايات المتحدة، سنجد أن هناك تمويلاً اتحادياً قدره زهاء تريليوني دولار على مدى العقد المقبل.
أحد تأثيرات كل هذه السيولة المتدفقة، سواء عمداً أو غير ذلك، هو أن نشاط الشركات الأجنبية ينجذب إلى الولايات المتحدة للاستفادة من التمويل المتاح بموجب قانون الرقائق والعلوم وقانون خفض التضخم. على سبيل المثال، قالت صانعة البطاريات السويدية "نورث فولت" (Northvolt) إنها تعطي أولوية أكبر للتوسع في الولايات المتحدة منها في أوروبا.
مسار استثمارات الشركات يتحول
كانت صانعة السيارات الألمانية "فولكس واجن" قد قررت في مارس بناء مصنع بقيمة ملياري دولار لعلامتها التجارية الجديدة للمركبات الكهربائية "سكاوت" (Scout) في ولاية كارولينا الجنوبية، إذ وصفت الحوافز المُقدمة بأنها تشبه "حمى الذهب".
تَحوُّل مسار استثمارات الشركات هو أحد تبعات جهود إدارة بايدن لدمج السياسات المحلية والأجنبية في ما وصفه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، بأنه "استراتيجية حديثة للتصنيع والابتكار" تخلق وظائف داخل البلاد وتؤشر إلى قوة الولايات المتحدة في الخارج.
واشنطن على استعداد لانتهاج سياسة العصا والجزرة واستخدام شقيها على حد سواء لتحقيق تلك الأهداف. وصف سوليفان القيود على الصادرات بأنها "إحدى الأدوات الاستراتيجية الجديدة" لفرض تكاليف على المنافسين تحت مسمى الأمن القومي.
هدنة لكوريا الجنوبية
قد يضرب ذلك كوريا الجنوبية، التي تمثل الصين أكبر شركائها التجاريين، على جبهتين على الأقل. حصلت شركات بينها أكبر صانعتي رقائق ذاكرة في العالم وهما "سامسونغ إلكترونيكس" و"إس كيه هاينكس" (SK Hynix)، على استثناء لعام واحد من قيود الصادرات الأميركية على إمداد الصين بتقنية متقدمة في أشباه الموصلات، ولم يتضح بعد ما الذي سيحدث حين تنقضي مهلتهما في أكتوبر.
أعربت سيئول أيضاً عن مخاوف بأن تُفرض عقوبات بموجب قانون خفض التضخم على"هيونداي" وما سواها من شركات صناعة السيارات الكورية الجنوبية، وذلك لأنها لا تصنع مركبات كهربائية في الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن طرازات هذه الشركات ليست مؤهلة للخصم الضريبي الذي تقدمه الحكومة الاتحادية على مشتريات المركبات الكهربائية.
شارك رئيسا "سامسونغ" و"هيونداي موتور" التنفيذيين في وفد ضخم من قادة الشركات صاحب الرئيس يون في زيارته لواشنطن.
رغم أن يون كان قد حذّر من أن السباق العالمي لبناء منشآت صناعية متطورة قد قلب سلاسل الإمداد رأساً على عقب لأن جميع الدول لا تألو جهداً لاجتذاب الصناعة، فقد أعلن عزم كوريا الجنوبية خوض التجربة بخطة استثمارية يبلغ حجمها 550 تريليون وون (413 مليار دولار).
تركز الخطة على شراكات بين شركات عامة وخاصة في مجالات تصنيع الرقائق والبطاريات والروبوتات والمركبات الكهربائية والشاشات والتقنية الحيوية وغيرها.
خيارات محدودة
حكومة سيئول ليست الوحيدة التي تواجه هذه المعضلة، إذ إن حكومات الدول، من هولندا إلى اليابان، ليس أمامها سوى الإذعان لرغبة واشنطن أو أن تأتي بسياسات مشابهة. وافق الاتحاد الأوروبي في 18 أبريل على مشروع قانون يفتح مجال التمويل الحكومي بقيمة 43 مليار يورو (47.2 مليار دولار) أمام شركات مثل "إيه إس إم إل هولدينغ"، وهي صانعة هولندية لمعدات تصنيع الرقائق تقلّصت صادراتها إلى الصين بطلب من الولايات المتحدة.
كما يجهز الاتحاد الأوروبي حزماً ضخمةً من الدعم للتصدي لتأثير قانون خفض التضخم، الذي يقدم ما يقرب من 370 مليار دولار على هيئة تمويل لمساعدة إدارة بايدن على تحقيق أهداف المناخ.
في كندا، عرضت حكومة رئيس الوزراء جاستن ترودو حوافز بقيمة 13 مليار دولار كندي (9.5 مليار دولار أميركي) على مدى عقد لاقتناص صفقة لبناء مصنع بطاريات لـ"فولكس واجن" كانت ربما لتكون من نصيب الولايات المتحدة.
أما في اليابان، فقد أعلنت شركة "تايوان سيميكوندكتور مانوفاكتشورينغ" (Taiwan Semiconductor Manufacturing )، وهي صانعة الرقائق المتقدمة الرئيسية في العالم، أنها تأمل بتغطية الحكومة لنحو نصف تكاليف بناء مصنع جديد لتصنيع أشباه الموصلات قيد الإنشاء في إقليم كوماموتو وقدرها 8 مليارات دولار.
قال وونهو يون من المعهد الكوري للسياسات الاقتصادية الدولية خلال ندوة نظمها مركز "ويلسون" بواشنطن في 18 أبريل احتفاءً بزيارة رئيس كوريا الجنوبية، إنه رغم استعداد سيئول لمجاراة الولايات المتحدة فيما يتعلق بشؤون الأمن القومي، ما تزال الشركات الخاصة في كوريا الجنوبية تشعر بـقلق بالغ تجاه ما يعتبره البعض عناصر "تمييزية" في سياسات بايدن.
جهود صينية
تُضاعف الصين جهودها لتطوير قطاع صناعة الرقائق في وجه ما يسميه الرئيس الصيني شي جين بينغ محاولات "الاحتواء" التي تقوم بها الولايات المتحدة. شجع "شي" شركات التقنية الصينية أخيراً وقال إن الابتكار عنصر رئيسي لتحقيق "مستوى عالٍ من الاعتماد على الذات في مجال التقنية".
خلال الندوة نفسها التي عقدت في 18 أبريل، قالت مييون أوه، مديرة قسم الدراسات الكورية بكلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، إن مع انخراط كل من الصين والولايات المتحدة في "هذا الشكل الجديد من الحنكة في السياسات الاقتصادية"، تواجه الأطراف الخارجية "معضلة في الحفاظ على التوازن بين السياسة المحلية والسياسات الأجنبية. أضافت أن "الاحتكاك" بين الحلفاء، بما فيه المتعلق بقانون خفض التضخم، يجب أن يُنظر إليها باعتبارها جزءاً من "عملية تعلم".
نظراً للسيولة الكبيرة التي تتمتع بها دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، تستطيع هذه البلدان تحقيق إنجاز في مضاهاة الولايات المتحدة إلى حد ما. لكن غيرها من الدول ليس بمقدورها ذلك. المملكة المتحدة مثلاً، باقتصادها المتعثر، تملك قدراً محدوداً من التمويل الجديد رداً على قانون خفض التضخم.
نهج لا طائل منه
في نقد مسهب لسياسات بايدن في قطاع الصناعة نشرته مجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy)، وصف آدم بوزن، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، هذا النهج بأنه "لا طائل منه" في نهاية المطاف، وذلك لأنه مبني على "أربعة مغالطات تحليلية عميقة، وهي أن السعي لمنفعة ذاتية من الذكاء وأن الاكتفاء الذاتي يمكن تحقيقه وأن زيادة الدعم الحكومي أمر جيد وأن الإنتاج المحلي هو جلّ ما يهم".
هناك علامات على تعديل إدارة بايدن لسياساتها للتعامل مع بعض المخاوف التي أثارها حلفاؤها. لقد عقدت واشنطن وطوكيو صفقة في مارس تسمح للمعادن شديدة الأهمية المستخرجة من اليابان بالتأهل للدعم الذي يقدمه قانون خفض التضخم، رغم عدم وجود اتفاقية تجارة حرة بين البلدين.
كما انخرط الاتحاد الأوروبي، الذي خفف من حدة النقد الذي وجّهه في البداية، في محادثات للتوصل إلى اتفاق مشابه. (للتأهل من أجل الحصول على الحوافز التي يقدمها قانون خفض التضخم، لا ينبغي لشركات صناعة السيارات بناء مركباتها الكهربائية في الولايات المتحدة فحسب، بل إنها أيضاً في حاجة للتصديق على أن المكونات ذات منشأ أميركي أو من شركاء ملتزمين باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة).
تيسيرات إدارة بايدن
في علامة أخرى تشير لسعي إدارة بايدن للتيسير، أُضيفت ثغرة في قانون خفض التضخم تسمح لشركة "هيونداي" بالحصول على كامل الدعم الأميركي للمركبات الكهربائية في قطاع التأجير قصير وطويل الأمد، الذي يمثل سوقاً يفوق حجمها 25% من مبيعات الشركة في الولايات المتحدة.
قدّمت "سامسونغ" خطاب نوايا للاستفادة من دعم للرقائق من أجل مصنع متطور تبنيه الشركة في تكساس وتزمع أن تبدأ الإنتاج منه العام المقبل، حسب تقرير لصحيفة "دونغ-إيه إيلبو" (Dong-A Ilbo) في 19 أبريل.
يرى يون بالتأكيد مفارقة في أن كوريا الجنوبية كانت تُعتبر الدولة الأكثر عرضة للتأثر بمخطط الرئيس شي الشامل للقطاع الصناعي في الصين بعد كشف النقاب عنه في 2015. كشفت النسخة الأولية من الخطة، المسماة "صنع في الصين 2025"، عن طموحات بكين لتكون رائدة العالم في 10 قطاعات ذات توجهات مستقبلية، منها علم الروبوتات وصناعة الأدوية والطيران. ساهم تركيز الخطة على "الاكتفاء الذاتي" في تدهور علاقات الصين مع الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا.
تنطوي الاستراتيجية الأميركية التي قدمها سوليفان على أصداء من الخطة الصينية، إذ تقدم أهدافاً للحفاظ على ريادة الولايات المتحدة في 3 من مجالات "مضاعف القوة" وهي الحوسبة، بما فيها الرقائق والذكاء الاصطناعي، والتقنية النظيفة، إلى جانب التقنية الحيوية والتصنيع الحيوي وهما على الأرجح نقطتا تركيز الإدارة الأميركية التاليتين. لكن الخطر هو أن الاستراتيجية تنطوي على قدر مشابه من اقضاء الأطراف الأخرى.
يروج بايدن للوظائف الجديدة في سوق العمل الأميركي على أنها نتاج هذه السياسات، فيما تستعد حملته للفوز بفترة رئاسة ثانية في انتخابات العام المقبل. فلنطلق عليها شعار "صنع في أميركا 2024".