بلومبرغ
ليست الإنجازات بمجال تطوير الأدوية في الفضاء من أبرز بديهيات ما يُعد به عصر الفضاء الحديث.
تتصرف الذرات والجزيئات بشكل مختلف حين تُحيد ضغوط الجاذبية، وقد ناقش الباحثون لفترة طويلة صنع أدوية ومواد كيميائية في مدار أرضي منخفض.
قامت شركات أدوية كبيرة عدداً محدوداً من هذه التجارب، فقد استعانت "ميرك أند كو" (Merck & Co) بمحطة الفضاء الدولية لتحسين وصفة لعلاج السرطان وهو عقار "كايترودا" (Keytruda)، منتجها الأكثر مبيعاً، وقد تجاوزت مبيعاته السنوية 20 مليار دولار.
لكن تكلفة العمل في محطة الفضاء الدولية باهظة، وغالباً ما يُحجم روّاد الفضاء عن تخصيص وقت في جدولهم للتعامل مع مواد كيميائية قد تكون خطرة في مكان محصور كذلك.
جعل ظهور صناعة الفضاء التجارية الوصول إليه أسهل وأرخص، وتراهن شركة ناشئة هي "فاردا سبيس إندستريز" (Varda Space Industries) مقرها قرب لوس أنجلوس على أن عصر مختبرات الأدوية الفضائية قد حان أخيراً.
لقد طوّرت الشركة مختبراً آلياً للأدوية يناسب حجمه ما تتيحه كبسولة فضائية عرض أوسع أجزائها نحو 90 سنتميتراً، وتبدو كنسخة مصغرة من المركبة المخروطية التي يعود فيها البشر من محطة الفضاء الدولية.
مساعدة الروبوتات
تخطط "فاردا" لاستخدام الروبوتات لخلط وتسخين وتبريد المركبات الكيميائية المناسبة لتطوير الأدوية، التي ستُحول بعدها إلى مكونات صلبة قبل إعادتها إلى الأرض، وتأمل أن تكون بمثابة أساس لصنع دفعات لمنتجات صيدلانية جديدة في مصانع تقليدية على نطاق صناعي.
بين المنتجات التي يُرجّح أن تعمل عليها بهذا المنهج علاجات جديدة للسرطان، فضلاً عن علاجات لمرض السكري والآلام المزمنة.
قال ويل بروي، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "فاردا": "بنينا طريقة فريدة للتعامل مع الأنظمة الكيميائية... وأغلاها على وجه الأرض هي الأدوية. كنا نعلم أن صنعها في الفضاء كان ما يقتل الجاذبية الصغرى".
تزمع الشركة إطلاق أول كبسولة صنعتها على متن صاروخ من شركة "سبيس إكسبلوريشن تكنولوجيز" (Space Exploration Technologies) في يونيو، إلى جانب عشرات الأقمار الصناعية التابعة لشركات ناشئة أخرى ترغب بدفع نحو 275 ألف دولار لكل 50 كيلوغراماً من المواد التي تريد نقلها إلى الفضاء.
هدف رحلة "فاردا" الأولى هو التأكد من أن آليتها الروبوتية وتقنيتها الكيميائية تعملان كما هو متوقع، وأن الكبسولة يمكنها البقاء سليمة عند العودة إلى الغلاف الجوي للأرض والهبوط عبر المظلة في صحراء يوتاه. حجزت الشركة بالفعل رحلات جوية مستقبلية لإطلاق مزيد من كبسولاتها، حيث تأمل بأن تبدأ بإنتاج المركّبات.
جمعت "فاردا" 53 مليون دولار من مستثمرين، بينهم شركات "كافينيتد كابيتال" (Caffeinated Capital) و"فيفتي ييرز إندستريز" (Fifty Years Industries) و"فاوندرز فند (Founders Fund) و"كوسلا فنشرز" (Khosla Ventures) و"لوكس كابيتال" (Lux Capital).
كما أنها مرتبطة بعقد قيمته 60 مليون دولار مع القوات الجوية الأميركية ووكالة "ناسا" لدراسة عودة كبسولاتها إلى الغلاف الجوي للأرض، وهو ما يُتوقع أن يكون بأكثر من 25 ضعف سرعة الصوت. ما يُسمى بالرحلة فوق الصوتية هي مجال منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، ومركبات "فاردا" جذابة للتجارب، لأنها لا تحمل بشراً على عكس عديد من الكبسولات العائدة إلى الأرض.
مع ذلك، تتسق الجهود الحكومية مع مهمة "فاردا". فالفرصة الحقيقية تكمن في الإنجازات بمجال الأدوية التي تعطّل تطويرها على الأرض. قد يتبلور عديد من الأدوية الواعدة عند تخزينها، ما يجعلها غير صالحة للاستخدام البشري. اشتهر نتيجة لهذه المشكلة وقف بيع حبوب دواء "ريتونافير" (Ritonavir) المخصص لعلاج فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) الذي ذاع صيته في أواخر التسعينيات، بعد سنوات من البحث واستثمار مئات الملايين من الدولارات.
يعتقد المسؤولون التنفيذيون في "فاردا" أن الشركة يمكنها استخدام مختبرات في المدارات الفضائية لبدء تطوير إصدارات جديدة من عديد من الأدوية القديمة على شكل حبوب آمنة وأشكال قابلة للحقن. قال ديليان أسباروهوف، المؤسس المشارك ورئيس "فاردا"، وهو أيضاً مدير رئيسي في "فاوندرز فند" (Founders Fund): "نحن قادرون على إنتاج مواد كيميائية ذات مستوى عالمي. لسنا ننتج مركبات جوية عديمة النفع".
تبديد الشكوك
إن تمكنت "فاردا" من إثبات نجاح أساليبها الأساسية في إطلاقها الأول، فما يزال يتعين عليها تبديد الشكوك حول إمكانية صنع عديد من الأدوية المفيدة في الفضاء والرد على التساؤلات بشأن ما إذا كانت الأدوية التي تُصنّع في الفضاء يمكن إنتاجها بكميات كبيرة في مصانع على الأرض.
قال آرثر بوني، الأستاذ الفخري في جامعة "كارنيغي ميلون" الذي أجرى أبحاثاً في مجال الطيران والأدوية الحيوية: "الإمكانات هائلة، وأنا أعتبرها كما لو كانت زمرداً واعداً في السماء. مع ذلك، فهي مجرد فكرة في الوقت الراهن، إذ إن صناعة الأدوية بحق مجال حافل بالتحديات".
ينطوي المستقبل الذي تقوده "فاردا" على عشرات أو حتى مئات من المنشآت التي تدور حول الأرض، وفي النهاية فهي لا تصنع الأدوية فحسب، بل تصنع أيضاً منتجات أخرى التي قد تستفيد من الجاذبية بقدر شديد التدني. قد يكون لدى الشركة يوماً مركبة فضائية كبيرة بما يكفي لإرسال بشر إلى الفضاء للمساعدة في الإنتاج، كما يقول بروي. أضاف: "الهدف هو إنشاء عملية تصنيع اعتيادية في الفضاء".